المنشورات
فلسطين والتنسيق الاستخباري البريطاني - الصهيوني في الحرب العالمية الأولى:
كانت فلسطين محور الاهتمام الاستعماري - الصهيوني منذ زمن طويل. إلا أن مؤتمر بال حدد بوضوح أهميتها في المخطط القاضي بإعطائها «وطنا قومياه لليهود. من هنا كانت ضرورة تأمين الكوادر الأساسية القادرة على تحقيق الوعد التاريخي». وقد كان اهتمام انكلترا بها يعود إلى وقت طويل؛ إلا أنه اتخذ طابعة أساسية بعد احتلالها المصر عام 1882. كما كان من الطبيعي أن تكون طلائع بعثاتها إلى هذه المنطقة، من رجال الاستخبارات، واليهود تحديدا، ذوي النزعة الصهيونية.
وقد نجحت بريطانيا في مهمتها هذه، في اعتمادها على عائلة أرونسون اليهودية ... حيث كان جاك أرونسون وكيلا للبارون الصهيوني إدمون دي روتشيلد ومتمتعة بثقته. جاء إلى زمارين، في فلسطين کوکيل لروتشيلد، حاملا معه الأموال الوفيرة، وكان ينظر إليه أنه في مقدمة مؤسسي والوطن القومي اليهوديه. كان ذلك في عام 1889.
كان ابناء جاك من الدعاة الكبار للصهيونية، ومن الذين حققوا لها نجاحا واسعا في فلسطين قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وأثناءها. إلا أن هارون أرونسون وأخته سارة تميزا بنشاطهما السري لفترة طويلة بالرغم من العدد الكبير لأفراد الشبكة التجسسية التي أنشأها لصالح بريطانيا والصهيونية
ومن المعروف أن هارون من كبار علماء النباتات ليس في فلسطين وحدها فحسب، بل في العالم أيضا. وله عدة مؤلفات ترجمت إلى اللغات الأجنبية وكانت تدرس في المعاهد الزراعية في كثير من أنحاء العالم. وقد جاب مارون جميع أنحاء البلاد العربية، وهو الذي اكتشف القمح البري، في أعالي جبل الشيخ، وسجل اسمه في هذا الاكتشاف في الأنسيكلوبيديا الإنكليزية. وسجل اسمه أيضا بأنه مكتشف واللوز البري، في أعالي جبل قاسيون بسوريا.
استغل هارون اختصاصه لخدمة الجاسوسية الصهيونية وبريطانيا، حيث انشا مختبرة زراعية كبيرة في قرية «عنليت، بفلسطين كان بعد أعظم مختبر أنشيء في ذلك العهد في السلطنة وهو الذي اتخذ قاعدة لإدارة شعبة الاستخبارات في فلسطين من قبل اخته سارة. ومع انصراف هارون إلى الشؤون الزراعية ودرس مختلف النباتات كان من أكبر جواسيس الصهيونية والإنكليز، تماما كما كان حال الورنس العرب، فيما بعد. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى كان قد أدى خدمات کبري للصهيونية وبريطانيا معا، وحقق نجاحات واسعة خلال الحرب كان لها تأثيرها الكبير على مجرياتها، وفي الوقت الذي قرر فيه الذهاب إلى مؤتمر الصلح في فرساي للدفاع عن القضية الصهيونية، فتل على أثر سقوط الطائرة التي كان يستقلها.
كذلك الحال بالنسبة إلى أخيه الكسي أو (اليك). فقد كان خطيبة وداعية صهيونية. فقد كان يتظاهر بأنه معلم مدرسة، فيطوف على القرى لإلقاء المحاضرات الأسبوعية على الشبيبة اليهودية، في الوقت الذي كان ينفذ فيه مهمنه الأساسية في العمل لخدمة المخابرات البريطانية والصهيونية (14).
إلا أن سارة أرونسون اشتهرت أكثر من أخونها في هذا المجال. كانت تحسن اللغات العبرية والعربية والفرنسية والألمانية الإنكليزية والإيطالية والروسية، وكانت في الوقت نفسه ولوعة بالعلوم الزراعية والنباتية وشريكة شفيقها هارون في المختبر الزراعي. كلفت من قبل الاستخبارات البريطانية بالحصول على معلومات جديدة عن بادية سوريا قبل الحرب العالمية الأولى، وكرر هذا الأمر البارون دي روتشيلد الذي أعلمها أن مصلحة الصهيونية توجب ذلك، فوافقت على القيام بالمهمة، وراحت
قوي يمكنها أن تعتمد على مكانته في سبيل الدفاع عن نفسها، تبحث عن شخص فوجدته أخيرا في شخص أحد شباب بيروت الأثرياء والذي بحسن عدة لغات ومن هواة الآثار. وعن طريقة وبواسطته تجولت في بادية سوريا خطوة خطوة، ودرستها من مختلف النواحي النباتية والسياسية والعسكرية، وتعرضا لمخاطر كثيرة أثناء تنقلهما في البادية. وقد دربت الحمام الزاجل على التنقل بين اعتليت، (قاعدتها التجسسية) والمناطق المجاورة، وشكلت شبكة جاسوسية قوية جعلتها ذات فروع وتسلسل بحيث لم يعرف بأمرها سوى ثلاثة أشخاص هم الدكتور کوهين خانکن، وإبراهام إزرائيل، وصموئيل سام، وعندما جاء جمال باشا إلى فلسطين في أواخر كانون الأول 1919، تقدمت إليه سارة مع الوفد اليهودي الذي جاء إلى القدس ليرحب بمقدمه، وتكلمت مؤكدة إخلاصهم للعثمانيين. ولم تأت سارة مع الوفد لتحية القائد التركي فحسب، بل للتعرف إليه من جهة، ومعرفة أسرار الاستعدادات التي يقوم بها لتجهيز الحملة على مصر عن طريق السويس ونجحت في مهمتها خير نجاح بعد أن قدمت للإنكليز معلومات قيمة في هذا الصدد أدت إلى إفشال حملة السويس العثمانية. ثم جاءت إلى بيروت عام 1910، وكان أول ضحاياها شاب بيروتي يدعى يوسف عيسي عمران الذي كان يعمل في خدمة أحد أثرياء بيروت، وله علاقة مع الإنكليز وسارة، أعدم يوسف عمران باعتباره جاسوسأ لم يعرف اسم السيدة الأجنبية التي تتصل بسيده ونفذ به حكم الإعدام في 10 آذار 1910 في عاليه.
كما كانت سارة أرونسون على علاقة مع الورنس العرب، وهو الذي حملها كتابا من الشريف حسين إلى ولده فيصل في دمشق ينبئه فيه بقرب إعلان الثورة العربية. ولو وقع هذا الكتاب في يد جمال باشا لأدى إلى اعتقال فيصل وإعدامه. وكان لورنس قد سلم الكتاب إلى سارة في عتليت لتوصله إلى فيصل ونعود بالجواب. ثم تبعها في 1 آذار 1911 إلى دمشق وعاد إلى الحجاز. إلا أن جمال باشا بعد أن أدرك أن جميع أوامره وحركات قواته تصل مباشرة إلى أعدائه وينزلون بها أشد الضربات امر بالمراقبة الدقيقة ومكافحة أعمال الجواسيس حتى انتهى الأمر بالوصول إلى سارة أرونسون حيث اعتقلت واعترفت بعملها التجسسي لصالح الاستخبارات البريطانية والصهيونية. ثم أطلقت النار على نفسها من مسدس كانت تضعه بين رزمة من الفطن، فماتت بعد
يومين (15)
والحقيقة أن الاستخبارات البريطانية والصهيونية كانت تعمد إلى انتقاء عناصرها بدقة، حسب متطلبات المنطقة التي تريد استخدامهم فيها وهكذا كان معظمهم من أصحاب الاختصاصات، والذين يجيدون لغات متعددة. وقد عمدت «سارة» نفسها في تكوين شبكتها التجسسية إلى انتهاج هذه القاعدة على هذا الأساس كان البتشانسکي، أحد أعضاء شبكتها وهو من كبار زعماء اليهود البولونيين ومن العلماء المعروفين. كان يحسن عدة لغات حية ويعرف العربية والبدوية منها على اختلاف لهجاتها. كما كان جاسوسا خطيرة أنعب الأتراك لفترة ليست بالقصيرة من جراء تجسسه وحصوله على المعلومات الهامة التي أنزلت بهم خسائر كبيرة. واستطاع الإفلات من قبضتهم مرات عديدة لتنگره، إلا أنهم اعتقل فيما بعد ونفذ به حكم الإعدام في ساحة المرجة في دمشق. وقد أوصى في رسائله التي تركها إلى زوجته وصديقه بأن يتزوجا، كما أوصى ولده أن يسير على دربه خدمة للصهيونية (19) كان إلى جانب لينشاسکي اثنان من أفراد شبكة سارة أرونسون، هما «نهمان بلکنده و «جوزيف طوبين»، وهؤلاء كان يطلق عليهم عصابة الثلاثة. وقد ساهم كل منهم في تشجيع الجنود على الفرار من الجندية وإخفائهم مع سلاحهم في المستعمرات اليهودية، وكانوا يجيدون عملية التنكر والاختفاء في الوقت الذي كانوا يتنقلون فيه متسترين بثياب البدو، دون أن يترك أحدهم رفيقيه. ولهذا عندما اعتقلوا وحكم عليهم بالإعدام من قبل الديوان العرفي في عاليه، ترك كل منهم وصية إلى زوجته وأولاده بحثهم فيها على متابعة السير في خدمة الصهيونية. وقد جاء في وصية بلكند: «بان الدي 1000 ليرة إنكليزية هي كل ثروتي أتفها لأول رجل يبشر عائلتي بتحقيق الوطن القومي الصهيوني في فلسطين. أما زوجتي وأولادي فلا أترك لهم شيئا إذ عليهم أن يعملوا بكل قواهم لتحقيق الغاية التي ضحيت بنفسي لأجلها، وأن يعتبرون رمزا للعمل في سبيل الصهيونية، وعليهم أن يسيروا على هذه الخطة (17). أما جوزيف طوبين فقد قال في وصيته: أنا روسي الأصل، هاجرت من مسقط راسي وتركت كل حياة رفاه وسعادة ومستقبل حسن يترقبني هناك في سبيل تحقيق فكرة الوطن القومي اليهودي، وفي سبيل هذه الغاية اشتغلت مع الإنكليز الذين وعدونا بتحقيق هذا الوطن، ولست نادما أبدأ على ما بدر مني في هذا الصدد، وفي إمكانكم أن تفعلوا بي ما تشاؤون. أما رصيني فهذه هي، وقد كتبتها لزوجتي وأولادي الذين أتركهم للحركة الصهيونية التي لها أن تفعل بهم وتقرر مستقبلهم ومصيرهم كما تشاء» (28).
لم يقتصر الاهتمام البريطاني على شبكة سارة أرونسون وحدها؛ بل عمدت الاستخبارات الإنكليزية إلى إنشاء شبكات متعددة في فلسطين التأمين استمرارية التجسس فيها. وكان اعتمادها بشكل أساسي على اليهود الصهاينة. إذ نجحت في تكوين شبكة قوية في فلسطين برئاسة التر صموئيل ليفي، وهو يهودي أميركي، هاجر إلى فلسطين قبل نشوب الحرب العالمية الأولى. كان متعلمة تعليمة عالية ويحسن عدة لغات حية كما يحسن العربية والعبرية. وكان له مكانة تجارية كبرى ووكالة عدة شركات أوروبية وأميركية، اننسب لدائرة المخابرات البريطانية عام 1911، وكلف بالإقامة في القدس حتى بداية الحرب الأولى.
عندما أعلنت الحرب وجاء جمال باشا إلى القدس في بداية 1910 للتحضير الحملة السويس، كان آلتر ليفي في مقدمة الذين رحبوا به باسم الجالية الأجنبية الموجودة في البلاد، تماما كما رحبت به سارة أرونسون باسم الوفد اليهودي وطائفتها. وهكذا كانت الاستخبارات البريطانية في طليعة المرحبين بالقائد العثماني، عبر ممثليها من قادة شبكاتها التجسسية، في هذه المناسبة، أعلن آلتر ليفي تبرعه بكميات وفيرة من الأدوية التي يحتاج إليها الجيش الزاحف على القناة. ولهذا نال ثقة جمال باشا ومنحه وسام الحرب العثماني وكتاب شكر على إخلاصه للوطن. ونتيجة لهذه الثقة حضر التر ليفي حفلة عرض القوات المسافرة إلى القناة وأشرف على أمورها. ثم أوفده جمال باشا إلى مصر، بعد فشل حملة السويس، لإيقاف الحملة الصحفية على القائد العثماني. فنجح في مهمته نجاحا كبيرا، كما حمل إليه معلومات املتها عليه الاستخبارات الإنكليزية، وأخبره بأنه تدبر بمصر جواسيس يوانونه بالمعلومات الحقيقية عن استعدادات الإنكليز وتحركاتهم في جزيرة العرب. وتمكن آلتر ليفي بمعلوماته أن يخدع جمال باشا لمدة طويلة، وزوده في كثير من الأحيان بتقارير خادعة كانت جميعها من عمل الإنكليز ولصالحهم، كما كانت من أكبر الأسباب في هدم السلطنة والقضاء على نفوذها في فلسطين وفي كل بلاد العرب.
كانت شبكة التر ليفي أقوى شبكات الجاسوسية الإنكليزية والصهيونية في فلسطين، نظرا للثقة التي كان يتمتع بها رئيسها لدى جمال باشا
وعندما كان جمال باشا يستعرض القوات في حرج بيروت، وكان عرضة كبيرة ضد الحلفاء لمقاومتهم إذا حاولوا احتلال السواحل اللبنانية والسورية، كان التر ليفي بين الحضور حيث عمد إلى التقاط الصور والرسوم للوحدات العسكرية بصورة سرية، وذلك بواسطة آلة تصوير صغيرة وضع زجاجها في عروة سترته، وكثيرا ما تمكن بواسطتها من التقاط صور الأسرار العسكرية العثمانية في كثير من الظروف. وقد لفتت هذه الآلة الفوتوغرافية نظر الملازم صبحي نوري بك (الذي أصبح بعد ذلك من نواب المجلس الوطني الكبير) فاقترب من الرجل، ولما تبين الآلة الفوتوغرافية في عروته، وقف وراء فؤاد باشا رئيس أركان حرب الجيش الرابع، وأسر إليه بالأمر، فانهمه رئيس الأركان أن الرجل من أصدقاء جمال باشا، بل عليه مراقبته جيدة. وبعد عرض الأمر على جمال باشا لم يقتنع بأنه جاسوس ويقوم بعمل خطير، واستمر في خداع الباشا زمنا طويلا وهو الذي حرضه ضد الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وعبد الكريم الخليل بناء على تعليمات الإنكليز.
وبعد أن تبين خطره بشكل كبير على البلاد، طورد مدة طويلة واعتقل، لكنه تمكن من الهرب في كثير من الأحيان. استمرت مطاردته إلى أن تبين لرئيس بوليس القدس عارف بك إبراهيم، أنه يسكن في دار المناضل المنفى خليل السكاكيني، مقابل دار الحكومة مباشرة، فاهتدى إليه بعد حيلة أعدت للإيقاع به. وعند لقائه أبلغه بأنه موقوف، فحاول ليفي رشوته بمبلغ عشرين ألف دولار، فلم يقبل مؤكدا استحالة إعدامه حتى ولو صار على المشنقة. ناقتيد لمقر القيادة في الوقت الذي بدأ فيه الهجوم الإنكليزي على القدس. عندها ذهب به رئيس البوليس إلى عمان ومنها إلى دمشق، وسلمه إلى الديوان العرفي وتلقى إيصالا باستلامه، فقفل راجعة إلى فلسطين. لكنه أطلق سراحه دون أن يرسل للمحاكمة.
بعد أربعة أشهر، التقى عارف بك إبراهيم بالجاسوس التر ليفي يدخن النارجيلة في أحد مقاهي المرجة بدمشق، فأخبره بأن محقق الديوان العرني أطلق سراحه مقابل اربعمائة ليرة ذهبية، كما قام المحقق بإتلاف الوثائق وترك التر ليفي حرا (19). اعتمد ليفي اعتمادا كبيرة على جاسوسة صهيونية، كانت أحد أفراد شبكته، تدعي اليديا مردوخ سيمونفتش،. حدد لها مهمة الاتصال بأحد ضباط أركان حرب الأتراك اليوزباشي جواد ادهم بك في منزل اسئير حابيم في الحي المسكوبي في القدس، حيث كان ملتقى لكبار الضباط الألمان والنمسويين وبعض ضباط الأتراك. وبعد أن اتضح للقيادة التركية تسرب الأسرار العسكرية، بدات المراقبة الدقيقة لكشف شبكة الجاسوسية، فاعتقلت ليديا مع الضابط جواد أدهم بك أثناء شجارها معه حول تسليمها معلومات خاطئة كانت سببا في تكبيد الإنكليز خسائر كبيرة. لم ينتظر الضابط الذي اعتقل بالجرم المشهود، محاكمته، بل تناوله مسدسه وأفرغ منه رصاصة كانت كافية للقضاء عليه. إلا أن ليديا قد اعترفت، بعد إنكارها، بأنها الله في بد آلتر ليفي الذي دفعها للاتصال بالضابط التركي لكنها لا تعرف مكان الجاسوس الخطير. وأوضحت بأنها خدمت آلتر ليفي لا كجاسوسة إنكليزية بل تحقيقا لخدمة الوطن القومي اليهودي. ثم أحيلت إلى الديوان العرفي لمحاكمنها (70)
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)