المنشورات

فضيحة يهودا غيل فشل موسادي فادح

يعتبر عميل الموساد " الأسطوري " يهودا غيل من ألمع ضباط جهاز الإستخبارات الإسرائيلية في التزوير والكذب ... ليس ضد الغير، بل ضد الموساد ودولة الإحتلال الصهيوني ذاتها.
ولعل أصدق " الشهادات " هي تلك التي تصدر أحيانا عن " المعلم " وعن "التلميذ معا. وهذا ما حصل بالنسبة للمدعو " يهودا غيل ".
فقد قال عنه " معلمه "، رئيس الموساد دان ياتوم أن " فضائح الموساد كثيرة، لكن أحدا لم يتجرأ أن يكتب عنها عبر وسائل الإعلام الغربية ". لكن فضيحة "يهودا غيل " شكلت الضربة القاسية للموساد ولدورها حيث راحت وسائل الإعلام تكتب وتفضح وتحذر من نتائج هذا الدور في كل العالم. لم نخدع أحدة، ولكننا خدعنا أنفسنا " (1).
أما "تلميذه فيكتور أوستروفسكي، (صاحب كتاب "عن طريق الخداع") فقد قال:" إن يهودا غيل خبير في الكذب والخداع والتضليل والشك، وإقامة المكائد ". وأضاف أوستروفسکي:" هناك رجال كثر في الموساد اعتادوا أن يتصرفوا بأموال خصصت لمصادر معلوماتهم، وكثر أيضا الذين يقدمون معلومات كاذبة في الموساد. فيهودا (غيل) ليس الأول، لكنه رقم (1) في الكشف عنه" (2).
أما الصحف ووسائل الإعلام الصهيونية فإنها وصفته بأنه أكذب شخصية في الموساد، وأكذب ضابط جمع معلومات. إنه مزور ... مخادع ... کاذب ... تافه.
والواقع، أن كل هذه الأقوال جاءت في أعقاب الفضيحة، الأكثر مرارة في الموساد منذ فشلها الذريع الذي أصابها في أعقاب حرب تشرين 1973 ... تلك الفضيحة المتمثلة باعتقال "يهودا غيل " بعد سنوات طويلة في التحايل والكذب" على الموساد ... وإسرائيل باجمعها. فمن هو يهودا غيل؟ وما هو دوره في هذه القضية _ الفضيحة؟. ولد يهودا غيل في ليبيا عام 1934 حيث كان والده ضابطا مالية في القوات الفاشية الإيطالية (موسوليني) التي غزت ليبيا واحتلتها عام 1911. مما أفسح المجال ليهودا أن يتكلم اللغتين العربية والفرنسية، إضافة إلى الإيطالية والإنكليزية بشكل جيد.
هاجر مع الكثير من اليهود من ليبيا إلى فلسطين المحتلة، وكان عمره لا يزيد عن (14) عاما. كان إسمه آنذاك يهودا جناح بن موشيه جناح.
تجند يهودا غيل في البداية كضابط في المدرسة الحربية، وعين مسؤول إنضباط، حيث كان والده يعمل هناك، وكان مشهورة بأسلوب القوة والتبجح والتفاخر. وكان يضرب تلاميذه في المدرسة الحربية. وفي عام 1970 إنضم إلى الموساد كضابط جمع معلومات حيث كان اللواء تسفي زامير مسؤولا عن الموساد في تلك الفترة التي كان يتفاخر فيها باها زمن أسطورة الموساد الخرافية .. (3).
هذا، وتحت عنوان "سيرة شخصية " ليهودا غيل، كتبت صحيفة السفير تقول:
تعيش الإستخبارات في كل دولة على أساطير تغذي نفسها بنفسها من خلال السرية والغموض اللذين يحيطان بالعمل الإستخباري ويسهم أعضاء هذه الأجهزة في الغالب الأعم، ولاعتبارات تتعلق بمكانتهم في المجتمع الذي يعيشون فيه على عدم تحطيم الأسطورة، بل ومحاولة تعزيزها، ولو بالأكاذيب ".
وتضيف "السفير" قائلة:" ويختلف جهاز هذه الدولة عن تلك بمدى إقتراب أو إبعاد أسطورته عن الواقع العملي ومدى إتكشاف الحقائق المجردة حوله، ومن بين الأجهزة التي حظيت بصورة أسطورية هائلة، كان جهاز الموساد. غير أن هذه الصورة شرعت في التردي ليس فقط بسبب ما ينشره عملاء سابقون لها عنها، وإنما بسبب ما يتبدى من أداء هذا الجهاز، الذي قبل عامين تلقى عدة ضربات موجعة في جنيف وقبرص وعمان في الأردن.
غير أنه، ومن دون ريب، تلقى الموساد ضربة بالغة الإيلام من خلال إكتشاف "يهودا غيل" الذي عمل طوال سنوات على تغذية الحكومة الإسرائيلية بمعلومات مختلقة بقصد تحسين موقعه في الجهاز الإستخباري"
والواقع أنه كان ليهودا غيل طموح كبير، وقد سعى لتحقيق ذلك منذ أول حياته العسكرية، حيث عمل كما ذكرت الصحف، دلية للإستخبارات في صفوف اليهود أنفسهم عندما كان طالبا في مستوطنة (تسفايحيم). ولقد استطاع من خلال عمله في الموساد أن يرضي غروره، ويلي ما يطمح إليه من زيارات للدول الأوروبية، وارتياد المطاعم الفاخرة، وتحقيق الملذات والمسرات، وجمع المبالغ الطائلة. وفي هذه المستوطنة، أحب يهودا غيل شابة إسمها "روحا" هي إبنة الطليعي الإنكليزي "جيرتيس" الذي كان من أوائل مؤسسي مستوطنة
"تسفاحيم"
شرح غيل من الخدمة عام 1989 بناء على طلبه بعد أن أصيب بخيبة أمل حيث وجد رفاقه يتدرجون في مناصب عاليه ومراكز هامة، وهو يراوح في مكانه. بعد تسريحه من الخدمة، حاول غيل أن يرضي غروره عن طريق العمل في السياسة، لذلك إنضم الى حركة "موليدات" اليمينية المتطرفة. وهذه الحركة ضد "عملية السلام"، وضد الإنسحاب من الجولان، لكنه فشل تماما في الوصول إلى القيادة. ورشح نفسه في الإنتخابات البلدية، وفشل أيضا، فبدأ يعاني حالة نفسية سيئة، إقترح عليه إبنه الذي هو كذلك، ضابط في الجيش الإسرائيلي برتبة ملازم أول في سلاح الميدان، أن يقوم برحلة إلى الخارج. وفعلا توجه غيل في رحلة الى الخارج عاد منها متوجها فورة إلى الموساد، وقدم رزمة من التقارير مفادها: أن المصدر الذي كان يعمل معه منذ عام 1970 وهو سوري، وافق مرة ثانية على تقديم معلومات، مع العلم أن يهودا غيل كان قد قدم تقريرا عام 1989 يقول فيه أن المصدر هذا قد تقاعد من عمله، ولم يعد يستطيع تقديم معلومات له. وعلى ما يبدو أن يهودا غيل أراد متابعة هذه الكذبة التي بدأها عام 1970 عندما ادعى أن هناك مصدر معلومات سوريا يقدم له معلومات هامة عن سورية. |
ومن المفيد هنا أن نذكر أنه رفض مرات عديدة تسجيل أي لقاء معه، أو مشاركة أحد في اللقاءات التي كان يعقدها حسب ما ذكرت وسائل الإعلام، ومصادر الموساد، ومع ذلك وافقت قيادة الموساد وأعادت غيل إلى العمل وبدأ يتابع مشواره، ويقدم المعلومات الكاذبة التي كان يسمعها من وسائل الإعلام، و من رفاق شعبة الإستخبارات والشين بيت.
لقد استطاع غيل خلال هذه السنوات من الخداع والكذب والتضليل، سحب مبالغ طائلة من الموساد، وقد عثر في شقته يوم القبض عليه، على مبلغ 150 ألف دولار، ناهيك عن حسابه في الخارج الذي لم يزل سرا عن وسائل الإعلام، لكن هذه الأسرار ليست خافية بالطبع على لجنة التحقيق، والموساد بشكل عام، الذي يفترض أن يكون لديه إيصالات القبض الخاصة بيهودا غيل بدقة، وبتواريخها المحددة أيضا. مع العلم أن محامي يهودا غيل ذكر أنه افار منذ اليوم الأول للتحقيق، واعترف أنه كاذب ومخادع وفاشل طوال حياته العملية (5).
أما عن كيفية إكتشاف أجهزة الموساد هذه الفضيحة التي أطلق عليها إسم "فضيحة يهودا غيل"، فتذكر بعض المراجع أن المحكمة الإسرائيلية أدانت يهودا غيل بأنه أرسل إلى المسؤولين عنه في الموساد معلومات مختلقة بينها أن السوريين ينوون القيام بعملية عسكرية مباغته في الجولان.
وفي أعقاب هذا "البلاغ المعلوماتي الخطير" درست المؤسسة العسكرية والحكومة الإسرائيلية أمر تجنيد قوات الإحتياط.
وقد تدخلت الولايات المتحدة في حينه لتهدئة المخاوف. وتم إستخدام قضية يهودا غيل في الإنتخابات الإسرائيلية، عندما إنهم أمنون شاحاك، بنيامين نتنياهو بأنه كان يتصرف بشكل متهور في اللحظات الحرجة. وأشارت الصحف الإسرائيلية حينها إلى أن شاحاك كان يقصد أن نتنياهو واعتمادا على معلومات ليهودا غيل أمر بتجنيد القوات الإحتياطية، غير أن شاحاك ووزير الدفاع آنذاك إسحاق مردخاي عارضا ذلك، وأيدهما رئيس شعبة الإستخبارات.
وثبت للمحمكة الإسرائيلية أن يهودا غيل إختلق " العميل السوري رفيع المستوى ". ورأت أن الإدانة تنبع من حقيقة أن غيل كان يعلم أن المعلوماته أثرة حاسمة على أمن الدولة، لأن أجهزة المخابرات وجهات عليا سواء في الجيش الإسرائيلي أو في المستوى السياسي تولي معلوماته أهمية قصوى " (1).
والجدير بالذكر، أن شعبة المراقبة في الموساد، قامت وبأمر من رئيس الموساد دان ياتوم، بعملية متابعة ومراقبة دقيقة ليهودا غيل، إثر المعلومات التي قدمها حول الوضع العسكري على الجبهة السورية، وخصوصا على جبهة هضبة الجولان المحتل. وتمخضت هذه المراقبة والمتابعة الدقيقة عما يلي:
خرج يهودا غيل من مطار بن غوريون إلى دولة أوروبية، وأقام في فندق فاخر جدا، وابتاع أغلى الملابس والحاجات له ولأولاده، ثم دخل إلى مكان خاص أمضى فيه أربعين دقيقة، بعدها عاد إلى إسرائيل وقدم تقريرا مفاده أنه عقد إجتماعا مع المصدر دام سبع ساعات، وقدم
طبعا معلومات مزورة نقلا عن لسان المصدر. عندها تأكدت شعبة المراقبة من أن يهودا غيل كاذب ومخادع حيث تم اعتقاله، وكان ذلك في شهر تشرين الأول سنة 1997، وأحضر الى رئيس الموساد وهيئة محققين، وبمجرد سؤاله ومواجهته بالحقيقة إنفار وبدأ يبكي ويصرخ، حتى أنه حاول الإنتحار ... إنه يقدم معلومات كاذبة ومزورة الى رئاسة الموساد منذ أكثر من عشرين عاما. غير أن الصحافة الإسرائيلية ذكرت إسم يهودا غيل فقط في مطلع شهر كانون الأول من عام 1997، تلافيا للفضيحة ... لكن رائحة الفضائح لا يمكن أن تحصرها مقرات الموساد ولا أقبيتها ولا تكنولوجيتها المتفوقة ... لذلك أزكمت الأنوف (7).
واليوم يبلغ غيل من العمر 17 عاما، قضى أكثر من نصفها في العمل في صفوف الموساد. وحسب الصحف الإسرائيلية كان يعتبر ضابط جمع معلومات جيدة، ولم يتقدم في صفوف الموساد إلا بعد أن شرع بإختلاق المعلومات. وبالعموم تقول عنه الصحف أنه لم يترك أثرا على محيطه ولم يتميز في قيادة أي طاقم، وكان يتصرف دائما كذئب منفرد. وهكذا، أمضى يهودا غيل ستة أيام في التحقيق قبل أن يرى محاميه "بيغال شبيرا" الذي كان من رجال الموساد سابقا.
وقد أدانته المحكمة العليا الإسرائيلية بإيذاء أمن الدولة اليهودية بشكل خطير، وسرقة عشرات الآلاف من الدولارات من أموال الموساد بدعوى تسليمها إلى "عميل سوري رفيع المستوى". وبعد أيام من صدور الحكم بسجنه لمدة خمس سنوات، سمحت المحكمة العليا الإسرائيلية بنشر قرار قضائي برفض الإستئناف الذي قدمه عميل الموساد (غيل) ضد الحكم الذي أصدرته المحكمة المركزية الذي قضى بسجنه هذه المدة.
أما الجهات الرسمية المسؤولة عن سلامته، فإما أصدرت توجيهات الوضع حراسة مشددة على مدار الأربع وعشرين ساعة في اليوم، وتركيب عدسات تصوير لمتابعة تحركاته. ومحامي يهودا غيل پيغال شبيرا لم ينف إحتمال أن يقوم غيل بارتكاب عمل متطرف بسبب وضعه النفسي. "لو كان الأمر مرهونا به فإنه من الممكن جدا أن يقوم بارتكاب أي عمل بسبب تأنيب الضمير الذي يمر به حاليا " قال شبيرا، وأضاف:" محظور السماح بحدوث وضع كهذا. فالهيئة كلها وأنا معها تتحمل مسؤولية كبيرة بهذا الشأن " (8).
ومن خلال ذلك، نرى أنه ليس من السهل على جهاز إستخبارات أسطوري" - كما يدعي الموساد أن يخدع حوالي ربع قرن من الزمن بهذا الحجم وهذا المستوى، وأن مرغ جبهته في الوحل وتشوه سمعته، وتتهاوى معنوياته إلى الحضيض، ويبقى بالتالي على غروره القاتل ... كما أنه من المؤسف أيضا، أن يدفع الطموح والمصلحة الشخصية بعملاء إستخبارات من هذا النوع إلى إشعال حروب يسقط فيها مئات وآلاف الضحايا فضلا عن التدمير والخراب، من أجل الإقتصاص من جهازه ورؤسائه، او بقصد المال والشهرة والبذخ. وكم هو جهاز الموساد مليئ بأمثال يهودا غيل، إن لم يكن أخطر منه أيضا.
ومما يجدر ذكره في هذا الموضوع أن بنيامين نتنياهو إنقض على دابي باتوم، بعد فضيحة يهودا غيل، واستجوبه بقسوة خلال إجتماع عاصف في مكتب رئيس الوزراء حول كيفية إدارته لجهاز الموساد. ولم يكترث نتنياهو للقول بأن غيل أخفي خديعته بنجاح عن أربعة مديرين عامين سابقين للموساد. وكان رده بصوت عال أنه كان على باتوم أن يعرف. ثم وقع تشابك آخر بين الرجلين بسبب هذه المسألة، وقال موظفو مكتب رئيس الوزراء أنهم لم يشهدوا تأنيبة شديدة مثله من قبل. وقد تسربت التفاصيل إلى أجهزة الإعلام مما زاد في إحراج ياتوم (9).
هوامش فضيحة يهودا غيل
(1) راجع کتاب: مروان توفيق النمر وربيع سلمان رشيد " الموساد والإخفاقات الأخيرة حقائق تكشف لأول مرة. دار الفارابي. بيروت. الطبعة الأولى 1998، ص 110 (2) المرجع السابق نفسه. ص 117. (3) المرجع نفسه. ص 110 - 119. (4) جريدة "السفير" اللبنانية. العدد 8098. الإثنين 15 أيار 2000. ص 8. (5) مروان توفيق النمر وربيع سلمان رشيد. مرجع سابق. ص 11. (6) جريدة "السفير". مرجع سبق ذكره. ص 8. (7) صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في 1997
/ 12/ 12. ومروان توفيق النمر ... ص 119. كذلك صحيفة "السفير". العدد نفسه. (8) المرجع السابق نفسه. كذلك كتاب: مروان توفيق النمر ... ص 120. راجع أيضا كتاب: غوردون طوماس "انحطاط الموساد / إغتيالات وأكاذيب وارتزاق ". ترجمة محمد معتوق. دار بيسان. بيروت. الطبعة الأولى 2000. ص 307. (9) غوردون طوماس. المرجع السابق نفسه. والصفحة نفسها.









مصادر و المراجع :

١- موسوعة الامن والاستخبارات في العالم

المؤلف: د. صالح زهر الدين

الناشر: المركز الثقافي اللبناني للطباعة والنشر والتأليف والترجمة - بيروت

الطبعة: الاولى

تاريخ النشر:2002 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید