المنشورات
الاستخبارات البريطانية في خدمة الصهيونية
أدركت بريطانيا أهمية النتائج التي تمخض عنها مؤتمر كامبل بنرمان، في الوقت الذي كرس فيه صحة توجهاتها وتطلعاتها فيما يتعلق بالمنطقة العربية. عندها كان لا بد من الإسراع في اتخاذ الخطوات التي تضمن لها أفضل النتائج على الصعيد العملي، وعندما كانت جميع الاكتشافات مع دقتها لم تستطع الحلول محل الإنسان، الذي يبقى العنصر الأساسي في حقل الاتصالات والشيفرة (39)، لجأت بريطانيا إلى إرسال من وجدت فيهم الكفاءة الفائقة في تنفيذ طامعها وأهدافها، باعتبارهم أخصائيين في المجال العلمي يمارسون من خلاله مهنة والاستخبارات في مختلف الحقول التي تعتمد عليها الدبلوماسية الإنكليزية خدمة لمصلحتها أولا والصهيونية ثانيا. وعلى هذا الأساس كان الدكتور دايفيد جورج هوغارث وتوماس ادوارد لورنس الذي لقب بلورنس العرب) في طليعة الرجال الذين قدموا لبريطانيا والصهيونية معا، خدمات تعجز عن تحقيقها مؤسسات كبيرة لذلك يعتبر أن من أشهر رجال بريطانيا العظماء، إلا أن الأهمية الأولى في هذا المجال، حاز عليها لورنس نظرة للمنجزات الهائلة التي قام بها حتى غلب عليه فيما بعد اسم الورنس العرب ا ولد لورنس في مقاطعة ويلز البريطانية في 16 آب 1888. وهو ابن غير شرعي للسير توماس روبرت تشابمان من السيدة سارة مادن، مربية بناته الأربع من زوجته الأولى. إلا أن توماس غير اسم عائلته بعدما هاجر من إيرلندا إلى انكلترا، وأصبع يعرف باسم لورنس منذ ذلك الحين.
في شهر تشرين الأول من عام 1907، التحق لورنس بكلية يسوع في أوكسفورد. وهناك سجل لنفسه عدة اكتشافات رائعة عندما كان يقوم بأعمال التنقيب عن الآثار تحت مياه البحر. واستطاع من خلال ذلك أن يسترعي انتباه بعض مشاهير علماء الآثار الذين كانوا يتمتعون بمراکز هامة في الاستخبارات، وكان على رأسهم الدكتور دايفيد هوغارث، أستاذ لورنس، وكذلك ليونارد وولي
وكان هوغارث، ضابط الاستخبارات البريطانية المتخصص بشؤون الشرق الأوسط. وكانت معلوماته عن أوضاع البلدان العربية في ظل الحكم العثماني لا تضاهي في ذلك الحين. فقد أمضى هوغارث، وقتا طويلا بدرس أحوال هذه المنطقة، من النواحي السياسية والوطنية والدينية، والتحركات السرية ونوعية قياداتها، ونشاط الألمان والفرنسيين، والبوليس السري التابع لهم، وطبيعة الأرض الإسلامية، ونفسية الحكام العسكريين فيها، وجر المعارك المتوقع في حال نشوب حرب، (37)
والواقع أنه كان للدكتور هوغارث تأثير هام على مجرى حياة لورنس، كما لم يكن ذلك بعيدا عن نشاط الاستخبارات البريطانية في محاولتها کسب لورنس إلى صفوفها، حيث أشارت إلى أستاذه بضرورة الاهتمام به بعد نجاحاته واكتشافاته وتفوقه، وتجيير كل ذلك لصال السياسة البريطانية بمجملها. وهكذا تمكن لورنس بواسطة هوغارث. من الحصول على منحة خولته الاشتراك في رحلة علمية للقيام بالبحث والتنقيب عن الآثار في وادي الفرات. كانت هذه البعثة برئاسة الدكتور هوغارث نفسه الذي عين لورنس في بعثته رئيسا على فرق العمل التي كانت تتألف من الأكراد والتركمان والأرمن والعرب. وقد نجحت هذه البعثة في العثور على مدينة کرکميش التي كانت قديما عاصمة الإمبراطورية الحنية ... هذا ويضم متحف أشمولين في أوكسفورد الكثير من الآثار التي وهبها، لورنس له لعرضها فيه قبل أن يبلغ العشرين من عمره (38). وفي معرض الإشارة إلى هذه البعثة يقول الأستاذ زهدي الفاتح: وظلت مهمة هذه البعثة سرة دفيئا، إلا أن أفرادها كانوا يعملون في مناطق مهمة للغاية، عسكرية واستراتيجية، ويمكن تشبيه مهمة هذه البعثة ومموليها بأية بعثة أميركية مماثلة في هذه الأيام، تمولها المخابرات المركزية الأميركية (39).
والجدير بالذكر أن لورنس تعرف على جميع المواقع الاستراتيجية التي كانت موجودة في المنطقة بأسرها. كيف لا، وهو الذي تجول في جميع أرجاء المنطقة سيرة على الأقدام، يشاهد مواقعها، ويدرس، ويدقق ويبحث، حتى أصبح مرجعا للمعلومات الدقيقة عن منطقة الشرق الأوسط، وطبيعة تكوينها، ومعالمها الطوبوغرافية (40). وقد بلغ حدة من النشاط، جعل الأتراك يرتابون بأمره في عام 1912، عندما شعر بملاحقته ومراقبته من قبلهم، وكتب إلى أستاذه هوغارث بقول: هذه الدولة العجوز، ما زال فيها بعض حياة بعد، أنها تراقبني (11)
من خلال هذه الكلمات تتوضح مهمة لورانس بالتحديد، وتجاوز العلاقة والعلمية بينه وبين أستاذه إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، عبر استغلال اختصاصه بتوجيهات استخباراتية، يمثل هوغارث حلقة الاتصال المركزية فيها. ولو كان نشاطه بعيدا عن هذا الواقع، لما أظهر قلقه وخوفه من المراقبة العثمانية، ليبلغ الاستخبارات البريطانية وحدها ما يتعرض له ا
هذا وقد عبر لورنس نفسه عن طبيعة العلاقة الوثيقة التي تربطه بالاستخبارات عبر أستاذه - عالم الآثار - حيث ألحق بمدرسة الإرساليين الأميركيين في جبيل بلبنان، التحسين لغته العربية (46). إلا أنه قال في ذلك: السبب ما يريدني هوغارث إتقان العربية (93)
وبالفعل، فقد توضح هذا السبب فيما بعد عندما عمدت الاستخبارات البريطانية التحويله من عالم آثار إلى عسكري خبير في شؤون المنطقة. وفي هذا المجال برزت موهبة لورنس العسكرية النابعة من معرفته لكل التفاصيل الدقيقة المتعلقة بمنطقة عمله. لذلك، عين في دائرة الخرائط التابعة لرئاسة القوات البريطانية في الشرق الأوسط، حتى أن الضباط أنفسهم كانوا يستشيرونه بشأن أية خطة بريدون الاتفاق عليها، مع العلم أنه كان واحد من فرقة خاصة تتألف إلى جانبه من ليونارد رولي ونبوکومب، عهد إليها الإنكليز مهمة القيام بوضع الخرائط، خاصة تلك المتعلقة بشبه جزيرة سيناء، بعد توغلهم فيها متخفين. ونجحوا في ذلك نجاحا كبيرة.
بالإضافة لكل ذلك، فقد شغف لورنس بمطالعة الكتب العسكرية ووقائع الحروب والتعمق في دراستها واستيعابها. ونظرا لتأثره بها فإنه اختار موضوع الهندسة المعمارية العسكرية التي شيد الصليبيون قلاعهم بموجبها، موضوعة لأطروحته الجامعية تحت عنوان «قلاع الصليبيين»، نال عليها مرتبة الشرف الأولى لانه اعتمد فيها على التزوير والتشويه قائلا بأن الصليبيين هم الذين نقلوا إلى الشرق الأوسط علوم الهندسة الحربية من الغرب.
كانون الثاني 1914، انخرط لورنس رسميا في سلك الاستخبارات البريطانية، العسكرية. ونقل من قسم الخرائط إلى دائرة المخابرات السرية التي كان
وفي عملها منحصرا في المناطق التي يحتلها الأتراك، حيث عين رئيسا لأحد فروع تلك الدائرة. ولكي يكون جديرا بالمسؤولية الجديدة، وناجحا في تنفيذ سياسة اسياده، فإنه سعي لتجنيد عدد من الشبان المحليين في دائرته، انطلاقا من التسهيلات المتوفرة لهم
ما وراء المناطق المحتلة والخروج منها بعد حصولهم على كافة في التوغل إلى المعلومات المطلوبة. وبالإضافة لذلك فإنه تولى عملية استجواب أسرى الأتراك توصلا إلى معرفة أماكن قواتهم وعددها. وبالفعل نجح لورنس في هذا المجال نجاحة كبيرا واعتبر رجل مخابرات من الطراز الأول، في الوقت الذي شكلت فيه الحرب العالمية الأولى نقطة تحول بارزة في تاريخ الاستخبارات اقبلها، كان هذا العلم ذا
حين أصبح بعدها بشكل دعامة في مقدمة الدعامات، في الحرب أهمية ثانوية، في كما في السلم. لم تعد الاستخبارات وفنونها المختلفة، كما كانت قبل الحرب، طفلا يحبو متلمسا طريقه. أصبحت مكتملة النمو، شديدة البأس، تعتمد على نفسها ويعتمد عليها الأخرون. وهذا ما أدى فيما بعد، إلى التفاعل المستمر بينها وبين المعلوماتية (14)
بلغ لورنس في عمله الاستخباري هذا مرتبة عالية؛ وكانت علاقاته المباشرة مع القادة الإنكليز - سياسيين وعسكريين - لها الطابع الفاعل والمؤثر على مجمل السياسة البريطانية، من خلال لقاءاته مع اللورد کينشنر، المقيم البريطاني في مصر، والدكتور هوغارث، ضابط الاستخبارات المتخصص بشؤون الشرق الأوسط؛ والكولونيل جليبرت کلايتون رئيس قلم الاستخبارات البريطانية في القاهرة، والآنسة جروتر ودبل المستشارة السياسية للسير بيرس? کوکس، رئيس المكتب السياسي في الشرق بصورة غير رسمية، والكولونيل بيتش، الضابط البارز في قسم الاستعلامات التابع للفرقة التي يقودها الجنرال تاونسند، بالإضافة إلى عدد من زملائه العلماء، أمثال مارك سايكس ولوبري هوبرت وکورنواليسن ونيوکومب وليونارد وولي ولويد جورج الخ ....
هذه الشبكة الاستخبارية التي لعب فيها لورنس الدور البارز، كان لها أهميتها الكبرى لانكلترا. إذا كانت بمثابة عيونها واذانها وأصابعها في المنطقة العربية، حتى انها شاركت عملية في المعارك العسكرية أثناء الحرب العالمية الأولى، في الوقت الذي كانت تمارس فيها عمل التجسس والاستخبارات. في معرض ذلك، يقول أيسر هرئيل، رئيس الاستخبارات الإسرائيلية السابق: «إن شبكات الجاسوسية ما هي إلا نوع من الحرب الباردة، ولكنها حرب أدمغة لا حرب سلاح وناره (4)
وبالفعل فقد كان لورنس دماغ بريطانيا في المنطقة العربية. وبرز دوره الكبير في الحرب العالمية الأولى، من خلال أية مهمة كلف بها، إن كان ذلك في مصر أو العراق أو سوريا أو في الجزيرة العربية. كما برز نشاطه واضحا في المجال السياسي والعسكري والاجتماعي والاستخباري، دون أي تقصير أو إهمال.
وانطلاقا من التوجيهات التي تلقاها لورنس من المخابرات البريطانية، فإنه زعم مناصرته للقضايا العربية والوقوف بجانب قادة الثورة ضد الأتراك دفاعا عن الحق العربي، بيد أن ذلك لم يكن إلا حلقة في سلسلة تهدف إلى تطويق المنطقة وخنقها وربطها بالمشاريع الاستعمارية البريطانية وتفويت الفرصة على الفرنسيين. وقد عبر لورنس عن ذلك في رسالة بعث بها إلى الدكتور هوغارث أعرب فيها عن مخاوفه من أطماع فرنسا في الشرق الأوسط قائلا: «إنني أرى أن فرنسا، لا تركيا، هي عدوتنا فيما يتعلق بسوريا (4). كما كان يكثر من الظهور باللباس العربي، سواء في القاهرة أو غيرها من المدن العربية والأجنبية - خاصة في باريس أثناء انعقاد مؤتمر السلم -، کي يلفت الأنظار إلى شخصه أكثر من اللزوم ... وقد رفض ارتداء الملابس العسكرية عندما اشترط عليه الجنرال ويميس قائد القوات البريطانية في مصر، ذلك عند مرافقته إلى الخرطوم في السودان للقاء الجنرال وينغات، القائد العام للقوات البريطانية في شبه الجزيرة العربية (1). والواقع أن تصرف لورنس بهذا الشكل كان نابعة من سياسة المراوغة والدجل البريطانية، لإيهام العرب بانها نصيرتهم وحامية مصالحهم وحقوقهم. هذا في الوقت الذي كان يلعب فيه لورنس دور ضابط الارتباط بين قادة الثورة العربية من جهة، وبريطانيا من جهة ثانية
في الوقت ذاته، كانت التقارير التي يرفعها لورنس إلى المخابرات البريطانية، تكشف حقيقة السياسة الإنكليزية حيال العرب وثورتهم. ففي أحد هذه التقارير السرية، حدد لورنس في شهر كانون الثاني 1911، الأهداف الرئيسية البريطانيا، وللغرب عامة فيقول: ( ... أهدافنا الرئيسية: تفتيت الوحدة الإسلامية ودحر الامبراطورية العثمانية وتدميرها ... وإذا عرفنا كيف نعامل العرب، وشم الأقل وعيا للاستقرار من الأتراك، فسيبقون في دوامة من الفوضى السياسية داخل دويلات صغيرة حاقدة ومتنافرة، غير قابلة للتماسك، إلا أنها على استعداد دائم لتشكيل قوة موحدة ضد أية قوة خارجية (18)
في هذه الفترة أيضأ، (كانون الثاني 1911)، كان الكولونيل جليبرت کلاينون يعكف في المكتب العربي البريطاني في القاهرة، مع عدد من ضباط الاستخبارات البريطانية هناك على إعداد مخطط عملي لتطويع حركة القومية العربية في خدمة الأهداف الحربية البريطانية ... وقد سبق لماکس نوردو، المفكر الصهيوني، أن أشار في أوائل هذا القرن إلى إمكان استغلال حركة القومية العربية لضرب العرب أنفسهم بحكام الامبراطورية العثمانية، والقضاء على الاثنين معا، في فلسطين خاصة، فيدخل اليهود هذه الأخيرة فارغة من السكان (11)
من المؤكد أن ادعاء لورنس السعي إلى منح العرب الحرية والاستقلال، كان قائمة على اساس اعتبارات محددة واضحة: فقد كان مصممة على إلحاق البلدان العربية بالامبراطورية البريطانية، إيمانا منه بأن هذا الوعد هو الوسيلة الأفضل لدفعهم للقتال إلى جانب الإنكليز، رغم أن السياسة البريطانية، وهو واحد من المخططين الاسسها، لن تنفذ أبدأ ذلك الوعد الذي حلم به العرب طويلا ومن أجله حاربوا. وفي إحدى رسائله إلى صديقته شارلوت شو في 19 آذار 1929، يوضح لورنس قائلا: ولقد ساعدت على حبك المؤامرة ... وخاطرت، لإيماني أن وقوف العرب إلى جانبنا هو عامل حيوي لتحقيق أملنا بانتصار سريع، بخس الثمن، في الشرق. والأفضل لنا أن ننتصر وننكث بوعدنا من أن ننكسر (2)
على ضوء ذلك، تبدو بصمات لورنس واضحة في توقيع اتفاقية سايكس - بيكو وبنودها، خاصة وأن مارك سايكس كان أحد زملائه وأصدقائه. وقد كان هذا الاتفاق صهيونية بصورة كلية بدليل اعتناق موقعيه، البريطاني والفرنسي، للصهيونية قبل عام 1911، ليخدم بالتالي هدف الاستعماريين القدامى والجدد، ولو تضمن هذا الاتفاق وضع فلسطين تحت الوصاية الدولية (تمويها ومرونة دبلوماسية لإثارة الصهاينة ودفعهم المزيد من النشاط والارتباط بالبريطانيين خاصة). وقليلون جدا في الوطن العربي هم الذين يدركون «صهيونية، مارك سايكس وجورج بيكو، حيث يعترف کريستوفر (ابن مارك سايكس) بصراحة في كتابه الذي صدر عام 1953 بعنوان «دراسة مارتين، يتناول فيه ريتشارد سبورب، أحد رجال الكنيسة في القرن الماضي، كما تتناول دراسته الأخرى حياة والده مارك. ويقول عن والده في جهوده نحو الصهيونية: «إذ هو كان قد اعتنق الصهيونية سنة 1910 (أي قبل توقيع المعاهدة بسنة واحدة اعتناقا لم يذر به الغرب، وكانت مساعيه من أقوى العوامل في حصول اليهود على وعد بلفور، وترك مارك سايكس وثائق وأوراقا مختلفة مما بعد كله مصدرا مهما في أخبار النشاط الصهيوني في لندن بعد 1914 حتى نهاية الحرب» (1)، وحسب قول ماك سايكس نفسه فإن الدكتور موسي غاستر، وهو صهيوني بريطاني، هو الذي أدخله في الصهيونية بعيد تعيينه وزيرة مساعدا لوزارة الحرب في خريف عام 1910 (52). أما فيما يتعلق بجورج بيكو، ممثل فرنسا، فإن بعض المراجع تشير إلى سوكولوف حول إدخاله وتحوله إلى القضية الصهيونية، وقد نجح كذلك مع لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا على حد قول الن تايلر (ص 30). بينما يقول عجاج نويهض (ص 154): بأن لويد جورج لم يدخله أحد وإنما أعطى وجاري»، ورغم الجهود التي بذلها هؤلاء، فإن مارك سايكس يعتبر من الأوائل الذين خدموا الصهيونية خدمات ثمينة دفعت بوايزمن
القول، فهو الذي أرشدنا في عملنا إلى مداخل ومخارج أبعد مدى في صبغتها الرسمية. ولولا المشورة التي كان يقدمها لنا رجال من أمثال سايکس واللورد روبرت سسل، في وقت لم تكن لنا فيه خبرة في المفاوضات الدبلوماسية الدقيقة، لارتكبنا أخطاء كثيرة ولا شك (13).
وقد برهنت هذه المعاهدة عن النوايا الاستعمارية وأسلوب الخداع لتحقيقها، حيث كانت بريطانيا تفاوض العرب واعدة إياهم بالاستقلال والتخلص من الحكم التركي، ولعب لورنس دورا هاما في هذا المجال، وكانت مراسلات الحسين - مكماهون تدخل جوهريا في هذا الإطار. وكان للثورة البلشفية في روسيا الفضل الأول المنظم الذي قام به عدد من قادة الحركة الصهيونية مثل «ماکس بودنهايمر» و «آدولف فريدمان، و «فرانز أوبنهايمر»، وذلك للحصول على وعد بلفور ألماني (27).
كما أن أميركا لعبت دورها في هذا المجال عن طريق سفيرها في استانبول، مورغنتو، عندما ألقي خطابه في مدينة سينسيناتي الأميركية في أيار 1916 والذي جاء فيه أنه بالإمكان وضع ترتيبات شراء فلسطين من الأتراك لصالح اليهود بعد انتهاء الحرب (58). ثم كان دخولها الحرب رسميا في نيسان 1917، ضد ألمانيا وحليفتها تركيا. لكن العامل الخطير الذي لعب دوره في الإسراع في إعلان وعد بلفور، كان انخراط الشبان اليهود في روسيا في صفوف الحزب البلشفي بقيادة لينين الذي وقف ضد استمرار روسيا في الحرب حيث كان نتيجتها توقيع معاهدة بريست - لينوفسك مع المانيا. وهذا ما دفع الجنرال ماكدونف قائد المخابرات البريطانية إلى طلب الإسراع في إعلان فلسطين وطن قومية يهودية لكي يتجه الشباب اليهودي نحو العقيدة الصهيونية الرجعية الموالية للاستعمار عوضا عن الانخراط في صفوف الأحزاب الثورية المعادية البريطانيا، وقد أوضح رهايمان لومر، رئيس تحرير مجلة الشؤون السياسية الأمريكية) في كتابه عن الصهيونية مؤكدا «توافق ظهور الصهيونية مع موجة جديدة من المعاداة السامية، مرتبطة بظهور الإمبريالية الحديثة، وتطويرها للعنصرية إلى أقصى حد باعتبارها أداة أيديولوجية للقهر ... وقد استجابت جماهير الطبقة العاملة اليهودية. وبخاصة في روسيا ? بالانضمام إلى الحركة الثورية، والصراع دون هوادة ضد الصهيونية (9)
ويعتبر وعد بلفور من أغرب الوثائق الدولية في التاريخ، إذ منحت بموجبه دوئة استعمارية أرضا لا نملكها، إلى جماعة لا تستحقها، على حساب من يملكها ويستحقها، مما أدى إلى اغتصاب وطن وتشريد شعب بكامله على نحو لا سابقة له في التاريخ (90). ولم يكن ذلك ليتحقق بهذه السرعة، لو لم يحل لويد جورج محل اسكويث كرئيس للوزراء، ولو لم يعين بلفور وزيرة للخارجية، ولتصبح المراكز الحساسة في الحكومة الإنكليزية في أيدي صهاينة متسلحين بالهوية البريطانية لخدمة عقيدتهم المعتنقه مؤخرة. و كما يعتبر هذا الوعد المشؤوم أيضا، بمثابة جواز السفر، و تذكرة المرور اللوطن القومي اليهودي في فلسطين کي بظهر إلى حيز الواقع العملي، بإضفاء الصفة الرسمية الدولية، عليه، وهذا ما سعى الصهاينة طويلا لتحقيقه، حتى أنه أقر كهدف صهيوني مرکزي في مؤتمر بال بسويسرا عام 1897 مؤكدا أن هذف الصهيونية هو خلق وطن في فلسطين للشعب اليهودي، يضمنه القانون العام (91). ومن الواضح، أن هذا القانون العام، كان احتكارا على الزعامة الدولية التي كانت تمثلها بريطانيا في تلك الفترة. وأي قانون آخر، خارج عن إطار هذه الوصاية، لا قيمة له وفاقد بالتالي لمبرر وجوده كقانون.
والجدير بالذكر، أن الاستخبارات لعبت دورها الأساسي في تأثيرها على الحرب العالمية الأولى، ولم تكن الاستخبارات البريطانية إلا جزءا منها ككل، كما تركت بصماتها الواضحة على مجمل التطورات اللاحقة في معظم مناطق العالم، ومن بينها، المنطقة العربية، والواقع أن الاستخبارات ليست سوى عنصر مساعد في الحروب. ذلك أن المعارك على الطبيعة هي التي تقرر مصير المتحاربين ... والحقيقة التي أقر بها قادة كبار من كلا الطرفين في الحرب الأولى)، هي أن الاستخبارات أنقذت حياة الكثيرين، ليس فقط من الحلفاء، بل أيضا من دول المحور، وذلك عن طريق اختصارها للحرب، وضمن ذلك، عن طريق إجهاض العديد من المعارك قبل وقوعها. هنا يكمن الفضل، ومن هنا على العالم أن يعترف بالفضل (23).
ورغم توقف الحرب العالمية الأولى عام 1918، إلا أن النشاط البريطاني في خدمة الصهيونية، لم يتوقف، بل ازداد قوة وتأثيرا فيما بعد. وقد مثل مؤتمر الصلح في فرساي الفرنسية، علامة بارزة على هذا الصعيد، حيث تحكمت بريطانيا وفرنسا المنتصرتين، ومن ورائهما الحركة الصهيونية، في مجمل القرارات التي صدرت عن هذا المؤتمر. كما لعب مستشارو الأربعة الكباره، وجلهم من اليهود الصهاينة، دورهم في إصدار القرارات بالشكل الذي صدرت فيه. هذا بالإضافة إلى أن رئيس الحكومة البريطانية التي أصدرت وعدها بإعطاء فلسطين وطن قومية يهودية، كان حاضرة بنفسه أيضا، بالإضافة إلى لورنس الذي ظهر باللباس العربي مدعيا تمثيل العرب وخدمة قضيتهم في هذا المؤتمر الدولي، ونظرا للخدمات الكبرى التي قدمها لورنس البريطانيا من خلال مهمته الاستخباراتية في المنطقة، فقد ربکي تشرشل في جنازته يوم 13 أيار 1930، ووصفه بأنه الأكثر شهرة بين رجالات بريطانيا العظماء، مؤكدا أنه لن يظهر له مثيل، مهما كانت الحاجة إليه ماسة ... وقد أطلق عليه اسماء عديدة کالورنس العرب، و أمير مكة، و «ملك العرب غير المتوج، نظرا لنشاطه ودقة معلوماته التي نقلها عن المنطقة العربية إلى الاستخبارات البريطانية ... لذلك أقيم له تمثال مع تمثالي نلسون رولنغتون في كاتدرائية سان بول ببريطانيا (93)
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)