المنشورات

التنسيق البريطاني - الصهيوني بعد الحرب العالمية الأولى:

كان من الطبيعي أن يزداد التعاون الإنكليزي - الصهيوني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعد النشاط التجسسي الكبير الذي قام به الجواسيس الصهاينة لمصلحة بريطانيا، وجاء مؤتمر الصلح في عام 1919 ليكرس الدعم المتزايد للحركة الصهيونية، في الوقت الذي مثلت فيه بريطانيا القوة الأساسية الأولى المحكمة بقراراته ونتائجه. وساهمت بشكل كبير في طرح القضية الصهيونية واعتبارها إحدى قضاياه الرئيسية
ومع بداية عام 1920، بدا التحول الكبير في تاريخ المنطقة العربية بانتقال الصهيونية إلى مرحلة أرقى من ذي قبل؛ تلك المرحلة التي حملت روح العقيدة الإجرامية المتمثلة بالتجمع والاقتحام .. تلك العقيدة التي تعني فيما تعنيه، سفك الدماء واستخدام السيف والدمار وتشكيل الهيئات السرية التي تمثلت بالهاغاناه (الدفاع القومي) ونادي النبي موسى وحزب جابونسكي وبيغن وشئرن. وهو العام الذي يطلق عليه اسم «عام الدماء الأولى، حيث قتل في هذا التاريخ يوسف ترمبلدور، رفيق جابوتنسكي، والذي يعتبر من اليهود المغامرين، بعد اشتباكات مع العرب فرب الحدود الشمالية، وحزن عليه البهرد حزنا شديدأ كما عاهدوا على الأخذ بثاره. وهذا ما دفع جابوتنسکي لاقتراف مذبحة «يوم النبي موسى، في 4 نيسان 1920. بعد هذه المذبحة اعتقل جابوتنسكي وحوکم من قبل البريطانيين بحجة تسلله وتهريب السلاح، ثم أفرج عنه أول مندوب صهيوني في فلسطين، هربرت صموئيل، الذي كان يطلق علبه اسم أمير إسرائيل الأول أو عزرا الثاني بعد السبي البابلي، ولا ريب أنه بعد من رؤوس الصهيونية العالمية العنيفة (23). حصلت هذه المحاكمة على أثر النقمة العربية التي عرفتها فلسطين والتي حملت البريطانيين مسؤوليتها بسبب الحماية التي يتمتع بها الصهاينة من قبلهم. انتقل جابوتنسكي أثناء محاكمته من موقع المجرم إلى موقع القاضي، وتحول البريطانيون بدورهم إلى مجرمين ومنهمين، وبرزت بشكل واضح أصابع الصهيونية في الدسائس من جراء سرقة الوثائق التي أبرزها جابوننسكي والتي كان يتباهى بسرقتها من صندوق شيفرة، رئيس أركان حرب الجيش البريطاني (79) و المح صموئيل في مذكراته أنه عين في المنصب المذكور مع معرفة حكومة صاحب الجلالة التامة بعواطفي الصهيونية، بل، دون شك، بسبب هذه العواطف إلى حد كبير، (70). إلا أن حاييم وايزمن بعترف بمسؤوليته المباشرة والشخصية عن تعيين صموئيل أول مندوب سام لبريطانيا (والصهيونية في فلسطين، ويقول: اکنت مسؤولا بشكل رئيسي عن تعيين السير هربرت صموئيل لفلسطين. فالسير هربرت صموئيل صديقنا، وقد قبل ذلك المنصب الصعب نزولا عند طلبنا. نحن عيناه في ذلك المنصب، إنه صموئيلنا (79). هذا ويعتبر هربرت صموئيل، الذي وصل إلى الحقيبة الوزارية بعد دزرائيلي اليهودي، المسؤول الأول والاكثر خبرة في إنشاء جميع الأوضاع السياسة التهويد. وهو الذي يصفه صديقه تشرشل، وزير المستعمرات البريطاني، بأنه اصهيوني نح» (77).
بعد واحد وعشرين يوما من المجزرة الدماء الأولي،، جاء مؤتمر سان ريمو في إيطاليا، ليكرس اتفاقية سايكس - بيكو تكريسا قانونيا بوزع بموجبه الانتدابات على دول المنطقة، وليجعل فلسطين من حصة بريطانيا، ومنحها حق الانتداب عليها
إزاء هذا الوضع، ركزت بريطانيا جهدها على المؤسسة العسكرية في منطقة انتدابها فلسطين، وكان من الطبيعي أن تأتي بأشخاص أثبتوا إخلاصهم لها في فلسطين، فعينت دبيخور شالوم شطريت، الصهيوني مديرا لشرطتها في منطقة طبرية، ثم أصبح في عام 1921 مدير قسم البصمات لدى دائرة التحريات الجنائية في القدس، ثم مديرا للشرطة في تل أبيب بعد ذلك بستة أعوام، ومديرة لكلية الشرطة بعد عام 1933. ثم أصبح شطريت أول وزير للشرطة في الحكومة الإسرائيلية بعد قيام الدولة الصهيونية (78). بالإضافة لذلك، عمدت السلطات البريطانية، بواسطة استخباراتها المتعاونة مع الصهيونية، إلى تهريب اليهود إلى فلسطين من مناطق عديدة، حيث استخدمت في أحيان كثيرة سفن بريطانية أيضا. ومع تزايد ردة الفعل العربية ضد هذه الهجرات، وصل العام 1939، ليسجل حدثا مهمة، يتمثل بقيام اطول إضراب في التاريخ في وجه الصهاينة وحلفائهم البريطانيين. لم يكن أمام انكلترا بعد ذلك إلا أن استقدمت أحد ضباطها من الاستخبارات العسكرية، فوصل إلى فلسطين في العام نفسه ليقوم بما يعهد إليه في قمع عرب فلسطين، وهو الخبير المجرب، حيث لعب دورا أساسيا في هذه الفترة التي حملت طابع العنف والنقمة. كان هذا الضابط هر «تشارلز أورد ونغيت،.
في عام 1938، وبمباركة قائد القوات الإنكليزية في فلسطين، أقام ونغيت سرايا الليل الخاصة المؤلفة من رجال من منظمة الهاغاناه بقيادة خبراء بريطانيين لتقوم بعمليات إرهابية ضد الشعب الفلسطيني بالإضافة إلى محاربة الثوار الفلسطينيين في ذلك الوقت. وقام ونغيت بتدريب هذه السرايا في مجالات عديدة، منها أساليب الإرهاب والاستخبارات والتحقيق مع الأسري باستخدام التعذيب. وقد وصف الصحفي البريطاني الينار موزلي، غارة قامت بها اسرايا الليل الخاصة على قرية فلسطينية أسفرت عن مقتل خمسة من سكان القرية وأسر أربعة منهم. ولإجبار هؤلاء الأسرى على الإدلاء بمعلومات، استخدم ونغيت العنف ضد احدهم ثم أمر بقتله (79). وجميع الذين خططوا ونفذوا المجازر والمذابح العديدة بحق أبناء فلسطين بعد هذا التاريخ، هم خريجو هذه المدرسة بالذات، لأنهم تدربوا على أيدي اختصاصيين في هذا الموضوع من أمثال ونغيت. -
لم تكتف بريطانيا والصهيونية بذلك، بعد أن تزايدت النقمة العربية الفلسطينية في وجه المخططات الإنكليزية هذه. عندها عمد المتحالفون إلى إنشاء الدائرة العربية في الاستخبارات الصهيونية في منظمة الهاغاناه والشاي، في شهر حزيران من عام 1940 برئاسة اعزرا دنين، نتيجة لنمو الحركة الثورية في فلسطين. وكلفت بتأسيس أرشيف للمعلومات عن التركيب الاجتماعي للمدن والقرى العربية في فلسطين، بالإضافة إلى إقامة شبكة من المخبرين العرب. وعندما لوحظ أن عمل هذه الدائرة لم يتقدم بما فيه الكفاية، كلف يعقوب شمعوني بتولي رئاستها حيث استمر في جمع المواد الملفات القرى العربية، وتكليف وحدات الاستطلاع الاهتمام بالنواحي الطوبوغرافية لتلك القرى. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعد ارشيف عربي منظم مع بطاقات جمعت فيها التفاصيل الشخصية عن الزعماء العرب المحليين، كما فتحت ملفات مماثلة للمدن الفلسطينية وتم القيام بأعمال استخبارات واسعة بشأن بعض الأشخاص الذين ظهر أن من الممكن أن يصبحوا من زعماء المستقبل، بما في ذلك
جمع التفاصيل عن سكناهم، وتحركاتهم وأماكن عملهم (80). كما برع من الضباط الإنكليز في تنظيم الاستخبارات الصهيونية عقيد يهودي عين رئيسا للدائرة السياسية في الوكالة اليهودية التي أنشئت عام 1920، وقدم خدمات هائلة للصهيونية وهو
فريد کيش»، حيث قال عنه أول رئيس جمهورية الدولة الاحتلال الصهيوني: اكان كبش ينتمي إلى العالمين الإنكليزي واليهودي، (81).
استغلت الحركة الصهيونية الحرب العالمية الثانية استغلالا كبيرة، في الوقت الذي كان فيه العالم مشغولا بالعمليات العسكرية على مختلف جبهات القتال. جندت الاستخبارات الصهيونية عددأ هامة من عناصرها بالتعاون مع الاستخبارات الإنكليزية وركزت جهدها على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وخصوصا من مصر. لهذا كلفت في عام 1941 المدعو موشي بن آشير، ربمهمة تشكيل جهاز سري للاستخبارات في مصر، بهدف تحريض اليهود فيها على الهجرة إلى فلسطين. وخلال فترة وجيزة أنشا بن أشير تنظيما واسعا بين اليهود، وكانت نتيجة جهوده أن أبحرت من ميناء الإسكندرية أول سفينة للمهاجرين اليهود المصريين إلى فلسطين. كما استطاع تجنيد عدد من الضباط البريطانيين في مصر، واستخدامهم في هجرة الفتيات اليهوديات بواسطة عقود زواج وهمية (82).
وفي منتصف عام 1943، كلفت الاستخبارات الإسرائيلية أحد شباب الكيوبوتزات في عسقلان بالإشراف على مجرة بهود الدول العربية، خاصة بهود مصر، إلى فلسطين. هذا الشاب كان يدعى دافيد هاميريه. حيث ساهم في تكوين جهاز سري للاستخبارات مقره الرئيسي في الإسكندرية، وضع على رأسه سيدة بهودية عرفت بعلاقاتها المتينة مع الحركة العمالية بمصر وتدعي اروث كليفرة، وحددت مهمتها بالعمل على إيجاد وسائل لتهريب البهود المصريين إلى فلسطين. وفي أقل من عام انشأت كليفر شبكة واسعة، واستعانت بيهودي يملك مكتبة للقرطاسية في الإسكندرية ويدعي البرت شويكة، لمساعدتها في إدارة الشبكة. واستطاعت عبر نشاطات الشبكة الحصول على جوازات مؤقتة، وتاشيرات مرور (ترانزيت)، وتسهيلات متعددة، ساهمت في الهجرة السرية لأعداد كبيرة من اليهود المصريين الذين انتقلوا إلى أوروبا ومنها إلى فلسطين ... وحدث مرة أن اتصلت بالمناعي اليهودي فطاوي باشا، وهو زعيم الطائفة اليهودية في القاهرة، وطلبت إليه تمويل الهجرة غير القانونية إلى فلسطين، فأجابها مهددة بإثارة كلابه عليها. هذا في الوقت الذي كان فيه بفف قسم كبير من يهود مصر ضد الصهيونية، كما أقدم رئيس الحاخامين حاييم ناحوم باشا، وكان كفيف البصر تقريبا، على استنكار الصهيونية وأغراضها (83). اكثرت الاستخبارات الإسرائيلية من عملائها في مصر لتهريب اليهود إلى فلسطين. ففي ربيع 1944، وصل إلى مصر أحد كبار عملائها، ليفي إبراهام، متنكرا بصفة ضابط إنكليزي نظرا لأهمية مصر بالنسبة إلى البريطانيين والعرب، وقد كانت القاهرة مقر الإنكليز العام في الشرق الأوسط، وخير مكان يستشف فيه ما يخبأ الإنكليز من خطط للمنطقة، ومن الممكن تحري مواقف زعماء العرب فيها. وقد استأثر مع إحدى العميلات المتحدرة من عائلة يهودية غنية من سكان الاسكندرية تدعى «بولانده غاباي»، استأجرا فيلا خارج الاسكندرية وادعيا أنها مقر أستجمام صحي لجنود الحلفاء ولم تكن في واقع الأمر سوى قاعدة لتهريب اليهود إلى فلسطين، كما انضم إيلي كوهين، الجاسوس المشهور، إلى هذه الشبكة أيضا، (89)
وبالرغم من التركيز الصهيوني - الإنكليزي على مصر، إلا أن البلدان العربية الأخرى عرفت حالة مماثلة، خاصة فيما يتعلق بدول الطوق. إلا أن مصر كانت تحتل المرتبة الأولى في هذا المجال، مع الإشارة إلى أن الأساليب التي اتبعت في مصر، هي ذاتها التي طبقت في الدول العربية الأخرى في سبيل هدف واحد يخدم القضية الصهيونية والسياسة الإنكليزية معا. 
وجميع هذه الأساليب، كانت بمثابة حلقات في سلسلة استعمارية ذات أهداف وأبعاد مشتركة بقصد تجزئة المنطقة وتفتيتها إلى دويلات عنصرية على غرار ما أعلن في فلسطين عام 1948 بقيام دولة الاحتلال الصهيوني، لأن التجزئة هي دائما افعل استعماري»، وكان لبريطانيا اليد الطولى في إقامة الدولة الصهيونية، بعد أن ساهمت في خلق كيانات طائفية في المنطقة إلى جانب الاستعمار الفرنسي، على ضوء قرارات مؤتمر سان ريمو في 20 نيسان 1920. مع العلم بأنها كانت تعمل في هذا الاتجاه منذ مدة طويلة عن طريق قنصلها في بيروت، ريتشارد وود، الذي حمل البطريرك يوسف حبيش إلى الوقوف مع الأتراك في وجه الأمير بشير الشهابي وإبراهيم باشا المصري القاء دعم إمارة مارونية في لبنان تتمتع باستقلال ذاتي (80). هذا بالإضافة إلى الأخذ بعين الاعتبار مقررات مؤتمر كامبل بنرمان عام 1907، التي نصت على ضرورة تفتيت المنطقة العربية واستمرارية تجزئتها حتى لا تنهار الامبراطوريات الاستعمارية فوجود الكيانات الطائفية العنصرية هي الضمانة الأساسية لتأخير مصير الاستعمار، في الوقت الذي يضمن فيه توجيه الضربات الموجعة لأية حركة تحررية تنشأ في داخل هذه الحدود وتهدد وجودها.
فدولة الاحتلال الصهيوني في النموذج، وإحاطتها بكيانات مماثلة هو الهدف المركزي وياتي عمل الاستخبارات ونشاطها لينقل هذه المشاريع من مجرد أفكار إلى وقائع ملموسة، ولم يكن قيام إسرائيل بعيدا عن هذا النشاط ابدأ لعرقلة أي عمل وحدوي يحتمل قيامه.







مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید