المنشورات

التنسيق البريطاني - الصهيوني في المنطقة العربية::

من المعروف بأن بريطانيا لعبت الدور الأول والأساسي في احتضانها للحركة الصهيونية، إلا أن هذا التبني، كان نابعة أولا وقبل كل شيء من ضرورة الحفاظ على مصالح انكلترا وامتيازاتها في المنطقة العربية عبر سيطرتها على المواقع الاستراتيجية المهمة والتحكم بالنقاط والطرق التي من شأنها الوصول دون أية عراقيل إلى الهند التي كانت تعتبر من أهم المستعمرات البريطانية التي توفر لها كثيرا من الخيرات والثروات والرجال.
ونظرا للأهمية القصوى التي تحتلها فلسطين، فقد وضعتها بريطانيا في اولويات حساباتها، وعلى هذا الأساس قاومت الاستعمار الفرنسي وحملة نابوليون؛ وكانت أول دولة أوروبية تنشئ لها قنصلية في القدس عام 1838، كأول قنصلية اوروبية هناك. كما صدر أمر وزير الخارجية البريطانية حينئذ إلى هذه القنصلية بوضع اليهود تحت حماينها ورعايتها، كيما يجعل منهم وسيلة للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية. وبعد ثلاث سنوات، أي في عام 1841، أنشأت لها في القدس أول أسقفية، وجعلت أول أساقفتها، يهوديا متنصرة (ميکل سولومون الكسندر) ليقوم على حد زعمهم بمحاولات لتنصير ما أمكن من التسعة آلاف يهودي الذين كانوا يقطنون فلسطين في ذلك الوقت. كما بدأت تنتشر في بريطانيا منذ أوائل القرن التاسع عشر) دعوة - تغذيها وتشجعها الحكومة البريطانية. تهدف إلى تهجير اليهود إلى فلسطين (29). وكانت زيارات موسي مونتفيوري وتأسيسه لأول مدرسة يهودية في فلسطين، تأتي ضمن هذه الدعوة وبتشجيع منها، كما كان رئيس القنصلية البريطانية هذه، وليم يونغ وكان للجهود الدبلوماسية التي بذلها القادة الصهاينة مع المسؤولين البريطانيين، أثرها الكبير في امهينة الكثير منهم، حيث ساهموا باقتراحاتهم وجهودهم على تقديم خدمات جلي للصهيونية، وقد لعب جوزيف تشمبرلن، احد عتاة الاستعماريين البريطانيين دوره الكبير إلى جانب هرتزل. وكذلك الحال مع اللورد کرومر الذي أبلغه هرتسل عام 1902 بأنه يفضل أن ياخذ فلسطين بالفتح وإراقة الدماء (20). وبعد وفاة هرتزل عام 1904، لم تتوقف الجهود الصهيونية مع بريطانيا، بل تابعها كل من وايزمن وسوکولوف ونشلينوف، اررضعت الخطط في اتجاهين: ا. کسب اليهود البريطانيين للصهيونية، وهي مهمة كان قد بداها وايزمن قبيل الحرب
بترغيب أسرة روتشيلد في مشروع لتأسيس جامعة في فلسطين. 
2. إيجاد اصدقاء للصهيونية من بين الزعماء الكبار في الحكومة البريطانية، (29).
وعلى هذا الأساس كان اجتماع حاييم وايزمن عام 1906 بارثر بلفور، حيث كان اجتماعا مثمرة بدليل تحول بلفور إلى صهيوني، وهو الذي وصف وايزمن على ضوء ذلك قائلا: «هذا الرجل هو الذي جعلني صهيونيا (27)
وبعد بلفور، استمرت اللقاءات والاجتماعات الدبلوماسية، حيث تمكن وايزمن من کسب اسکوت، رئيس تحرير جريدة المانشستر غارديان، الذي عرفه بدوره على لويد جورج وهربرت صموئيل، وكانا عضوين في الوزارة البريطانية، فاقتنعا بفكرته وأصبحا صهيونيين. ثم كان مارك سايكس واللورد روبرت سسل، اللذين قدما اللصهيونية من الخدمات ما دفع وايزمن نفسه أن يعترف بفضلهما على الحركة. وجميع هذه المحادثات كانت تتركز على فلسطين بعد أن فشلت جميع الأقتراحات الاخرى المتعلقة بأوغندا والعريش المصري وقبرص وغيرها. وهذا ما دفع إسرائيل زانجويل»، أحد قادتهم الكبار إلى القول: «إن فلسطين وطن بلا سكان فيجب أن يعطى لشعب بلا وطن، كما قال في معرض آخر أن واجب اليهود في المستقبل أن يضيفوا الخناق على عرب فلسطين، حتى يضطروهم إلى الخروج منها. وقد أعلن كبار زعمائهم أنهم يريدون أن تكون فلسطين يهودية، كما هي انكلترا إنكليزية وفرنسا فرنسية، كما أعلن الكاتب اليهودي ابن آفي، سنة 1921 أن على اليهود أن يطهروا وطنهم فلسطين من الغاصبين، وان أمام المسلمين الصحراء والحجاز، وأمام المسيحيين لبنان، فليرحلوا إلى تلك الأقطار (28).
واستمرارا للسياسة البريطانية في بلاد الشام، وضعت الحكومة الإنكليزية عددا من قادتها لخدمة اليهود وخدمة أهدافها الاستعمارية. وفي مقدمة هؤلاء الكولونيل روزه و الكولونيل تشارلز هنري تشرشل،، حيث أرسل الأخير من لبنان مذكرة إلى المجلس اليهودي في بريطانيا ورئيسه مونتفيوري، بطلب فيها السعي لإنشاء دولة يهودية ويقترح فيها أن يتولى المجلس اليهودي القيام بمهمة الاتصال بيهود أوروبا بهدف نکنيلهم حول فكرة الدولة اليهودية وتوجيههم نحو هذا الهدف (29)
يضاف إلى ذلك، أن اليهود في بلاد الشام كانوا أداة طيعة في يد الإنكليز يحركونها كما يشاؤون وفقا لمصالحهم، حتى وصلوا اليهود أخيرة إلى تحقيق السياسة البريطانية القائمة على تعميق وتحريك الفتن الطائفية، وهم الذين لعبوا دورة بارزا في فتن عام 1890، وزادوا من حدتها، وهذا ما تؤكده الوثائق المعاصرة وتقارير القناصل، فقامت الدولة العثمانية حينذاك بالقبض على بعض منهم بعد أن علمت دورهم في هذه الفتن ... (30).
وانطلاقا من الأهمية التي كان يوليها اليهود للقوة المالية، فقد لمسوا خطورة الموقع الذي تحتله قناة السويس في نظر بريطانيا، وضرورتها القصوى في التحكم بها. لذلك سارع اليهود إلى تبني هذه القضية وإعطائها الأهمية التي تستحق، في الوقت الذي رفضت فيه بريطانيا في البدء المشاركة في مشروع قناة السويس مع
فرنسا.
واستغلت الحركة الصهيونية الموقع الذي يحتله اليهودي دزرائيلي على رأس الوزارة البريطانية، وعبرت من خلاله للوصول إلى هدف مركزي على جدول أعمالها، ومؤلت عن طريقه عملية شراء أسهم قناة السويس البريطانية. وقد ساهم رئيس الوزراء
في إتمام الصفقة لا کتوظيف مالي، ولا كصفقة تجارية، وإنما كعملية البريطاني سياسية (31). وقد مول هذه الصفقة المتمول اليهودي البارون روتشيلد، وبعدها أرسل دزرائيلي إلى الملكة رسالة يوضح فيها بأنك ستحصلين سيدتي على أربعة ملايين جنيه استرليني! ... آل روتشيلد وحدهم يستطيعون تلبية مثل هذا الطلب. وقد نصرفوا تصرفا رائعا، فقدموا المال بفائدة جد زهيدة ... » (32)، خاصة وأن آل روتشيلد كان

دزرائيلي إلى أن يصبح صاحب القول الفصل، وصاحب السيادة المطلقة في بريطانيا. كما يعتبر مهندس سياسة الاستعمار والصهيونية لمن خلفه من السياسيين الإنكليز الذين اتخذوا من سياسته ونهجه شعارا يعملون على تحقيقه. وإلى سياسته هذه يعود الفضل الأكبر في إصدار وعد بلفور عام 1917.
إلا أن عام 1907، يعتبر النقطة البارزة في تاريخ العلاقات الوثيقة بين الحركة الصهيونية وبريطانيا، كما يمثل القاعدة الأساسية بجميع الخطوات اللاحقة على صعيد التعاون الإنكليزي - الصهيوني، حيث تجلى التنسيق بينهما في صورته الواضحة
وفي هذا العام (1907) عقد المؤتمر الصهيوني الثامن في الاهاي، وتوصل إلى نتائج هامة تأتي في مقدمتها أن محاييم وايزمن، استطاع دمج جميع الكتل في إطار الصهيونية السياسية. كما أكد الزعيم الصهيوني «ماکس نوردو» في المؤتمر ذاته، إن الذهاب إلى فلسطين ضرورة صهيونية، بالإضافة إلى أن الصهيونية بمثابة رائدة للمدنية الأوروبية، وهو بذلك يكرس ما سبق وذكره هرتزل من أن الصهيونية هي الرسول الأمين لنشر الثقافة والمدنية والحضارة الأوروبية في الشرق. وفي هذا المؤتمر خطت الصهيونية خطوة عملية، إذ تقرر تأسيس شركة للأراضي الفلسطينية وتخصيص قرض يقدمه والبنك القومي اليهودي، وذلك لبناء مستعمرات جديدة بالقرب من بانا ? نواة مدينة تل أبيب.، كما قرر المؤتمر اعتبار اللغة العبرية لغة التخاطب الرسمية اللصهيونية (33).
إن مثل هذه التصريحات في الواقع، لبست معزولة عن الظروف السياسية والاقتصادية الأوروبية، والبريطانية خصوصا. وليس صدفة أن يعلن هرتزل ونوردو ارسولية الصهيونية المدنية الأوروبية مؤكدا أنه إذا كانت مشيئة الله أن نعود إلى وطننا التاريخي، فنحن نرغب في العودة كممثلين للحضارة الغربية (34).
إن هذه الرسولية نابعة ولا شك من التبني، الأوروبي عامة والبريطاني خاصة، للحركة الصهيونية، وفي العام الذي عقدت فيه الحركة الصهيونية مؤتمرها الثامن، كان الاستعماريون الأوروبيون يعقدون مؤتمرهم الخاص بتقرير مصيرهم، ومصير الصهيونية في الوقت ذاته. وقد أطلق عليه اسم «مؤتمر كامبل بنرمان (11)
أخذ هذا المؤتمر على عاتقه مواجهة التوسع الاستعماري الألماني من جهة مقابل الوصول لأهداف استعمارية في القارة الإفريقية والآسيوية من جهة أخرى. هذا بالإضافة إلى أن هذه القوى الاستعمارية كانت تملك خبرة واسعة في تحديد النقاط الاستراتيجية في العالم، وبصورة خاصة فيما يتعلق بخارطة الوطن العربي؛ كما أدركت منذ وقت مبكر بأن منطقتنا العربية حبلى بالخيرات والثروات التي من شأنها إذا استغلت جيدة، تستطيع أن نشكل عصب الحياة للامبريالية العالمية
على ضوء ذلك، تشكلت لجنة عليا مختصة في الشؤون الاستعمارية مؤلفة من أعضاء الدول المشتركة في المؤتمر (انجلترا ? فرنسا - إيطاليا - إسبانيا - البرتغال - بلجيكا وهولندا)، واجتمعت في لندن عام 1907، وكانت تضم جماعة من كبار علماء التاريخ والاجتماع والاقتصاد والزراعة والجغرافيا والبترول.
نوصل المؤتمرون في النتيجة إلى أن مصدر الخطر الحقيقي على الدول الاستعمارية إنما يكمن في المناطق العربية من الدولة العثمانية، لا سيما بعد أن اظهرت شعوبها يقظة سياسية ووعي قومي ضد التدخل الأجنبي والهجرة اليهودية والحكم التركي أيضا. وأوضح تقرير المؤتمر أهمية المنطقة العربية باعتبارها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، وزاد من أهمينها وجود قناة السويس کامم ممر مائي الأوروبا. ورأى المؤتمر خطورة الشعب العربي على المصالح الاستعمارية نظرا لتوافر عدة عوامل يملكها: وحدة التاريخ واللغة والثقافة والهدف والأمال، واحتمال تزايد عدده من 30 مليون نسمة إلى مئة مليون خلال قرن من الزمن .... كما أكد التقرير أيضا أن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للاستعمار ومصالح الدول الاستعمارية الأنينة والمقبلة، ولا بد لنجاح أي خطة تستهدف حماية المصالح الأوروبية المشتركة من السيطرة على هذا البحر، وعلى شواطئ الجنوبية والشرقية (لان من
هذه المنطقة يستطيع التحكم في العالم). ثم يمضي التقرير متسائلا: يسيطر على كيف يكون وضع هذه المنطقة إذا توحدت وتحررت واستغلت ثرواتها الطبيعية من قبل أهلها؟ فيجيب المتسائلون: عند ذلك ستحل الضربة القاضية حتمأ بالامبراطوريات الاستعمارية، وعندها تتبخر أحلام الاستعمار بالخلود، فتنقطع أوصاله ثم بضمحل وينهار كما انهارت امبراطوريات الإغريق والرومان.
واخيرة انتقل التقرير إلى الوسائل الكفيلة بدرء الخطر المحتمل من المنطقة العربية فدعا الدول الاستعمارية إلى العمل على استمرار وضع هذه المنطقة متأخرة، والعمل على إيجاد التفكك والتجزئة والانقسام، وإنشاء دويلات مصطنعة تابعة لتلك الدول وخاضعة لسيطرتها.
وانطلاقا من العلاقة العضوية القائمة بين الاستعمار والصهيونية، والخطر على استمراريتهما كامن في هذه المنطقة بالذات، فقد خلص المؤتمرون في لندن إلى تحديد توصية عاجلة تقضي بضرورة فصل الجزء الإفريقي من المنطقة العربية عن جزئها الآسيوي وضرورة إقامة الدولة العازلة، وذلك بإقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أوروبا بالعالم القديم ويربطهما معا بالبحر الأبيض المتوسط بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة عدوة لشعب المنطقة وصديقة للدول الأوروبية (30).
هذه الوقائع التاريخية تؤكد بشكل ملموس أن الحركة الصهيونية لم تتعامل إلا مع القوة الرائدة من الدول الاستعمارية في ذلك الوقت. ولهذا كان تركيزها على لندن يوم كان لبريطانيا امبراطورية لا تغيب عنها الشمس. أما في الفترة التي خسرت فيها بريطانيا العظمى قوتها وزعامتها الدولية، لتأخذ الولايات المتحدة الأميركية مكانها، نجد بأن الصهيونية انتقلت بنشاطها إلى واشنطن لتخذ منها قاعدة أولى على الصعيد العالمي، ومركزا رئيسيا في توجيه نشاطها وسياستها.









مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید