المنشورات
حرب أكتوبر 1973:
وبالرغم من هذا التنسيق الاستخباري الأميركي - الصهيوني على أعلى المستويات، فقد جاءت حرب السادس من تشرين الأول 1973 لتثبت عجز الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية وهزيمنها المشتركة إزاء هذه الحرب المفاجئة
ونظرا للعلاقة الوثيقة التي تجمع المخابرات الإسرائيلية مع مثيلاتها الأميركية والأوروبية، فقد طار «تسفي زامير، رئيس الموساد (كما طار من قبله مائير عميت قبل حرب حزيران 1997) إلى كل من أوروبا وأميركا بمهمة سرية ليحاول التحقق من المعلومات التي وردت إليهم قبل حرب تشرين 1973 باستعدادات العرب للهجوم ضد إسرائيل، وفي صباح السادس من تشرين الأول بعث ببرقية محمومة إلى رئيسة الوزراء غولدا مائير تقول: إن الحرب ستبدأ اليوم ... وكان الأوان قد فات (19).
إن هذه المفاجأة التي منيت بها الاستخبارات الإسرائيلية بحرب تشرين 73 كانت نتيجة الفكرة، التي كان يتمسك بها القادة الإسرائيليون المستندة إلى أن الحرب لن تقع بسبب عجز العرب عن القيام باتخاذ قرار الهجوم ضدهم. وقد كانت هذه والفكرة، متأصلة الجذور في أذهان العسكريين، حتى أن الجنرال الياهو زعيرا، الذي كان يشغل منصب رئيس الاستخبارات العسكرية ذهب في ظهر ذلك اليوم في السادس من تشرين أول إلى مؤتمر صحفي قصير في تل أبيب وهو مطمئن إلى حقيقة - الفكرة .. وعندما تكلم بهدوء وثقة بالنفس إلى رجال الصحافة المحتشدين کرر قوله: لن تقع الحرب.
وفي الساعة الثانية من بعد الظهر، دخل ضابط برتبة ميجر مهناجا إلى غرفة المؤتمر الصحفي، ودفع ببرقية إلى الجنرال زعيرا، وعندما قرأها هذا، خرج من الغرفة دون أن ينبث ببنت شفة، ولم يعد مرة أخرى. أدرك الصحفيون الحقيقة على الفور بأن الحرب وقعت. وفي جميع أرجاء تل أبيب، أخذت صفارات الإنذار ترسل صيحاتها (27)
في الواقع، لم يكن هناك تقييم صحيح من قبل المخابرات الإسرائيلية للمعلومات التي وصلتها قبل نشوب الحرب من مصادرها الخاصة وكذلك من الاستخبارات الأمريكية فيما يتعلق بالحشود المصرية والسورية. لذلك اثبتت حرب رمضان أو كما يطلق عليها حرب ايوم الغفران»، تقصير الاستخبارات في صحة تقيم النوايا والقدرات العربية، حيث استطاعت الجيوش العربية تحقيق المباغتة وتقويض نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة أساسا على أن «الاستخبارات عنصر إنجاح الطيران في تنفيذ الضربة الوقائية وإفشال الاستعدادات العربية، على حد قول زئيف شيف المعلق العسكري الإسرائيلي (8).
من الواضح أن المخابرات الإسرائيلية بالتنسيق مع الأميركيين في هذا المجال، تجمعت لديها المعلومات التي تؤكد الاستعدادات المصرية على الأقل لبدء القتال خاصة في الثاني من تشرين أول بعد عودة غولدا مائير رئيسة الوزراء من النمسا، بعد أن حاولت إقناع المستشار کرايسکي بالعدول عن قراره المتعلق بإغلاق معسكر المهاجرين اليهود في النمسا على أثر مهاجمة رجال الثورة الفلسطينية في التاسع والعشرين من أيلول 1973 قطار نقل هؤلاء المهاجرين اليهود. وفي الثالث من تشرين الأول 73 عقدت غولدا مائير اجتماعا سمي اجتماع حكومة الحرب، استمعت فيه إلى تقرير الاستخبارات الذي أكد أيضا على أن الاستعدادات المصرية لا تتخطى مناورات الخريف، وان احتمالات الحرب ضئيلة، وأن بإمكان الاستخبارات الإنذار بالحرب قبل بدئها ب 48 ساعة، ثم اتفق على أنه لا لزوم لدعوة الاحتياط على ضوء هذا التقرير (2).
ويشير بعض المراقبين إلى الدور الذي لعبته عمليات خطف الطائرات التي قامت بها مجموعات من رجال المقاومة الفلسطينية. هذه العمليات ازعجت إسرائيل وأخذت معظم اهتمامات المخابرات الإسرائيلية وأشغلتها عن متابعة استعدادات الحرب في مصر وسوريا. حتى أن المراقبين المحايدين يعتقدون بأن مفاجأة حرب رمضان للعدو تعود في أحد أسبابها لهذه العمليات (10).
وبنوع من التفصيل الدقيق حول الدور الذي لعبته المخابرات المركزية الأميركية بذكر (جون فيني، (نيويورك تايمز / نقلته الأهرام القاهرية في 73
/ 11/ 4) أن إسرائيل حملت قبل الحرب بعام ونصف على صور مفصلة لطرق جديدة تؤدي إلى نقطة التقاء هامة على الضفة الغربية وكشفت الصور معدات سوفياتية لبناء الجسور مجمعة قرب نقاط العبور المحتلة. وعندما عرضت الصور على الخبراء الأميركيين خرجت التقديرات الأميركية بنتيجة واحدة هي أن عبور القناة على نطاق واسع يمثل تحذية يفوق قدرة الجيش المصري، ولقد أكد الخبير البريطاني ك. أ. س. تايلر (نقلته الحوادث، البيرونية في 1973
/ 10/ 19) أن سبب الخطأ في التقدير الذي وقع فيه الخبراء الاستراتيجيون الغربيون يعود إلى ضعف في الحساب لا إلى ضعف في المعرفة الاستراتيجية (11)
ومن خلال العودة إلى بعض التصريحات التي أطلقها بعض المسؤولين الأميركيين بخصوص هذه الحرب، نرى بأن مباغتة الاستخبارات الأميركية (كما هي الحال بالنسبة للمخابرات الإسرائيلية كانت كاملة، حتى أن وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر صرح في مؤتمر صحفي عقده في الثاني عشر من تشرين الأول ذكرته «الأهرام، القاهرية في 73
/ 11/ 4) بأنه قد فوجيء تماما بالحرب عندما أوقظ في السادسة صباحا ليعلم بأن الحرب قد اندلعت على نطاق واسع في الشرق. الأوسط (12).
وبالرغم من الفشل الذي منيت به الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية، إلا أن الولايات المتحدة لم تتخل عن حليفتها الاستراتيجية الأولى في الشرق الأوسط؛ حيث عمدت إلى مدها بجميع المساعدات ووسائل الدعم التي تستطيع بواسطتها التعويض عن التقصير الذي تحملت الولايات المتحدة قسطه الأكبر.
لذلك، منذ السابع من تشرين الأول 73، بدأت طائرات شركة العال الإسرائيلية رحلاتها السرية السريعة إلى القواعد الجوية والبحرية في الولايات المتحدة لشحن الأخيرة والأسلحة الخفيفة والمعدات. إلا أن الولايات المتحدة بدأت بدورها في 73
/ 10/ 13، وبصورة علنية ورسمية شحن مواد أولية ومعدات وأسلحة إلى إسرائيل، عبر جسر جوي من قواعد أمريكية في الولايات المتحدة والمانيا الغربية
كانت الطائرات المحملة بهذه التجهيزات تهبط مباشرة في قاعدة العريش، تحمل الصواريخ الموجهة من الجو إلى الأرض وصواريخ موجهة ضد الدبابات والتحصينات، وذخيرة وقنابل وطائرات استطلاع بدون طيار، كذلك أقامت الولايات المتحدة جسرة بحرية لنقل الأعندة والتجهيزات والأسلحة الثقيلة (13).
من ناحية أخرى، أدت هذه المباغتة إلى إبراز التناقضات بين القادة الإسرائيليين، خاصة في المجال العسكري، إلى السطح. وكان وأرييل شارون، في
طليعة هؤلاء الذين حملوا لواء النقمة والاتهام لأنه كان خارج الجيش في تلك الفترة بعد أن ترکه قبل نشوب الحرب بأشهر ثلاثة تقريبا.
لقد حمل شارون الجنرال «بارليف، شخصيا مسؤولية الخسائر التي مني بها الجيش الإسرائيلي خلال حرب 73، حيث كان من أشد المعارضين الخط بارليفه وفي معرض ذلك يقول الجنرال شارون: إن رئيس الأركان العامة في حرب يوم الغفران داليد اليعازر هو الذي قرر تخفيف القوات في خط بارليف، واضاف: «إنه لولا ذلك القرار، لكان عدد الضحايا على طول الخط أكبر بكثير، ولو أننا قبلنا بوجهة نظر «بارليف، حتى نهايتها لكانت إسرائيل، قد دفعت الثمن الوف الضحاياه. إنه يؤمن بالجيش المتحرك الهجومي ذي المفاجآت والعمليات الخطرة لا بجيش خط بارليفه. كما كان يعتقد أن القيادة العسكرية العليا في حرب 1973 اخطات في استيعاب المعركة، وإنها لم تقرر اجتياز القناة في وقت مبكر. ويدعي شارون بأنه أعد مخطط الاختراق - الذي عرف فيما بعد بخطة الغزالة أو ثغرة الدفر سوار - في وقت سابق للحرب عندما كان قائدا للمنطقة الجنوبية، وعلى هذا الأساس اتخذ من منطقة والطاسة في سيناء مركزا لقيادة قواته، ويكاد يكون من الثابت أن شارون قد استفاد بشكل خاص من الصور والمعلومات التي نقلتها الطائرات والاقمار الأميركية التي كانت تمسح مناطق القتال بشكل دائم (1). و رغم ذلك، ومن خلال التصريح الذي أطلقه الرئيس المصري أنور السادات بعد موافقته على وقف إطلاق النار قائلا: بأنه ليس قادرة على محاربة أميركاء، كدليل على مدى التنسيق والتحالف الاستراتيجي الأميركي - الإسرائيلي ... إلا أن هذه الحرب اثبتت بالملموس قدرة المقاتل العربي على تحطيم نظرية الأمن الصهيونية عندما يتوفر له القرار السياسي الداعي إلى القتال؛ كما أثبتت في الوقت نفسه ندرته وكفاءته في استخدام الأسلحة الحديثة والمتطورة بعد سنوات طويلة من الحملة الدعائية الإسرائيلية المركزة حول مستوى المقاتل العربي وتدنيه امم مستوى الجندي الصهيوني. وقد كان لهذا العامل (القدرة والكفاءة العربية) دوره الهام على صعيد النتائج التي تمخضت عنها حرب يوم الغفران، فيما يتعلق بدولة الاحتلال الصهيوني.
فبعد توقف الحرب، عمدت القيادة الإسرائيلية إلى عملية تقييم شاملة لما جري، وشكلت لهذه الغاية لجنة خاصة مهمتها تحديد مسؤولية والتقصيره، عرفت فيما بعد بلجنة إغرانات». كانت هذه اللجنة برئاسة الدكتور اشمعون إغرانات، رئيس المحكمة العليا، وعضوية «موشي لاندوا قاضي المحكمة العليا، والدكتور ابتسحاق تفنشال، مراقب حسابات الدولة، واللواء الاحتياطي «إيكال بادين، استاذ بالجامعة العبرية، واللواء الاحتياط رحاييم لاسكوف: مفوض شکاري الجنود. وقد قررت هذه اللجنة بالجزء الأول من تقريرها ما يلي: تتحمل مديرية الاستخبارات العسكرية مسؤولية الخطأ في تقيم نوايا وقدرات القوات العربية. وعلى ضوء ذلك يعتبر الأشخاص التالون غير صالحين للعمل في الاستخبارات: ا. العميد إلياهو زعيرا، مدير الاستخبارات العسكرية. عين مكانه شلومو غازيت
الذي رقي إلى رتبة لواء في أول كانون الثاني 1973. وأصبح منذ الثالث من نيسان 1974 رئيسا للاستخبارات العسكرية وبالتالي عضوا في هيئة الأركان
العامة 2 - ارپيه شاليف، مدير شعبة الأبحاث في مديرية الاستخبارات حيث عين مكانه
العميد يشعياهو رافيف، الذي أصبح عضو لجنة التنسيق العليا لاجهزة
الاستخبارات الإسرائيلية. 3. المقذم ابونا بندمان، رئيس قسم مصر في شعبة الأبحاث. - المقدم دافيد غيداليا، رئيس فرع الاستخبارات في قيادة المنطقة الجنوبية. عين
مكانه الكولونيل اتسفي شاليف، الذي كان يشغل منصب ضابط الاستخبارات في قيادة القوات المدرعة في سينا (1).
من ناحية أخرى، لم تلجا القيادة الأميركية إلى ما لجأت إليه القيادة الإسرائيلية بصدد تشكيل لجنة تحقيق في التقصيرة الأميركي في تحديد موعد نشوب الحرب، على غرار الجنة إغرانات، بل كان جل ما فعلته الولايات المتحدة هي استخلاص العبر والدروس من حرب أوكتوبر.
وقد أشار وزير الدفاع الأمريكي جيمس شليسنغر، بهذا الصدد إلى عدد من الدروس العسكرية التي تعلمنها الولايات المتحدة عن حرب الشرق الأوسط، خاصة بعد أن شغل منصب رئاسة المخابرات المركزية الأميركية في أواخر عام 1972 من قبل الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلفا لرئيسها السابق اريتشارد مبلمز، الذي نقل إلى العمل الدبلوماسي سفيرة للولايات المتحدة في ايران. إلا أن شغور مرکز وزير الدفاع، اجبر نيکسون على تعيين «شليسنغر، في هذا المنصب على أن يتولى رئاسة المخابرات بدلا عنه دوليام كولبي (29).
سلط جيمس شليسنغر الضوء في تقريره الدفاعي حول هذه الدروس قائلا بأن الأميركيين تعلموا دروسا عسكرية مفيدة. مثلا: قيمة الكفاءة العسكرية للولايات المتحدة، الكفاءة في النقل الجوي والنقل البحري للذخيرة، والمعدات المطلوبة عبر مسافات طويلة كما تأكدت أهمية الوجود الرادع للاسطول السادس. إن سرعة التجارب الإداري - الإمدادي، والوجود البحري الأميركي الكبير فعل الكثير لجعل تأثيرات الحرب اكثر اعتدالا ... وأضاف شلينغر قائلا: إنه بينما تم تنفيذ جهد النقل الجوي إلى الشرق الأوسط بنجاح كبير، وجدنا أن اعتمادنا على هذا النوع من النقل قد تزايد كثيرة، ولهذا، فإننا نحتاج لزيادة هذه القدرة.
في المقابل، يضيف شليسنغر، لقد أثبتت القوات الجوية الإسرائيلية أن استعمال والرذاذ المعدني، بشكل جيد، وبكميات كافية يمكن أن يصبح أسلوبا فعالا لتوفير حماية ذاتية للطائرات ضد الكثافة العالية لصواريخ سام الدفاعية (17).
وهكذا يبدو بصورة واضحة، لا مجال فيها لأي شك أو غموض، مدى عظم الالتزام الأميركي تجاه إسرائيل، في الوقت الذي يعترف فيه وزير الدفاع الأميركي ذاته ورئيس مخابراتها المركزية السابق، بهذا الدعم الهائل من أجل إبقاء «إسرائيل، أضخم قوة عسكرية حليفة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما لم يعد مجال للشك ايضا في عملية التنسيق القصوى بين الاستخبارات الصهيونية وزميلتها الأميركية.
مصادر و المراجع :
١- موسوعة الامن
والاستخبارات في العالم
المؤلف: د. صالح
زهر الدين
الناشر: المركز
الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت
الطبعة: الاولى
تاريخ النشر:2002
م
2 أبريل 2024
تعليقات (0)