المنشورات
التغلغل الأوروبي في الامبراطورية العثمانية:
إن تاريخ الأطماع الأوروبية في المنطقة، تاريخ طويل، يتخذ من الحروب الصليبية جذورة أصلية له. وبالرغم من الهزائم الساحقة التي تعرض لها الصليبيون، وأجبرتهم في النهاية على الإجلاء عن الشرق، إلا أنه بقي في صلب مخططاتهم مطمعا وهدفة بوجب تحقيقه.
وشکل بروز العثمانيين بقوتهم التي تميزوا بها، وأخضعوا بواسطتها شعوبة ومساحات اوروبية واسعة، عقبة كبرى أمام أوروبا في إعادة أمجاد والأسلاف العظام و تاريخهم المجيد، في الحروب وتأسيس الإمارات. لم يكن أمام الدول الأوروبية إزاء هذا الوضع إلا التقرب من السلطنة ومراوغتها للحصول على ما عجزت عن تحقيقه بالقوة: فكان نظام الامتيازات الأجنبية
تمكن الأوروبيون عبر هذا النظام من النفاذ إلى جميع المرافق الحيوية في السلطنة والتغلغل من خلاله إلى ما يضمن سيطرتهم وتفوقهم مقابل الضعف العثماني وانهياره. وانطلاقا من ذلك ذهب كل من کارل مارکس وفريدريك انجلز إلى مقارنة تركيا في تلك الفترة ب «جثة حصان قد تعفنت ودب فيها الفساد، فانتشر منها ما فيه الكفاية من غاز المستنقعات وغيره من المواد والعطرية، الغازية (7).
بلغ التنافس الأوروبي على هذه المنطقة ذروته القصوى في أواخر القرن التاسع عشر، حتى أصبحت قضية البلاد العربية حلقة هامة من السلسلة التي أطلق عليها اسم
المسألة الشرقية، التي تعني في حقيقة أمرها مسالة اقتسام الممتلكات التابعة للسلطنة العثمانية. وهذا ما دفع بالمؤرخ سناطع الحصري إلى القول بأن البلاد العربية التابعة للدولة العثمانية، كانت من أهم دواعي هذه المنافسات، ومن اثمن بضائع تلك المساومات (8).
كانت فرنسا في طليعة الدول الأوروبية التي تعاملت مع العثمانيين سياسية في باديء الأمر، ووقعت معهم اول معاهدة لها وزنها وفعاليتها في نظام الامتيازات عام 1030؛ كما احتلت الموقع ذاته على الصعيد العسكري بإرسال حملتها العسكرية على مصر بقيادة نابوليون بونابرت في عام 1798، فاحتلها وتابع سيره نحو عكا، حيث عجز عن إخضاعها واقتحام أسوارها، معلنا فشله وخيبة أمله بعد أن صرح قائلا: الو فتحت عكا لافتتحت الشرق». وهذا دليل واضح على الأهمية الاستراتيجية التي تحتلها هذه المنطقة من ناحية، كما تعطي صورة واضحة عن الهدف الفرنسي بالذات من ناحية أخرى. إذ من المعلوم أن نابوليون بونابرت، حينما احتل مصر سنة 1798، كان ينوي اتخاذها قاعدة الحركات عسكرية واسعة النطاق، تستهدف في حقيقة الأمر الاستيلاء على الهند (ه).
لقد كانت هذه الحملة بمثابة التهديد المباشر والتحدي العلني لبريطانيا ومصالحها في المنطقة، وعلى هذا الأساس لم تقف مكتوفة الأيدي؛ وسارعت بردها العسكري عن طريق أسطولها البحري، لتنزل بالأسطول الفرنسي ضربة كبيرة في معركة البي قيرا، فقد كانت الهند دة التاج البريطاني نظرا لأهمينها البشرية والاقتصادية بالنسبة لانكلترا، والحق أن الهند كانت امبراطورية بذاتها، وكانت الملكة فيكتوريا تلقب بامبراطورة الهند، وليس من الإسراف بشيء إذا قلنا إن الدوافع الرئيسية في كل نشاط كانت بريطانيا تقوم به في منطقة الشرق الأدنى والأوسط، وفي كل نفوذ كانت تحاول بسطه في هذه المنطقة، كانت تنبع بشكل ما من مصالحها في الهند (10). وبما أن مصر كانت الحلقة الأساسية التي تربطها مع أهم مستعمرة لها في الشرق، فقد وضعت بريطانيا عملية احتلالها وإخضاعها في جدول الأولويات، في الوقت الذي توفر فيه عدد من الاعتبارات لعب دوره الأساسي في الاستراتيجية البريطانية، وكان أهم عامل له الأثر الحاسم في قرار بريطانيا على احتلال مصر هو فتح قناة السويس سنة 1899 التي كانت السيطرة عليها أمرا حيوية لحماية الهند» (11) إذ كانت السويس، كما هو معلوم، بمثابة العمود الفقري للمواصلات البريطانية» (12). وقد كان الكولونيل تشرشل مدركة لابعاد هذه الأهمية التي تتمتع بها مصر خصوصا، عندما كتب في منتصف القرن التاسع عشر يقول: « ... إذا كانت بريطانيا ترغب في الحفاظ على سيطرتها في الشرق ينبغي لها بشكل أو بآخر، أن تدخل سوريا ومصر في نطاق نفوذها وسيطرته ... (13). وبالفعل، فقد أقدمت الامبراطورية البريطانية على احتلال مصر عام 1882، بعد إقدام فرنسا على احتلال تونس في عام 1881.
وكذلك الحال بالنسبة لروسيا التي كان لها أطماعها الخاصة في السلطنة، انطلاقا من الدردنيل والبوسفور وضرورة السيطرة على المياه الدافئة؛ هذا في الوقت
كانت فيه دولة أوروبية فنية تدخل معترك التسابق الاستعماري من الباب الذي الاقتصادي الواسع، مما أثار كثيرا من المخاوف لدى الدول الغربية الأخرى. وكانت هذه الدولة في ألمانيا. وقد ورد في تقرير ألماني رسمي رفع إلى غليوم الثاني عام 1888، ما يلي: ما يزال الشرق المنطقة الوحيدة البعيدة عن سيطرة الدول الأوروبية المباشرة ... وإمكاناته الاقتصادية والبشرية من السعة بحيث تجعله حفلا مثالية للاستعمار الألماني، لذا وجب أن نجد للسيطرة عليه قبل أن تمند إليه يد الغير ... وعلينا ضمانا للنجاح أن نتقرب من الشعوب التركية والعربية، وأن يكون فتحنا لهذه البلاد فتحة أدبية واقتصاديا يصون مصالحنا بصورة أكيدة وسليمة (11)
وقد ساعد وجود الامبراطور غليوم الثاني على عرش المانيا منذ عام 1888، في تنمية العلاقات الودية مع تركيا وتقويتها، مما أدى إلى تعزيز المخاوف الأوروبية في وجه هذا التحالف الخطر. ولقد ظهر أثر النفوذ الألماني في استانبول في اتجاهين
التركي على أيدي ضباط المان - وفي نفاذ ألمانيا تجاريا إلى - في إعادة تنظيم الجيش آسيا الصغرى. ولكن هذا الأثر الألماني بلغ الذروة بعد اتفاقية بغداد السرية التي عقدها السير أدوارد غراي مع ألمانيا سنة 1913.1914، والتي لم يكن ينقصها سوي التوقيع النهائي عندما نشبت الحرب العالمية الأولى. ومن حسن طالع ألمانيا أن كان لديها إثنان من أبرز دبلوماسييها في الشرق الأدنى، وهما الماريشال فون در غولتس باشا الذي كان المستشار العسكري لدى الأتراك، والبارون مارشال فون بيبرشتين الذي كان يرئس السفارة الألمانية لمدة عشرين سنة في استانبول (1).
ولعل بعض التصريحات الألمانية التي ارتفعت بعد زيارة الامبراطور غليوم الثاني للمنطقة، ودمشق خاصة، في عام 1889، لعبت دورها الأساسي في تركيز الجهود الأوروبية لوضع حد للتغلغل الألماني في السلطنة. ونظرا للنجاح الذي أحرزته هذه الزيارة هتف زعيم الاتحاد الجرماني الشامل، الأستاذ هاس (Hassc) قائلا في مجلته ما يلي: رهيا إلى الأمام، إلى نهر الفرات وإلى نهر دجلة، وإلى الخليج الفارسي. هيا بنا نستولي على طريق الهند البرية، تلك الطريق التي ينبغي أن تكون تحت سيطرة من ينبغي أن تكون له. تحت سيطرة الشعب الألماني الذي يبتهج بالحرب ويفرح في الكفاح» (19).
ومجمل القول إن بلاد الشام كانت تتعرض لاستعمار اقتصادي، وتسرب الأموال الأوروبية إليها، لا سيما الفرنسية والبريطانية والألمانية، وكان سباسيو و اقتصاديو الدول الأوروبية قد استغلوا حركة الاستغراب - أي الأخذ من الثقافة الأوروبية - التي قام بها والي مصر محمد علي باشا، وزاد هذا الاستغلال بعد صلح باريس عام 1809، حين تأسست المصارف والبيوتات المالية في مدن الشام الرئيسية. وشهدت بلاد الشام سي هائلا من بعثات التبشير والبعثات المستغلة لحركة التبشير، وقد لعبت هذه البعثات دورا سياسية أكثر منه دينية. وكان ذلك مظهرا من مظاهر التنافس الدولي على المنطقة يتخذ حينا شكل الدين، وحينا آخر شكل المساعدة ولكن جوهر المنافسة كان عسكرية وسياسية واقتصادية، حتى اضطرت البعثات الأمريكية والإنجليزية إلى إبرام اتفاق بينها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر - 1801 - لاقتسام مناطق العمل، فتخصص الإنكليز في فلسطين، بينما ركز الأمريكيون جهودهم على لبنان. والواقع أن صلح باريس عام 1809 كان فاتحة لتحويل الدولة العثمانية وممتلكاتها العربية إلى شبه مستعمرة للرأسمال الأجنبي (17).
ومما يجدر ذكره في هذا المجال، أن النصف الأول من القرن التاسع عشر تميز بعملية التوسع التجاري بين أوروبا والدولة العثمانية، فيما يتعلق بالمنطقة العربية على وجه الخصوص. وقد تضاعفت التجارة الأوروبية مع تركيا ثلاث مرات من الثلاثينات إلى الأربعينات، وبداية تشكيل مصر سوقا مهمة لأوروبا منذ أواخر الأربعينات وبدء التجارة مع سوريا منذ الثلاثينات، مع تحقيق بريطانيا الحصة الأساسية من مغانم هذا التوسع. كما ظهرت معالم الدعم المؤسسي لتوسع التجارة في خلق وسطاء محليين للتجارة الأوروبية، وفي تطوير المواصلات البحرية، وفي استبدال المجالس المشكلة من تجار محليين والاستعاضة عنها بمحاكم مختلطة تشمل تمثيلا أوروبية أقوى المعالجة القضايا التجارية العالقة ... وفي عقد اتفاقات تجارية بين الدولة العثمانية والدول الأوروبية لصالح هذه الأخيرة (18). وكان لهذه المعاهدات التجارية أثرها الكبير وانعكاساتها الخطيرة على مجمل الاقتصاد العثماني، وعرقلة مسيرته التطورية على الصعيد الصناعي خصوصا. وهذا ما حدا بالمستشرق الفرنسي الكبير مکسيم رودنسون إلى القول بأن هذه المعاهدات وكانت نقطع الطريق مسبقة على أية محاولة محتملة البناء صناعة عثمانية (19). إزاء هذا الوضع، برزت تطورات كبيرة تناولت بمجملها قضايا السلطنة من جميع جوانبها بعد التغلغل الجديد الذي اتخذ وجها آخر ليحكم قبضة سيطرته اكثر على القرار السياسي العثماني. ومثلت الفترة الممتدة بين عامي 1800 و 1881 مرحلة خطيرة فيما يتعلق بالامبراطورية العثمانية. إذ أن هذه الفترة تعتبر فترة انتقال التغلغل الاقتصادي الأوروبي من مستواه التجاري إلى مستواه المالي ومن ثم إلى المستوى السياسي وسيطرته شبه التامة على الوضع الاقتصادي للمنطقة .. وكان اللديون، دورها في عملية التوسع التجاري الأوروبي وفي تثبيت السيطرة الأوروبية على اقتصاد المنطقة (20). وكان استمرار التدهور في الوضع المالي من أهم أسباب الضعف الذي ابتليت به الامبراطورية العثمانية، حيث سارت في طريق خطر تمثل في أخذ القروض من أصحاب المصارف الأوروبية، وتضخيم نقدها الورقي، مما أوقعها فريسة في يد هؤلاء بعد عجزها عن تسديد ديونها هذه، عين على أثرها لجنة مالية دولية كانت بمثابة اعتراف بمبدأ الإشراف الأجنبي على مالية الدولة العثمانية (21)
في هذه الفترة، برزت على المسرح قوة جديدة، تمثلت بالحركة الصهيونية و التي كانت في طور التكوين الفكري قبل
مؤتمر بال 1897، وانتقلت للشكل التنظيمي بعد هذا المؤتمر.
وقد لعبت ظروف أوروبا السياسية والاقتصادية والاجتماعية دورا بارزا في تشكيل نواة الحركة الصهيونية حيث كان يعيش عدد كبير من اليهود. وقد نوضحت طبيعة العلاقة بين الصهيونية والاستعمار کتوأمين متلازمين بالإضافة لرعاية الدول الاستعمارية لها ودعمها بقوة.
ونتيجة لهذه العلاقة الوثيقة بين أوروبا والحركة الصهيونية، فقد كان قادة الصهاينة يدركون تماما خطورة الأزمة المالية التي تعيشها الامبراطورية العثمانية، وانعكاساتها على صعيد الوضع الداخلي العام في السلطنة، كما كان مؤلاء بدرکون أهمية القوة المالية وسيطرة الذهب في مثل هذه الحالات. وهكذا ففي عام 1899 وألقى الحاخام رابخونه خطابا في مقبرة اليهود بمدينة براغ عاصمة تشيكوسلوفاكيا تأبينا الكبير الحاخامين اسيمئون بن بهودا عدد فيه الأساليب الواجب إتباعها على بني قومه ومنها ضرورة السيطرة على القوة المالية والذهب لأن عن طريقه يمكن التحكم في الدول التي تطلب القروض المالية ... وعندما يقعون في عجز مالي سيضطرون إلى الاستدانة ... وسيؤدي هذا إلى ارتمائهم في أحضان الرساميل اليهودية» (22).
وعندما كان هدف الحركة الصهيونية، انطلاقا من مؤتمر بال، إنشاء «وطن قومي لليهود في فلسطين، في الوقت الذي كانت فيه هذه الأخيرة خاضعة لسيطرة العثمانيين، فقد صمم تيودور هرتزل - مؤسس الحركة الصهيونية - على الاتصال المباشر مع السلطان العثماني عبد الحميد الثاني للحصول على موافقته بشأن الهجرة اليهودية إليها وأخذ الضمانات القانونية بما يمنح اليهود استقلاة ذاتية فيها. وقد تمكن هرتزل من الاجتماع بالسلطان في عامي 1901 و 1902، عارضا عليه المساعدة المالية اليهودية لإنقاذ الامبراطورية من الأزمة المالية. إلا أن السلطان عبد الحميد الذي كان بدرك أهداف الحركة الصهيونية ومطامعها، رفض العرض رغم الإغراءات الهائلة، وكان رده صريحا حين قال لمراسلي الصهاينة: «انصحوا الدكتور
شبر واحد من الأرض فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي. لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه ... فليحتفظ اليهود بملايينهم. إذا مزقت امبراطوريتي فعلهم يستطيعون آنذاك بأن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. ولكن يجب أن يبدا ذلك التمزيق أولا في جثثنا. وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة (23)
هذا ولم يقتصر العرض الصهيوني لهرتزل على الدعم المالي للسلطنة العثمانية. فقد استغل هرتزل تنامي المقاومة العربية ضد الأتراك، والتي شكلت حركة من النهضة العربية كان لها أثرها الكبير في مختلف الولايات التي يقطنها العرب، فعرض مساعدته على السلطان بإغرائه مالية من ناحية، وبتشكيل فرقة عسكرية يهودية تقف إلى جانب الأتراك ضد الحركة القومية العربية والدفاع عن فلسطين ..
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)