المنشورات

حرب تشرين ومفاجأة الإسرائيليين وذهولهم

تعتبر المعلومات عنصرا أساسيا في الحرب كما في السلم. وإذا كان من المهم جمع المعلومات، فإن الأهم من المهم هو فهم هذه المعلومات، وحسن إستخدامها في المكان المناسب والوقت المناسب. وفي أحيان كثيرة، تؤدي كثرة المعلومات الى حالة من الغرور والنشوة" لدى صاحبها ... وهذا الغرور، وهذه النشوة، تدفعاه أحيانا الى حالة من " العمي" عما يجري في جبهة الخصم، من خلال إعتماده يقينية على " نظرة سابقة " و" تصور " يكاد يكون "استراتيجيا" عنده، فيقع في " فخ المفاجأة" ومصيدها الكارثة. وهذا ما حصل مع جهاز المخابرات الاسرائيلية في أوقات مختلفة - خاصة في حرب تشرين 1973 - . لذلك كانت الباحثة روبرتا وولستاتر على حق عندما قالت (في معرض الإشارة إلى الهجوم الياباني المفاجيء ضد القوات الأميركية في بيرل هاربر) بأن " التقصير لم ينجم عن النقص في المعلومات، بل في عدم فهم المعلومات ...لذلك لا يوجد في كثرة المعلومات، حتى الموثوقة منها أي ضمان لعدم الوقوع في مصيدة المفاجأة" (1).
هذا، وتؤكد الموسوعة العسكرية الإسرائيلية الخاصة بسلاح الاستخبارات، بدورها "أن القاسم المشترك لفشل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في حرب يوم الغفران، والعدد من الأمثلة التاريخية على فشل إستخبارات أجنبية هو: أن هذه الانتكاسات لم تأت عن قلة المعلومات أو الدلائل المؤشرة والمحذرة، وإنما عن التقييم غير الصحيح لهذه المعلومات ... (2)
والجدير بالذكر، أن " الغرور الاستخباري الاسرائيلي" وصل الى حد عدم التمييز بين الاشارة" و "الضجة" (أو الهزة)، في تعامله مع المعلومات المتعلقة بحرب تشرين 1973، وهو ذاته الذي أدى به الى تحميله مسؤولية "التقصير الناجمة عن هذه الحرب ... يضاف الى ذلك، عدم التنسيق الاستخباري بين "خبراء الاشارة" و "خبراء الضجة (أو الهزة) في هذه الأجهزة، مما أوقعهم جميعا في الفخ الواحد الذي نصب عربية ببراعة فائقة، مما ولد "الذهول والمفاجأة" معا داخل المجتمع الاسرائيلي (3).
وهكذا أثبتت حرب تشرين / أكتوبر 1973، هشاشة بعض - " المسلمات الاسرائيلية من جهة، وقلب بعض " المفاهيم " على الصعيد العربي، التي كانت تعتبرها الاستخبارات العدوة تدخل في باب " البديهيات " المسلم بها لديها من جهة ثانية، بعد أن أثبت المقاتل العربي قدرته على القتال عندما يتوفر له القرار السياسي بذلك، وكذلك تفوقه أيضا على نظيره الاسرائيلي عبر جرأة وكفاءة نادرتين، فاجأت العدو الصهيوني وحلفاءه من ناحية، كما أذهلتهم من ناحية أخرى، وأحدثت فيهم ما يشبه الصدمة الكهربائية، والهزة النفسية الكبيرة. وهذا ما أدى بدوره الى سقوط النظرية الاسرائيلية القائلة ب " الفرق النوعي بين الجندي الاسرائيلي والجندي العربي. وقد أقر رئيس الاركان الاسرائيلي يومها دافيد اليعازار بهذا الاعتراف، ونجاح الجندي العربي نجاحا منقطع النظير، عبر مذكراته قائلا: " ... بعد أن بدأ جنودنا يهربون من الجبهة، وكانوا يتعمدون إتلاف معداهم العسكرية وهم في طريقهم إلى الجبهة، وقبل أن يصلوا اليها، وبعد أن انهارت الروح المعنوية للشعب في إسرائيل ... أود أن أقر قبل أن أفي الكتابة عن هذه الأيام الطويلة، والمريرة، في تاريخنا ... أود أن أقر أن الجنود العرب قد نجحوا في إستخدام الأسلحة الالكترونية الحديثة، واهم تقدموا تكتيكيا على إستخدام العتاد الحربي المتطور ... كما أنهم نجحوا في إخفاء إستعدادهم للحرب وموعد الهجوم ... بالإضافة إلى نجاحهم استراتيجيا ... حيث سيطروا على مناطق استراتيجية هامة في سيناء ... بالإضافة إلى قناة السويس، كما أنهم نجحوا في عبور القناة. وفي إتلاف أجهزة الإشعال على الضفة الشرقية ... ولست أريد أن أتحدث عن الثغرة التي أحدثها جيشنا في الضفة الغربية من قناة السويس، لأن رجل الشارع في إسرائيل أصبح يدرك تماما أن معناها الوحيد أنها مصيدة نصبها الجيش المصري لاستمرار الريف من شريان الدم الإسرائيلي؟؟ وأخيرة ... استخدموا سلاح البترول بمهارة ودقة فائقتين ... " (4).
فضلا عن ذلك، أن لجنة اغرانات (التي تشكلت بعد حرب تشرين والتي يطلق عليها الإسرائيليون إسم " حرب يوم الغفران ") " قررت بأن جهاز الاستخبارات الإسرائيلية) هو مسؤول بدرجة كبيرة عن النجاح غير المتوقع الذي حققته مصر وسوريا في الأيام الأولى للحرب" (5) وهذا النجاح سيبه عنصر المفاجأة" بجميع أشكالها وأساليبها ووسائلها، ذلك لأن المفاجأة هي عبارة عن إكتشاف مفاجيء وقاطع لعدم وجود تطابق بين التقدير، والواقع" (6). وفي الوقت الذي يعترف فيه تسفي لنير (عميد إحتياط في الإستخبارات العسكرية) بأن "حرب يوم الغفران مفاجأة وذهول" للإسرائيليين كلهم، فقد وصفها الجنرال دافيد اليعازر في مذكراته بأنها "زلزال مروع وعاصفة مباغتة" (7).
والواقع، أن لجنة اغرانات "قررت بأن مفاجأة حرب يوم الغفران حدثت بسبب أن شعبة الإستخبارات في الجيش الإسرائيلي كان لديها "تصور خاطئ، بالنسبة لإفتراضين إستراتيجيين: الأول: لن تخرج مصر للحرب ضد إسرائيل إلا إذا ضمنت لنفسها قدرة جوية على مهاجمة العمق الإسرائيلي، وخاصة القواعد الجوية الرئيسية في إسرائيل، بهدف شل قدرة سلاح الجو الإسرائيلي. الثاني: لن تبدأ سوريا بشن هجوم واسع على إسرائيل إلا بالإشتراك مع مصر في آن واحد" (8). وعلى هذا الأساس، كان تقدير الاستخبارات الإسرائيلية في هذه المرة، بأن إمكانية الحرب قليلة" (9).
وإذا تساءلنا عن السبب الكامن في هذا التصور الخاطيء" للإستخبارات الاسرائيلية، فإننا نجد بأن ذلك يعود إلى أن الكيان الصهيوني "رسخ بعد سلسلة حروب إسرائيل منذ حرب 1948 وحتى يوم حرب تشرين، في ذهن المجتمع الإسرائيلي إعتقادين: الأول أن أمن إسرائيل يضمن بالوسائل العسكرية، وليس السياسية. والثاني أن كل مجابهة عسكرية مع العرب، ستنتهي بتعزيز الأمن الإسرائيلي ...ولقد أدت حرب تشرين إلى إفيار هذين الإعتقادين تماما. وأثارت من جديد، وبشكل بارز، الشعور بعدم ضمان إسرائيل. إن أحد الدروس التي تعلمها الإسرائيليون من تجاربهم في حررهم مع الدول العربية، هو عدم قدرة إسرائيل على ترجمة إنجازاتها العسكرية الى مكاسب سياسية دائمة ... لقد كانت حرب يوم الغفران تجديدا بالمقارنة مع سلسلة حروب إسرائيل منذ حرب 1998 (التي يطلق عليها الإسرائيليون إسم "حرب الإستقلال"). وهذه هي المرة الأولى التي يجد فيها الجيش الإسرائيلي نفسه متورطة في حرب بدأت بكامل قوة العدو ... ومن المحتمل أن لا يكون لها مثيل بالنسبة للشعب الإسرائيلي من حيث قوة تأثيرها ... (10).
لقد كانت حرب تشرين فعلا، من أهم المفاجآت التي حلت کابوس "الكارثة" بالنسبة للمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين الإسرائيليين، حيث انهار أثناءها، وبكي أيضا، عدد من غلاة العسكريين الصهيونيين من أمثال موشي دايان وحاييم بارليف، وكذلك من السياسيين من أمثال غولدا مائير وغيرهم ... وهذا ما عبر عنه أفضل تعبير رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال دافيد اليعازر يومها _ الذي اعتبر نفسه كبش محرقة _ في مذكراته، لأنها بالفعل " كانت تلك أول حرب، بلغ فيها تدمير القوات هذا المستوى العالي، الى درجة جعلت الحكومة الإسرائيلية تقرر في اليوم الثالث للحرب أنه بدون وصول شحنات أسلحة أميركية وقطع غيار، لن تستطيع إسرائيل مواصلة الحرب. كانت تلك حرب إستخدم فيها السلاح الإقتصادي سلاح النفط، بشكل ضعضغ التأييد الدولي لإسرائيل، وكما اتضح فيما بعد، التأييد الأميركي لإسرائيل أيضا" (11) _على حد قول لنير
على ضوء ذلك، كتب دافيد اليعازر في مذكراته عن "مكالمة أطول من الدهر" بين الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ورئيسة وزراء العدو غولدا مائير، طلبت فيها غولدا مائير أحدث الأجهزة الألكترونية والطائرات والدبابات وغيرها ... فكان رد الرئيس نيکسون عليها قائلا: " سوف يأتيكم أكثر مما تتوقعون ... لكن عليكم أن تتجنبوا الخسائر البشرية ... حتى لا نضطر إلى التدخل بصفة علنية، وذلك بإرسال قوات أميركية ... لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي لا نستطيع أن تعبئه في صناديق ونرسله اليكم ... " (12). إن حرب تشرين 1973 قلبت المقاييس والخطط: فالعرب رقتوا والعرب هاجموا ... والإسرائيليون كانوا في موقع "المفاجأة"، عکس كل المرات السابقة ... والدفاع أمر قاتل و مرير بالنسبة للإسرائيليين ... لقد أسقطت حرب تشرين الهالة المنسوجة حول "آلهة "الحرب الإسرائيليين، كما أحدثت تغييرا هائلا في نظرة الإسرائيليين والمجتمع الإسرائيلي بمختلف فئاته تجاه القيادة السياسية والعسكرية والأمنية الدولة الإحتلال، بمعنى إنهيار الروح المعنوية فيها ... وفي الوقت نفسه، فقد هزت هذه الحرب جهاز الموساد بكل تركيبته وهيكليته، وزعزعت ثقته بنفسه من ناحية، وثقة الإسرائيليين به من ناحية ثانية.
واللافت للنظر، أن فشل المخابرات الإسرائيلية في حرب تشرين أدى إلى تحطيم إسطورة " الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ". وقد
عبر العميد تسفي لنير عن هذا الواقع أصدق تعبير عندما قال: في يوم الغفران إفار الإيمان بأن الجيش الإسرائيلي يمثل "هدب العين" داخل المجتمع الإسرائيلي ... وظهر على حقيقته كأنه شرنقة تتداعي أمام أدمن درجات التنسيق العربي ... " (13).
وبدوره، عبر الجنرال دافيد اليعازر عن ذلك قائلا: " لقد إبتلعنا الطعم الأول في خطة الخداع (المصرية السورية). وبقدر ذكاء خطة الخداع هذه، كان القصور في جهاز مخابراتنا " (14) وحسب ما ذكره اليعازار أيضا في مذكراته عن بعض الصحفيين الإسرائيليين قولهم: "إن هذه الحرب كانت أقسى حرب شهدها إسرائيل على مدى تاريخها " (10) ... ولقد نسفت بالفعل الأوهام الإسرائيلية، والثقة الفائقة بالنفس، وأكدت للعالم كله - ومن قبله الإسرائيليين وقادهم الأمنيين تحديد - أن الإستخبارات العسكرية والموساد يخطيء كغيره من الأجهزة الأخرى.
إضافة لذلك، يعترف الجنرال اليعازر أيضا أن رئيس الإستخبارات الإسرائيلية ايلي زعيرا كان مقتنعا بأن المصريين عاجزون عن شن أية حرب ضد إسرائيل لأهم مقتنعون بأهم سيهزمون هزيمة ساحقة ... وقد كان الجنرال موشي دايان موافقا الرأي ايلي زعيرا (16). لقد كان "الغرور" راكبا رأس بعض القادة الإسرائيليين - ومنهم بالطبع دايان وزعيرا حيث كانت "نزعة التخليد" هي التي تفعل فعلها في نفوس هؤلاء، باعتبار أن موشي دايان مثلا "كان يحلم بعمل يخلد إسمه إلى الأبد " (على غرار الجنرال حاييم بارليف وخطه الدفاعي الذي أطلق عليه إسمه). وقد
كان دايان يعبر عن هذا الحلم بخريطته العسكرية التي رسمها بخط يده، والتي كان يحملها في حقيبته تحت إسم "الحزام العسكري الأسود". وبتحقيق حلم الحزام الأسود يتغير إسمه إلى "حزام دايان" (17). إلا أن حرب تشرين، واندلاعها بالشكل الذي اندلعت فيه، أدت فيما بعد الى مشادة عنيفة بين الجنرالين موشي دايان وايلي زعيرا، بعد أن حمل دايان لزعيرا مسؤولية ما حدث، وبنفس الحدة حمل زعيرا لدايان والمسؤولين الآخرين تلك المسؤولية (18). 
ويعلق دافيد اليعازر على "حلم موشي دايان وخارطته العسكرية لخلق إسرائيل الآمنة إلى الأبد، وجعل حدودها مع العرب قوية وحصينة، لا يخترقها الهواء"، بالقول:" لقد كان دايان يفكر كما لو أن العرب غير موجودين، أو المهم انتهوا إلى الأبد ... أو كما كان يردد دائما: الجسد الميت لا يحتاج ابدا الى أن نقيم له حسابات" (19).
في هذا الاطار، تبدو شهادة ابنة موشي دايان، يائيل دايان، مهمة جدا، عندما تقول: " أن الحروب السابقة التي خضناها ضد العرب، كانت توحدنا؛ وحدها، حرب يوم الغفران، فرقت صفوفنا، وطرحت علينا أسئلة هزت المجتمع الاسرائيلي، رأفقدته توازنه. لماذا جرى ما جرى؟ كيف حصل؟ من المسؤول؟ الدماء التي نزفت على الجبهات من يعوض عنها؟ كنا نظن أننا في حدود آمنة، والعرب مهزومون جدا، فمن وضعنا في أيام قليلة، أمام الخطر؟ " (20). أسئلة ابنة موشي دايان هذه، جاءت في كتاب بعنوان " أبي"،
جاءت عندما كانت تساعد المصابين والجرحى في المستشفيات. وكانت أسئلة مكتومة في صدرها وفي عيون من تراه الى جانبها. ولكن عندما انتهت الحرب، رأت كل الاجابات في طريقة والدها في الكلام ...
تقول:" كان أبي ضحية ... نبرة صوته تغيرت ... لم يعد فيه حياة ... أين ابتسامته؟ لماذا تغير؟ كلما حدثته عن نفسه وعن العائلة وعن زوجته كان يجيبني عن تقرير" أغرانات " وعن المسؤولية (21). هكذا يبدو، أن يائيل دايان كانت مقتنعة - کابيها وكجميع المغرورين في دولة الاحتلال الصهيوني - بأن العرب مهزومون إلى الابد ... وهذا ما يدل دلالة واضحة على أهم جميعا كانوا يجهلون تماما ما كان يردده دائما صديقهم الحميم، وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، حيث كان يقول: " إن اليد التي تظنها ضعيفة، تصيبك بالعمى إذا وصلت الى عينيك".
أليس هذا التعبير هو ما يصور تصويرة حيا حالة "العمي الاسرائيلية " بعد أن وصلت اليد العربية إلى "عين إسرائيل " والى كل أعضائها في حرب تشرين؟ أليس هذا ما دفع برئيس دولة الاحتلال يومها (الذي كان في مقر القيادة مع موشي دايان واليعازر وغيرهم) أن يغادر المقر صارخا في وجوههم بعصبية: " إدفعوا الآن ثمن غرور کم وسوء تقدير کم واسترخائكم؟ " (22).
هذا، وبالاضافة إلى "العقدة" التي اصيب بها كثيرون من المسؤولين الاسرائيليين والمسماة ب" عقدة خليج بيرل هاربر " (23)، فقد انتشر، بعد حرب تشرين، في عقول وقلوب واجساد القادة الاسرائيليين وجنودهم - من مختلف الفئات والمراتب والوظائف على انواعها - ما يمكن تشبيهه با تورم خبيث " هو "ورم الثقة" , ورم الخوف الدائم"، الذي لم يعرفوه من قبل ... ولا يزال هذا الورم يتفاقم يوما بعد يوم من جراء الهزائم المتوالية التي يمني بها جهاز المخابرات الاسرائيلية والجيش الاسرائيلي (خصوصا إثر الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وبروز جبهة المقاومة الوطنية والاسلامية ... ). ولكن عقدة "الغرور والاستعلاء والتفوق " التي يتميز بها قادة الأمن الاسرائيلي والموساد خاصة) تجعلهم في موقع ينقصهم فيه " الجرأة والقدرة على الاعتراف بهذا " الورم " الذي يتسلل إلى كل مفاصلهم، بل أصبح يعيش مع الدم ويسري في عروقهم ...
والحقيقة أن دولة الاحتلال الصهيوني، التي قامت عل أرض فلسطين العربية، فوق أكوام من الجثث والدمار والمجازر، ليست دولة سلام، ولا يمكن أن تكون ... إنها دولة حرب بكل ما في هذه الكلمة من معنى ... إنها مجتمع حربي، وثكنة عسكرية قائمة بذاتها؛ اها دولة المدنيين العسكريين والعسكريين المدنيين بمختلف صورها ووجوهها ... إنها دولة سيطرة بالقوة، وقوة بالسيطرة ...
لذلك فإننا لا نستغرب أن نجد بعض مسؤوليها يدعو إلى السيطرة عبر الاقتصاد، واقامة "سلام اقتصادي، بينما يعارض البعض الآخر ذلك داعيا إلى "سلام القوة". ويتمثل هذا النموذج مثلا بكل من ناحوم غولدمان (الذي يسمى الاب الرابع لإسرائيل) الذي يقول:"بأن السلام الاقتصادي هو أكثر ضمانا لبقاء اسرائيل"، بينما يقول موشي دايان:" إني لا أرضى إلا بسلام القوة ... الذي يحقق الإسرائيل الحدود الآمنة ... فيجب أن تكون لنا أنيابنا. وهذه الأنياب عسكرية واقتصادية وجغرافية ... والباب الأول. أي الناب العسكري يحقق الأنياب الأخرى ... " (29).
ولعل تحقيقات لجنة أغرانات، ونتائجها وتوصياقا، بهذا الشأن، والتي أدت إلى إقامة وعزل بعض المسؤولين المخابراتيين وكبار العسكريين الاسرائيليين، تشكل دلية قاطعة على التقصير " و "الفشل" اللذين أديا إلى "فضيحة " بالنسبة "للسوبر مانية" الاستخبارية الاسرائيلية، حتى وصلت الامور الى حد إطلاق بعض العبارات الجارحة والمهينة على قيادة هذه الأجهزة الاستخبارية كقولهم مثلا:" قيادة الاستخبارات العفنة ... وغيرها ... |
فبعد توقف الحرب، عمدت القيادة الاسرائيلية الى عملية تقييم شاملة لما جرى، وشكلت هذه الغاية لجنة خاصة مهمتها تحديد مسؤولية "التقصير"، عرفت فيما بعد ب"لجنة اغرانات". كانت هذه اللجنة برئاسة الدكتور " شمعون اغرانات" رئيس المحكمة العليا، وعضوية " موشي لاندوا قاضي المحكمة العليا، والدكتور " يتسحاق تفنشال " مراقب حسابات الدولة، واللواء الاحتياط " " ييغال يادين " أستاذ بالجامعة العبرية، واللواء الاحتياط " حاييم الاسكوف " مفوض شکاري الجنود. وجاء في تقرير هذه اللجنة ما يلي: " لقد تركت حرب يوم الغفران جروحا عميقة في جسم الاستخبارات العسكرية، فقد اعتبرت الاستخبارات العسكرية المسؤولة الأولى عن الفشل في التنبؤ بوقوع الحرب ...
ومما لا شك فيه أن هذه كانت أكبر صدمة تصيب الاستخبارات العسكرية منذ أواسط الخمسينات. لقد برزت آثار هذه الأزمة التي طرأت في الاستخبارات في المجال الشخصي، حيث أبعد أربعة من كبار ضباط الاستخبارات في أعقاب لجنة اغرانات وهم رئيس الاستخبارات، ومساعد رئيس الاستخبارات الشؤون التقييم، ورئيس المقعد المصري في دائرة الابحاث، وضابط الاستخبارات في القيادة الجنوبية؛ وكل ذلك أبرز الحاجة إلى ملء المناصب التي أصبحت شاغرة بأسرع وقت ممكن (20).
من هنا يبدر، أن الموسوعة العسكرية الإسرائيلية الخاصة بسلاح الاستخبارات، لم تتطرق إلى أسماء هؤلاء الضباط المخابراتيين، لذلك، نجد أن من أولى واجباتنا التنقيب عن هذه الاسماء، وتحديدها بالضبط، ليصبح القارئ على بينة من ذلك.
على هذا الأساس، تتوضح أمامنا الحقائق التالية في هذا الصدد: 1 - العميد " الياهو زعيرا " (أو ايلي زعيرا). مدير الاستخبارات العسكرية. عين مكانه" شلومو غازيت " الذي رقي إلى رتبة لواء في اول كانون الثاني 1973. وأصبح منذ الثالث من نيسان 1974 رئيسا للاستخبارات العسكرية وبالتالي عضوة في هيئة الأركان العامة. 2_ "أرييه شاليف" مدير شعبة الأبحاث في مديرية الاستخبارات حيث عين مكانه العميد " يشعياهو رافيف" الذي أصبح عضو لجنة التنسيق العليا لأجهزة الاستخبارات الاسرائيلية. 3_ المقدم " يونا بندمان " رئيس قسم مصر في شعبة الأبحاث.: المقدم "دافيد غيداليا" رئيس فرع الاستخبارات في قيادة المنطقة الجنوبية. عين مكانه الكولونيل "تسفي شاليف" الذي كان يشغل منصب ضابط الاستخبارات في قيادة القوات المدرعة في سينا" (29)
والواقع أن التغيرات في زعامة سلاح الاستخبارات صعدت من حدة الأزمة النفسية التي يعاني منها ضباط الاستخبارات بسبب حرب " يوم الغفران " هذا و" كان موقف وداع العميد زعيرا موقفا صعبة جدا، فقد قال أحد الضباط لرئيس الاستخبارات زعيرا، إنا لم نجد قائدة مثلك في الاحوال الصعبة " (27) ... لقد بلغ الأمر بالإستخفاف بقيادة المخابرات الاسرائيلية، كما تبين،حدة خطيرة، قلما عرفته هذه الاستخبارات من قبل، أو بالأحرى لم تتصور مرة في تاريخها أنها ستصل إلى ما وصلت اليه، باعتبار أن عقدة "الغرور" كانت بمثابة الساتر الاسود الذي منعها من الرؤية الواضحة للأمور، فوقعت في حفرة كانت من عمل يدها هي، ولكن ليس على قاعدة "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " الأن اليهود والصهاينة لم يكونوا أخوة لنا وتاريخهم الطويل خير شاهد على ذلك).
هذا، ومن المتوقع أن يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال جوهري يقول: من هم صناع القرار في حرب تشرين؟. لذلك نجد لزاما علينا أن نوضح الصورة على حقيقتها.
فعل ضوء الوثائق المتعلقة بهذه الحرب، نرى أن صانعي قرار حرب تشرين، إن كان في مصر أو في سوريا، أو في دولة الاحتلال الصهيوني، كانوا على الشكل التالي: - على صعيد الادارة المصرية لحرب تشرين، فقد تركز القرار السياسي العسكري بين الرئيس أنور السادات يعاونه في إدارة الحركة سياسية كل من مستشاره للأمن القومي حافظ إسماعيل، ووزير الخارجية محمد حسن الزيات، ومستشار السادات للشؤون السياسية الدكتور أسامة الباز، ومحمد حسنين هيكل، وأشرف غربال، واسماعيل فهمي.
وأما القيادة العسكرية فكانت قد تشكلت في غرفة العمليات من وزير الحربية المشير أحمد اسماعيل، ورئيس دائرة العمليات المشير عبد الغني الجمسي، ورئيس أركان حرب القوات المسلحة الفريق سعد الدين الشاذلي، ومدير سلاح المدرعات الفريق كمال حسن علي، وقائد الجيش الثاني اللواء فؤاد عزيز غالي، والمشرف على عمليات العبور الفريق سعد مأمون، وقائد القوات الجوية حسني مبارك، وقائد سلاح المدفعية محمد عبد الحليم أبو غزالة، وقائد المخابرات فؤاد نصار، ويوسف عقيقي (أحد قادة الجيش الثالث). | (وتجدر الاشارة هنا بالدور الكبير والمهمة العظيمة التي قام ها المناضل رأفت الهجان في هذا الاطار من خلال المعلومات القيمة التي زود بها المخابرات المصرية، وكانت عاملا في إحداث "الذهول و المفاجأة " للإسرائليين في هذه الحرب). . أما غرفة العمليات السورية، فقد تشكلت في دمشق القيادة السياسية العسكرية خلال حرب تشرين من: الرئيس حافظ الأسد، ووزير الخارجية عبد الحليم خدام، ووزير الدفاع اللواء مصطفي طلاس، ورئيس هيئة أركان الحرب اللواء يوسف شكور، وقائد القوات الجوية اللواء ناجي جميل، ومدير المخابرات اللواء حکمت الشهابي، ورئيس هيئة العمليات اللواء عبد الرزاق الدرديري، وقائد القوات البحرية العميد فضل حسين. _ أما في دولة الاحتلال الصهيوني، فقد كان صناع القرار السياسي والعسكري، وطبقا للدراسة التي قام بها الدكتور " مايکل بريشر "، أستاذ العلوم السياسية في الولايات المتحدة، إمرأة واحدة هي رئيسة الوزراء غولدا مائير، ووراءها عشرة رجال هم: وزير الدفاع موشي دايان، نائب رئيس الوزراء ووزير التعليم العالي الجنرال پيغال آلون، وزير الدولة يزرائيل غاليلي، رئيس الأركان دافيد اليعازر، مدير المخابرات العسكرية الياهوزعيرا رئيس الابحاث والتقديرات، في المخابرات الجنرال ايلي شاليف، قائد الطيران بنيامين بيليد، نائب رئيس الأركان الجنرال پزرائيل طال، مسؤول القيادة الشمالية الجنرال هوفي، ومدير مكتب رئيسة الوزراء الجنرال مردخاي غازيت.
أما من الاسماء التي برزت في الجانب الاسرائيلي خلال حرب تشرين، نذكر منهم أيضا: السفير الإسرائيلي في واشنطن سيمحا دينتز، وقائد المجموعة الاسرائيلية التي نفذت عملية الثغرة في منطقة دفرسوار الجنرال أرييل شارون (28).
الهوامش
(1) تسفي لنير "أزمة الاستخبارات الاسرائيلية ". اعداد قسم
الدراسات في دار الجليل للنشر. عمان / الأردن. الطبعة
الأولى 1989. ص. 99. وكذلك:" الموسوعة العسكرية الاسرائيلية / سلاح الاستخبارات " لمؤلفه عودد غرانوت. ترجمة دار الجليل. عمان / الأردن. الطبعة الأولى 1988. ص. 145. (2) عودد غرانوت " الموسوعة العسكرية الإسرائيلية / سلاح الاستخبارات " المرجع السابق نفسه والصفحة نفسها. (3) تسفي لنير " أزمة الاستخبارات الاسرائيلية. ص. 11. (4) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر ". تعريب رفعت فودة. دار المعارف القاهرة 1979. ص.146_100. (5) تسفي لنير. مرجع سبق ذكره ص. 10. (6) المرجع السابق نفسه. ص 88. (7) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر. مرجع سبق ذكره. ص 3. (8) تسفي لنير. مرجع سبق ذكره. ص 48. وكذلك: الموسوعة العسكرية الإسرائيلية / سلاح الاستخبارات. ص 146 - 147. (9) تسفي لنير. مرجع سبق ذكره. ص 100.
(10) المرجع السابق نفسه. ص 51_02 و 13 و 89. (11) المرجع نفسه. ص 81. (12) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر ... ص 139 - 190. (13) تسفي لنير في كلمة الغلاف الأخير لكتابه "أزمة الإستخبارات العسكرية". (14) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر .. ص 91. (15) المرجع السابق نفسه. ص 43. (16) المرجع نفسه. ص 47_48. (17) المرجع نفسه. ص 09_08. (18) المرجع نفسه. ص 117_118. (19) المرجع نفسه. ص 08. (20) أنظر الملحق الخاص لجريدة " السفير "حول" حرب تشرين
المغدورة ". الثلاثاء في 6 تشرين الأول 1998، ص 10. (21) المرجع السابق نفسه. والصفحة نفسها. (22) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر. ص 122. (23) الموسوعة العسكرية الإسرائيلية / سلاح الاستخبارات. ص
191
(29) من مذكرات جنرال دافيد اليعازر .. ص 81_82.
(20) عودد غرانوت " الموسوعة العسكرية الإسرائيلية ص 190
191
(29) د. صالح زهر الدين " المنطقة العربية في ملف المخابرات
الصهيونية ". المركز العربي للابحاث والتوثيق. بيروت.
الطبعة الأولى 1980. ص 121_122. وكذلك:" المجلة العسكرية" (تصدرها مديرية التدريب العسكري في وزارة الدفاع العراقية) بغداد. العدد الثالث. السنة 51. تموز 1974، ص 72. - ونزار عمار " الاستخبارات الاسرائيلية ". المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت 1979. ص 227_229 و 239
241
(27) عودد غرائوت " الموسوعة العسكرية الاسرائيلية / سلاح
الإستخبارات" ص 191. (28) راجع " الملحق الخاص" لجريدة " السفير " (حرب تشرين ..
المغدورة). الثلاثاء في 6 تشرين الاول 1998. ص 6.








مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید