المنشورات
الحركة الصهيونية بين الفكر والممارسة
قبل التطرق إلى نشأة الحركة الصهيونية والخطوات التي اتخذتها للوصول إلى تحقيق أهدافها الاستعمارية، لا بد من الإشارة إلى تعريف كل من اليهودية» و والصهيونية، لأن الكثير من المعنيين بالأمر ومنهم عرب أيضا، لا يميز بينهما على الرغم من الفارق الكبير بين الحركتين.
وفاليهودية ديانة مشتقة من البهود،، وهم من سلالة إبراهيم الخليل الذين كانوا يسمون بالعبرانيين ثم بالإسرائيليين، حيث هاجر إبراهيم بجماعته الكلدانية حوالي سنة 1800 ق. م. من جنوب العراق (اور) إلى أرض كنعان، التي كان يفطنها الكنعانيون، وأطلق عليها اسمهم (وهم قبائل عربية هاجرت إلى هذه الأرض من الجزيرة العربية في الألف الثالث قبل الميلاد على أثر موجة القحط والجفاف التي اجتاحت تلك المنطقة في تلك الفترة). ومنذ ذلك الوقت سمي جماعة إبراهيم بالعبرانيين (1). بيد أن المرجح أن تسميتهم بهذا الاسم (العبرانيون) كان نتيجة عودتهم من مصر بعد أن طردهم منها الفرعون رعمسيس الثاني عام 1290 ق. م، عندما عبروا نهر الأردن إلى أرض كنعان، وهذا دليل كاف على أنهم غرباء طارئون على فلسطين؛ حيث دخلوا أريحا ودمروها على من فيها وما فيها انطلاقا من وصية إلههم يهوه لقومه: وإذا دخلت مدينة لا يفتك أن تقتل سكانها بحد السيف، وأن تستأصلهم أطلة الدم، وأن تبيد كل ما يكون في تلك المدينة، وأن تذبح بهائمها (2)
أما والصهيونية، فهي حركة سياسية عنصرية استعمارية استيطانية من مخلفات الفكر الأوروبي القومي التوسعي من نهاية القرن التاسع عشر. وهي مشتقة من كلمة الصهيونه (وهو اسم جبل في القدس) ومعناها الأرض الموعودة أو الأرض المقدسة (؟). وأول مبتدع لكلمة والصهيونية، كان ناثان برنبوم) (1). أما في ما يتعلق بفلسطين، فإنها سميت بهذا الاسم نسبة إلى إحدى قبائل جزيرة كربت، وأهمها قبيلة ابولستي، عندما هاجمتها القبائل اليونانية في أوائل القرن الثاني عشر ق. م. (نحو سنة 1189 ق. م) فهربت هذه القبيلة مع قبائل أخرى غيرها إلى السواحل المصرية حيث تصدى لها فراعنة مصر، فتوجهت إلى الأراضي الساحلية الجنوبية الغربية الأرض کنعان واستولت على غزة وعسقلان واسدود، فاكتسبت هذه الرقعة الساحلية منذ ذلك الوقت اسم فلسطين نسبة إلى هذه القبيلة الأيجية التي حلت فيها (2)
هذا ويصور الصهيونيون عن طريق أجهزة الدعاية ووسائل الإعلام التي يملكونها أن فلسطين هي ملك لهم، وأنها ارض الميعاد، وأنهم شعب الله المختارة، ولا يحق لأي كان الوجود فيها سواهم، بيد أن الوقائع التاريخية تثبت عروبة فلسطين قبل الفتح العربي لها بنحو خمسة وثلاثين قرنا أي منذ سنة 3000 ق. م. عندما وصل الكنعانيون إلى الأرض التي سميت باسمهم فيما بعد (أرض كنعان). وكان الفينيقيون الذين هم فريق من الكنعانيين قد اتخذوا من الساحل الممتد من اللاذقية في الشمال حتى جبل الكرمل في الجنوب مقرا لهم، وبعده بأربعة عشر قرنا، وجميع سكانها عرب أقحاح، وهذا ما يثبت عروبة هذه الأرض على مدى خمسة وأربعين فرنا منواصلة منواصلة
أما الفترة القصيرة التي سيطر فيها العبرانيون على فلسطين، فكانت خلال حكم الملك داوود وابنه سليمان، ولا تتجاوز هذه الفترة السبعين عاما، وذلك عندما تمكن الملك داوود من إقامة منك للعبرانيين في القرن العاشر ق. م ثم خلفه ابنه سليمان الذي يعتبر من أقوى ملوكهم، ورغم قوته وشهرته فإنه تحالف مع الفينيقيين الذين ساعدوه ببناء الهيكل الشهير في القدس. أما من ناحية ثانية، وخلال هذه الفترة من قوة العبرانيين وملوكهم، فقد كانت فلسطين تابعة لمصر وخاضعة لسيطرتها، بدليل أنه عندما تزوج الملك سليمان إحدى أميرات الأسرة المصرية الحاكمة أقطعه فرعون مصر، کصداق لابنته، قرية (الجرار) بجانب مدينة الرملة). وهذه الحادثة شاهد على أن الدولة اليهودية، حتى في أقوى أيامها، أي في عهد سليمان، كانت دولة رمزية، وأن السيادة الحقيقية كانت لمصر، (1). ثم انقسمت مملكة سليمان بعد موته إلى مملكتين: إسرائيل وعاصمتها السامرة، ويهودا وعاصمتها القدس. ولهذا تعتبر مملكتهم حادثة طارئة ليس إلا هذه النظرة الموجزة عن فلسطين، واليهودية والصهيونية، تسمح لنا بالدخول بصورة تفصيلية في الظروف التي أدت إلى نشوء الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، والجذور التي انطلقت منها، والمراحل التي مرت بها، بالإضافة للخطوات السرية والعلنية للدبلوماسية الصهيونية، وتلاقي أهدافها مع أهداف الدول الاستعمارية الأوروبية في تلك الفترة، وصولا للأهداف التي أعلنتها من خلال مذكراتها ومؤتمراتها ومباحثاتها مع المسؤولين الذين كانوا يمتلكون بأيديهم زمام المبادرة والتحكم بمختلف الأمور. فمن الملاحظ، وعلى ضوء الدراسة التاريخية للمراحل التي مر بها الشرق العربي وفلسطين بصورة خاصة، أن هذه المنطقة كانت عرضة لسلسلة متواصلة من الفتوحات، ولاهداف معروفة تماما، عاشت خلالها فلسطين وضعة مميزة، حيث أعطتها الحملات الصليبية، التي قامت في أواخر القرن الحادي عشر، طابع الخصوصية والأهمية أكثر من أية فترة أخرى. وكان تركيز الغرب الاستعماري على فلسطين يتخذ بعدا مهما في إطار النظر إلى اهمية المنطقة العربية من مختلف النواحي التي تتميز
والواقع أن القرن التاسع عشر كان عصر انتصار القوميات في القارة الأوروبية. وكانت عملية التسابق الاستعماري والتكالب المحموم على القارة الإفريقية في هذا القرن نتيجة لبروز العامل القومي والمراهنات على الدور الأكثر قوة وفعالية لدى هذه الأمم التي تؤكد فاعليتها عن طريق اتساع رقعة سيطرتها على المناطق المستعمرة والتابعة. في ضوء ذلك، ونظرا لواقع أن اليهود الذين كانوا يعيشون في هذه المجتمعات الأوروبية، والذين كانت زعاماتهم الدينية والصهيونية، تعتبرهم أرقي وأطهر المخلوقات على وجه الأرض، أرادوا العمل وبشكل مشابه للحمى القومية الأوروبية والسيطرة الاستعمارية، ووجدوا الفرصة ملائمة لتحقيق الحلم الذي راودهم باستمرار في العودة إلى أرض الميعاد، وخلق نومينهم اليهودية، على أرض فلسطين العربية، ولو كان هناك فقدان وانعدام لمعظم العوامل المكونة للقومية انطلاقا من اللغة (7) والأرض والتاريخ المشترك والعادات والتقاليد والاقتصاد والمصير المشترك، خصوصا بعد أن ثبت وبصورة جلية أن العامل الديني - الذي يركز عليه الصهيونيون - لا بشكل عام من عوامل القومية
حتى من هذا المنطلق نرى أن الهوة كانت واسعة تماما بين الاستعمارين، الصهيوني والأوروبي، وإن كان هناك تلاق في الأهداف وتشابه في الأسلوب حيث أن تقليد الصهيونية للاستعمار الأوروبي في إرسال المستعمرين للسيطرة وإقامة جاليات استبطانية تستطيع أن تقيم دولة على مر الزمن تابعة للدولة الأم، كان واقفا على راسه الا على قدميه حيث كان الاستعمار عند الصهيونية أداة لبناء الدولة القومية وليس وليدة القومية قد سلف تحقيقها (8).
وكما أن «إسرائيل» ربيبة الصهيونية، لم يكن وجودها عفوية ووليد الصدفة، كذلك فالحركة الصهيونية. الأم - كانت الأسباب نشونها عوامل عديدة، سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية ودينية، منها ما يتعلق بأوضاع اليهود واليهودية الذاتية خلال تلك الفترة التي كانت بحد ذاتها تتمة لما سبقها من تطور في هذه المجالات خلال القرون السابقة، ومنها ما يتعلق بالأوضاع العامة في البلدان التي كان اليهود يعيشون فيها والتغييرات التي حدثت في أوروبا وروسيا، خصوصا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر (9)، ولولا الجهد المنظم والتخطيط الدقيق والمتواصل الذي بذله قادة الصهيونية بمساعدة المتعاطفين معهم والمناصرين لهم لما توصلوا إلى ما نراه اليوم ونعاني من نتائجه.
وقد برز التخطيط الذكي عند قادة الحركة منذ بداية تكوينها، حيث توهم البعض آن انقسام الحركة الصهيونية بشكل دائم. ومستمر حتى اليوم - إلى اجنحة، هو بداية النهاية لها. بيد أنه في الواقع، ورغم كل الانقسامات والخلافات في وجهات النظر والأراء، بقيت الحركة موحدة وموجهة على أسس ثابتة لأهداف محددة واضحة من قبل قيادة تضع نصب أعينها تحقيق ما رسمنه الثوابت الأساسية لمنطلقاتها ونشأتها. ومن المعروف أنه كان للحركة الصهيونية في سنواتها الأولى نوعان من المناصرين والمؤيدين: الصهيونيون الثقافيون والصهيونيون السياسيون. وقد اهتم الصهيونيون الثقافيون بشكل أولي بإحياء الثقافة العبرية، وبارتباط اليهود بتاريخ فلسطين لغوية ودينية وجنسية. أما الصهيونيون السياسيون فقد عنوا بالمشكلة اليهودية، وكانت فلسطين بالنسبة لهم أفضل الأماكن منطقية لإقامة دولة قومية لليهود. بيد أن بعض الصهيونيين السياسيين الأوائل لم يصر على فلسطين، وهذه حقيقة تظهر أن اهتمامهم بخلق نومية يهودية أعظم بكثير من اهتمامهم بالثقافة اليهودية وبفكرة العودة الخيالية (10).
هذا وتؤكد المجتمعات التي كان اليهود يعيشون بين ظهرانبها، أن عديدين منهم كانوا يفضلون العزلة عن الأخرين والعيش في مجتمعات مغلقة، ويرفضون الاندماج مع السكان المحليين، ويبتعدون عن كل ما يمت للحياة الاجتماعية بصلة، وذلك بسبب ممارستهم لبعض الأعمال والحرف التي كانت تقتصر عليهم دون سواهم في بعض الأحيان. وكانت التجارة والربا محور اهتمام هذا النوع منهم بالإضافة للنظرة الاستعلائية التي كان هؤلاء. وما زالوا ينظرون بها إلى سائر البشر، منطلقين من إدعائهم أنهم اشعب الله المختار، وأن الله لهم وحدهم دون الآخرين، والاضطهادات التي عانى منها يهود في المجتمعات الغربية، كان يقابلها في المجتمع العربي نسامح واسع، ومعاملتهم على قدم المساواة مع المواطنين العرب دون أي تمييز. وفي الوقت الذي نشات فيه والحركة اللاسامية في ألمانيا في باديء الأمر، لتضطهد اليهود باسم العنصرية لا الدين، ثم انتشرت في الأنطار الأوروبية، وبلغت هذه الاضطهادات الذروة في روسيا وبولونيا، مما أدى إلى مذابح كثيرة كان لها الأثر الكبير في تأسيس الجمعيات والمنظمات الصهيونية التي مثلت بذور الحركة الصهيونية فيما بعد، فقد كان للعرب دورهم الكبير في العطف على اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها بينهم، كما عطفوا على من وفد منهم إلى فلسطين مشکلا الدفعة الأولى من طلائع الصهيونية قبل أن تتخذ الهجرة اليهودية طابع التنظيم الدقيق بعد أول مؤتمر صهيوني في بال في سويسرا عام 1897 بزعامة تيودور هرتسل.
ولكن ظهور الحركة اللاسامية، كان نتيجة لأسباب متعددة تعود بشكل اساسي للتقدم الذي أحرزه اليهود والسيطرة على كثير من نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية خصوصا، بعد الثورة الأميركية والثورة الفرنسية. ويلاحظ من مختلف نشاطات اليهود وأوضاعهم في أوروبا، خلال هذه الفترة، خصوصا في فرنسا والمانيا وبريطانيا، أنهم كانوا قد وصلوا، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، بعد أن منحت لهم الحقوق المدنية، إلى مرحلة متقدمة من الاندماج بالشعوب التي يعيشون بينها، واعتبار أنفسهم جزءا منها، بعد أن انغمس الكثيرون منهم في الحياة السياسية فيها (11). كما كان للحركة اللاسامية تأثير كبير في صهيئة عدد كبير من قادة الحركة الصهيونية الذين كانوا من دعاة الاندماج، ومنهم هرتسل الذي أعلن أن اليهود يحملون اللاسامية معهم اينما ذهبوا. والمعروف أن فترة الاضطهادات التي تعرض لها اليهود لم تقتصر عليهم فقط، بل هناك الكثير من الطوائف المسيحية التي تعرضت لاضطهادات مماثلة إن لم يكن أكثر قسوة ووحشية، كما تعرضت طبقات اجتماعية أيضا لأنواع مختلفة من العذاب، ومحاكم التفتيش الإسبانية ونظائعها تمثل شاهدا كبيرا على تلك الأعمال والممارسات. ولكن الجدير ذكره أن دعاة الانعزال بين اليهود برعوا في فن الدعاية والإعلام، وأظهروا أن هذا الاضطهاد كان مقصورة عليهم وذلك من أجل إثارة الشفقة والرحمة. كما لم يكن هذا الاضطهاد بسبب الانتماء الديني، لان احداث التاريخ تبرهن بوضوح أن معظم الصراعات. حتى الدينية منها. كانت تقوم على اساس التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وقد كان هذا الاضطهاد نتيجة الامتيازات الاقتصادية التي تمتع بها عدد من اليهود في المجتمعات الأوروبية، والتي انعكست بدورها على مركزهم الاجتماعي والسياسي والثقافي، مما كان له أكبر الأثر على الفئات المسيحية في هذه المجتمعات. ونذكر على سبيل المثال كيف كان وضع اليهود في روسيا حيث كانت أكثريتهم تعيش على التجارة والحرف واستئجار المزارع والحانات والمطاعم والفنادق وتشغيلها بحيث كانوا حلقة الوصل بين الإقطاعيين الروس أو البولونيين وبين الفلاحين، (12). و فالانغلاق النفسي والجغرافي، ورفض اندماج اليهود في المجتمعات التي كانوا يعيشون فيها بالرغم من افتقارهم للعوامل الأساسية المكونة للقومية، جعل بعض غلاتهم المتعصبين يستنجدون بعرقيتهم، لإثبات وجود قومية لهم: «يقولون لنا إن العاطفة القومية هي التي تمنع اليهود من الاندماج، ولكن ما هي هذه العاطفة القومية، أي نوع غريب من القوميات هي قوميتنا غير الحية، والتي لا تموت، أين تقع مكامن قوتها، نحن لا نملك بلدة، وليست لنا لغة قومية حية بل عدد من اللغات التي نقلناها عن الآخرين، أما ديننا فيسير نحو الزوال، وهناك كثير من المتدينين؟ الجواب أن هناك قوة أساسية في داخل كل منا تناضل من أجل بقائها، ونحاول أن تحقق نفسها، هذه القوة هي انتماؤنا العرقي، (13).
ويضيف أحد المفكرين الصهيونيين عامة آخر إلى عوامل والقومية اليهودية حيث يقول: إن ثمة واقعة هو كون الشعب اليهودي قد وعى وجوده كشعب طيلة العهود التي مرت على وجوده التاريخي تقريبأ (19). ويضيف مفکر صهيوني آخر إلى عوامل القومية عاملا آخر هو عامل القيم، حيث يقول: «إن ما حافظ على وحدة اليهود جملة من القيم التي ارتبط اليهود بها بقوة، الرعي اليهودي، وتصورهم الأنفسهم، ومكانهم في حفظ الله (19).
على هذا الأساس فالقومية اليهودية، إذن تتلخص عواملها بنقاط أربع: 1. العاطفة القومية؛ 2 - الانتماء العرني؛ 3 - الوعي اليهودي؛ 4 - القيم اليهودية. وهذه العظمة التي يتبجح بها الصهيونيون، والتفوق الروحي لا يقتصر فقط على الفكر الفلسفي الصهيوني بل إن سياسيا كبيرا کشمعون بيريز يدعي أن انتصار اليهود ليس نتيجة تفوق عسكري وحسب بل هو نتيجة تفوق أخلاني أيضا (19). وقد فرضت على اليهود في بعض الدول أنماط قانونية تلائم نزعة الانغلاق، وذلك عن طريق اسوار والغيتوه والحياة الخاصة في داخلها، ومن هنا كانت مدينة البندقية في إيطاليا، التي لم تكن خاضعة لسلطة البابوات، أول من أدخل نظام الغيتو في حياة اليهود، عندما أصدر مجلس المدينة سنة 1916، أمرا أجبر بموجبه اليهود في المدينة على السكن في حي مغلق خاص بهم، (17). ولكن هذا النظام والقانوني، و والإجباري، كان خدمة کبري لليهود، وتجسيدا وتكريسا لما يؤمن به دعاة الانعزال حول رفضهم الاندماج بالشعوب التي كانوا يعيشون بينها، بيد أن الأخرين الذين فرضوا عليهم نظام الغيتو كانوا يعتقدون بأنهم يفيدون حرية اليهود ويقدمون خدمة جلى للمسيحية والكنيسة لكن النتيجة كانت عكس ما اعتقده هؤلاء وكأنهم كانوا يعملون معا يدا بيد من أجل المعتقدات اليهودية وتحقيق أهدافها.
ولم يقتصر نظام الغيتو على إيطاليا وحدها، بل تعداه ليشمل مدنا في مناطق أخرى. حيث أنه بعد مئة عام على إقامة أول غيتو يهودي في البندقية، اقيم غيتو آخر في سنة 1916 في مدينة فرانكفورت (حيث فرض نظام الغيتو على اليهود في المدينة المذكورة بناء على اتفاق خاص بذلك بين مجلس المدينة وسكانها اليهود .. أما في سنة 1124 فقد فرض هذا النظام أيضا في مدينة فيينا، ولكن هذه المرة بناء على طلب اليهود أنفسهم، (18)، ومما يجب ذكره في هذا المجال، دور الحركة الاندماجية اليهودية أو ما كان يطلق عليها اسم هسکالا Haskalah أي حركة التنور. وقد دعت هذه الحركة لاندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها، والقضاء على تميزهم واستعلاثهم، بيد أن الأحداث المتتابعة وفقدان الأمل بقيام مجتمعات أوروبية تحررية عادلة قادرة على استيعاب اليهود اقتصاديا وسياسية واجتماعية، أديا، في النهاية، إلى عجز حركة مسكالا وانتصار دعاة الانغلاق والتعصب العرقي، وتشجيع المتمولين اليهود على الهجرة خارج حدود القارة الأوروبية خوفا من المنافسية البرجوازية على الصعيد الأوروبي الذي اتخذ من الجاليات اليهودية أداة رئيسية في مساعدة الاستعمار الأوروبي خارج نطاق القارة، وهذا ما حدث مثلا أثناء حملة نابوليون على الشرق عام 1798، عندما دعا اليهود لمساعدته مقابل إعادتهم إلى القدس وإعادة بناء هيكل سليمان، وقد وقفوا إلى جانبه، وكان انهيار الحركة الاندماجية (هسکالا) بشكل كامل بعد عملية اغتيال القيصر الروسي الكسندر الثاني عام 1881 والمجازر التي ارتكبت بحق اليهود، حيث كان من نتيجتها نيام منظمات وجمعيات صهيونية مكانها كان أولها
جمعية أحباء صهيون، والثانية ابيلو، ومعناها رجوع أهل يعقوب إلى فلسطين. وكانت. المهام الرئيسية لهاتين الجمعينين إحياء اللغة العبرية، وشراء الأراضي في فلسطين، وتدريب الشباب اليهودي وتهجيره إليها. وتعتبر هذه البذور السياسية الأولى للحركة الصهيونية، وتمكنت الجمعينان من إنشاء المستعمرات الزراعية في فلسطين للمهاجرين اليهود، وكان أولها مستعمرة ريشرن لزبون (Richon le Zion) قرب يافا عام 1882 (19).
هذا وقد ساهم كثير من المتمولين اليهود في تهجير اليهود إلى فلسطين من اجل الاستبطان والاستعمار. وكانت أسرة البارون روتشيلد من اكبر الأسر التي لعبت دورة في هذا المجال، إلا أن هذه العمليات والتهجيرية، بقيت دون المستوى المطلوب لأنها لم تأخذ بعدة منظمة وتخطيطة دقيقة، ولم تف، بالتالي، بما هو مطلوب. وهذا ما أخذه هرتسل على عاتقه منذ عام 1897، وذلك بإجراء التغيير الجذري في الاستراتيجية الصهيونية بعد فشل المجهود الأول لزرع جالية من المستوطنين الصهيونيين في فلسطين في السنوات الخمس عشرة الأولى من الاستعمار الصهيوني (1897 - 1882) والاستعاضة عن ذلك ببرنامج نومي منظم قادر على إحراز النتائج المرجوة. مؤتمر بسال 1897:
قبل انعقاد هذا المؤتمر، الذي يعتبر حجر الأساس في البناء الصهيوني، كان البعض المعطيات دورها الكبير في عنده. فقد ساهم الثري اليهودي موسي مونتفيوري
في عام 1830 في إنشاء أول مدرسة في فلسطين، وشجع الهجرة اليهودية إليها، كما وحصل من السلطان عبد المجيد العثماني على فرمان - مرسوم. يسمح له بشراء الأراضي في يافا والقدس. فاشترى الأرض القائمة حاليا، فوق بركة السلطان سليمان القانوني في القدس سنة 1894، وقد أقيم عليها حي يهودي، ما زال حتى هذا اليوم،
بحي مونتفيوري. كما أنه بذل قصارى جهده في إقناع اليهود القاطنين في يعرف فلسطين آنذاك بأن يتحولوا إلى فلاحين. ومن أجل هذه الغاية أنشا اول بيارة برتقال يهودية بالقرب من يافا سنة 1859. كما أنه تعهد بدفع نفقات كل يهودي برغب في الهجرة إلى فلسطين بقصد الاستبطان (20)
ويبدو أن الاهتمام بالأرض والزراعة والمشروعات الزراعية كان بأخذ القسط الأكبر من التوجهات الصهيونية الاستعمار فلسطين واستيطانها. ففي عام 1860 أيضا تأسست في فرنسا حركة الاتحاد الإسرائيلي العالمي، الأليانس Alliance، ظاهرها رفع المستوى المعنوي والثقافي لليهود وخصوصا في الشرق وشمالي إفريقيا. وأبدت فرنسا عطفا ظاهرة على هذه الحركة ودعمنها بقوة حتى استطاعت شراء بعض الأراضي في فلسطين وإقامة بعض المشروعات عليها، كما أنشأت أول مدرسة زراعية في فلسطين
مکنا إسرائيل، التي لا تبعد عن مدينة بانا أكثر من أربعة كيلومترات (21). مي
وكما لعب الاهتمام بالزراعة دوره على هذا الصعيد؛ كان للاهتمام بالعمل
والروحي والسياسي دوره أيضا. وبرزت الصهيونية الروحية ممثلة بزعيمها الثقافي الأوكراني أشرغنز برغ المعروف ب أحدها عام، (ومعناه أحد من العامة)؛ وأسس نادي بني موسي لتدريب الشباب اليهودي وتعويدهم على القتال وسفك الدماء. ويعتبر أحدها عام الأستاذ الروحي لوايزمن. كما كان للكتاب الذي ألفه البارون دي هيرش الألماني بعنوان اروما واورشليم، دوره أيضا، وهو الذي أسس جمعية الاستعمار اليهودي في لندن. لكن الضجة الكبرى ثارت بعد صدور كتاب ليون بنسكر عام 1882 بعنوان والتحرر الذاتي، حيث كان بمثابة أول داع إلى إقامة وطن قومي لليهود دون التشبث ببقعة معينة لهذا الوطن، بعد أن كان بنسكر في مطلع شبابه من أكبر الداعين إلى اندماج اليهود في أوطانهم، وتخلى عن ذلك بعد مجازر روسيا عام 1881. ثم كان کتاب هرتسل «الدولة اليهودية، قبل عام 1897 بمثابة ميلاد الحركة الصهيونية
وكما كان بنسكر في البدء من دعاة الاندماج، فقد كان هرتسل أيضا من الذين نادرا باندماج البهود مع غيرهم من المواطنين، معتقدا أن هذا العمل هو السبيل الوحيد للقضاء على ما كانوا يلقونه من اضطهاد. وبلغت به فكرة الاندماج حدة جعلته ينادي، كحل جذري للمشكلة، بأن يتنظر اليهود. كما بلغ به الخيال درجة جعلته يتمني اخذ أطفال اليهود إلى روما، لتعميدهم في الكنيسة بين يدي البابا، وجعلهم مسيحيين. وفي هذا وضع حد للحياة اليهودية، وبالنسبة للاجيال القادمة (22). لكن محاكمة الضابط اليهودي الفرنسي دريفوس بعد أن باع أسرارة عسكرية لألمانيا، نقلت هرتسل من يهودي اندماجي إلى صهيوني. وبقي هرتسل بعمل جاهدا من أجل نقل نشاطه إلى الواقع العملي، حيث تمكن في شهر آب 1897 من عند أول مؤتمر صهيوني في بال في سويسرا، وحدد في خطاب الافتتاح غاية المؤتمر قائلا: «نحن هنا لنرسي حجر الأساس للبيت الذي سوف باري الأمة اليهودية، كما تضمن البرنامج الذي اقترحه ثلاث نقاط أساسية: ا- إيجاد استعمار يهودي لفلسطين، منظم وعلى نطاق واسع. 2. الحصول على حق شرعي، معترف به دوليا لاستعمار فلسطين. 3 - إنشاء منظمة دائمة لتوحد جميع اليهود من أجل قضية الصهيونية (23).
ونظرا لكثافة الحضور في هذا المؤتمر كمندوبين عن المنظمات والجمعيات الصهيونية من مختلف مناطق العالم، والذين بلغ عددهم حوالي 4
20 مندوبين، فقد برز هرتسل كشخصية فاعلة لها وزنها من خلال التنظيم الدقيق والتخطيط الواعي المستقبل اليهود في دولة خاصة بهم تخلصهم من الاضطهاد وتضفي عليهم طابعة قومية عنصرية. وخير دليل على تخطيطه المنظم ما ذكره في مذكراته في أعقاب انتهاء المؤتمر قائلا: «لو أردت أن أختصر مؤتمر بال في كلمة واحدة - وهذا ما لن أفعله صراحة. لقلت: في بال اسست الدولة الصهيونية. ولو أعلنت ذلك اليوم لقابلني العالم بالسخرية والنهكم. ولكن بعد خمس سنوات على وجه الاحتمال، وبعد خمسين سنة على وجه التأكيد سيرى هذه الدولة جميع الناس (29). وقد رأينا قيام دولة إسرائيل بعد واحد وخمسين عاما على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول وذلك عام
1948
وهكذا أوجد مؤتمر بال الصهيونية كحركة سياسية، مثلما أوجد المنظمة الصهيونية على الصعيد العالمي، كما خرج المؤتمر بهدف واضح وصريح يتلخص غرضه النهائي بالتالي «إن هدف الصهيونية هو خلق وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام (20). بالإضافة لكل ذلك، فقد برزت الصهيونية إلى الوجود بشكلها العنصري الاستعماري واضعة نصب مخططاتها اقتلاع شعب فلسطين من ارضه، وتشريده إلى خارج حدوده، مقابل اقتلاع جذور يهود العالم من مجتمعاتهم الموجودين فيها ونهجيرهم إلى فلسطين لإقامة دولتهم القومية اليهودية فيها، وتحويل المضطهدين اليهود إلى مضطهدين بحق شعب فلسطين مع تحميله مسؤولية اضطهادهم من قبل الذين لا بمئون بصلة إلى هذا الشعب. كما توضحت أيضأ طبيعة العلاقة بين الصهيونية والاستعمار کتوأمين متلازمين بالإضافة لرعاية الدول الاستعمارية لهذا المولود الجديد، لأنه يحقق أهدافها ويحافظ على مصالحها وامتيازاتها في المنطقة التي تعتبرها منطقة نفوذ لها بسبب ما تذخر من خيرات وثروات تشكل عصب حياة هذه الدول وشريانها الحيوي، كما تساهم أيضا في تشديد قبضتها على مستعمرات جديدة ومناطق تابعة.
ورغم ذلك التوافق والتطابق في الأهداف بين الاستعمارين، فقد تميز الاستعمار الصهيوني لفلسطين، وعلى ضوء مؤتمر بال، بثلاث سمات بارزة (29): ا. بينما كانت دوافع المستعمرين الأوروبيين قائمة على أساس اقتصادي او سياسي
امبريالي بضم المناطق التابعة والمستعمرة إلى الحكومات الأوروبية الاستعمارية، كان المستعمرون الصهيونيون ينطلقون بدافع الحصول على وطن خاص بهم، وإقامة دولة يهودية مستقلة عن أية حكومة قائمة، غير خاضعة لأحد، تجتذب
جميع يهود العالم إلى أراضيها مع مرور الزمن. 2. تعايش المستعمرون الأوروبيون مع السكان الأصليين رغم استغلالهم لهم ونهب
ثروات أرضهم، بيد أن الاستعمار الصهيوني لم يستسغ فكرة التعايش انطلاقا من العنصرية المتأصلة فيه، ولهذا تناقض تناقضا أساسيا مع الوجود المستمر للسكان
الأصليين في الأرض المنشودة، وكانت عملية التهويد، وما زالت. 3. كان المستعمرون الأوروبيون يعتمدون على دعم حماتهم الامبرياليين في دولهم
الام، بيد أن المستعمرين الصهيونيين لم يتوفر لهم هذا العامل حيث كانوا اراضيها بقصد إنشاء دولة مستقلة.
ويبدو أن ملاحقة اليهود واضطهادهم وتقصي أخبارهم لم تتوقف في روسيا بعد عملية اغتيال القيصر الكسندر الثاني عام 1881 وحملة الاضطهاد والاغتيال التي تعرضوا لها على ايدي القيصر الكسندر الثالث. وقد جاءت نشأة الحركة الصهيونية کحركة سياسية عنصرية توسعية مترافقة مع بلوغ الثورة الصناعية التي شهدت في أوروبا ذروة التطور، حيث يستلزم ذلك توفر الأسواق الاستهلاكية لتصريف البضائع والصناعات الرأسمالية، وكانت حمى المزاحمة والمنافسة الاستعمارية نتيجة حتمية لذلك. كما نرى نشأة هذه الحركة وتكوينها ركايديولوجية ومنظمة في أواخر القرن التاسع عشر، في عهد المعارك الطبقية الضارية للبروليتاريا العالمية، في مرحلة انتهاء عملية تحول الرأسمالية إلى امبريالية (27).
وعلى هذا الأساس، أشار فلاديمير ايليتش لينين في مرحلة قيام المنظمة الصهيونية العالمية إلى أن الصهيونية تشكل نيارة رجعية للبرجوازية اليهودية (28). ورغم إعطاء الجهود التنظيمية مرتبة الصدارة في هذا المؤتمر، فقد كان العمل لتحضير الأدوات الاستعمارية يوازي هذه الجهود ويقف معها جنبا إلى جنب لإنجاز ما اقر، تحقيقا للأهداف المرسومة التي اتفق عليها واقرت بالإجماع تقريبا. وهكذا برز
المصرف اليهودي للمستعمرات في عام 1898 ء إلى الوجود، و «لجنة الاستعمار، أيضا في العام نفسه، و «الصندوق القومي اليهودي 1901» و «مکتب فلسطين 1908 و اشركة تطوير اراضي فلسطين 1908،، في طليعة المؤسسات التي أنشأتها المنظمة الصهيونية. وقد قامت هذه المؤسسات بمهمنها الاستعمارية خير قيام محققة نتائج جيدة على طريق الاستيطان الصهيوني لفلسطين العربية و في هذا الوقت، كانت الجهود الدبلوماسية الصهيونية تسير متوازية مع تحضير هذه الأدوات، لان الصهيونيين كانوا يدركون جيدا أنه ليس بالسلاح وحده تتم إبادة الوطن الفلسطيني وتحويل اليهودي إلى أداة قمع (20). ولهذا اتقنوا جميع أنواع الأسلحة، السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، وبرعوا في استخدام العنف والإجرام مما يتنافى مع حديث شمعون بيريز عن تفوقهم العسكري والأخلاقي.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
1 أبريل 2024
تعليقات (0)