المنشورات

من قضى له الشعر ومن قضى عليه

أنشد النابغة الجعدي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدة يقول فيها:
علونا السماء عفة وتكرماً ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهراً
فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة بك يا رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجل إن شاء الله، فقضت له دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وسبب ذلك شعره.
وأنشده حسان بن ثابت حين جاوب عنه أبا سفيان بن الحارث بقوله:
هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
فقال له: جزاؤك عند الله الجنة يا حسان، فلما قال:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم وقاء
قال له: وقاك الله حر النار، فقضى له بالجنة مرتين في ساعة واحدة، وسبب ذلك شعره.
ولما تنافر عامر بن الطفيل وعلقمة بن علائة أقاما عند هرم بن قطبة بن سنان سنة لا يقضي لأحدهما على الآخر، إلى أن قدم الأعشى وكانت لعامر عنده يد فقال:
علقم ما أنت إلى عامر ... الناقض الأوتار والواتر
إن تسد الحوص فلم تعدهم ... وعامر ساد بني عامر
حكمتموه فقضى بينكم ... أزهر مثل القمر الباهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فرواه الناس، وافترقوا وقد نفر عامر على علقمة بحكم الأعشى في شعره وكان في رأي هرم على قول أكثر الناس خلاف ذلك.
وإلى هذا وأشباهه أشار أبو تمام الطائي بقوله في صفة الشعر:
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة ... ويقضى بما يقضي به وهو ظالم
وكانت لرجل شهادة عند أبي دلامة، فدعاه إلى تبليغها عند القاضي بن أبي ليلى، فقال له: إن شهادتي لا تنفعك عنده، فقال الرجل: لا بد من شهادتك، فشهد عند القاضي وانصرف وهو يقول:
إذا الناس غطوني تغطيت دونهم ... وإن بحثوا عني ففيهم مباحث
فقضى القاضي على الخصم بشهادة أبي دلامة، وقبض المشهود له المال، وغرمه القاضي للمشهود عليه تحرجاً من ظلمه، ويقال: إنما شهد لطبيب عالج ولده من علة به، وأمره أن يدعي على من شاء بألف درهم، ففعل الطبيب وشهد أبو دلامة، وهذا أشبه بمجونه من الأول.
وذكر العتبي أن رجلاً من أهل المدينة ادعى حقا على رجل، فدعاه إلى ابن حنطب قاضي المدينة، فقال: من يشهد بما تقول؟ فقال: زنقطة، فلما ولي قال القاضي: ماشهادته له إلا كشهادته عليه، فلما جاء زنقطة القاضي قال له: فداك أبي وأمي، أحسن والله الشاعر حيث يقول:
من الحنطبيين الذين وجوههم ... دنانير مما شيف في أرض قيصرا
فأقبل القاضي على الكاتب، فقال: كبير ورب السماء، ما أحسبه شهد إلا بالحق فأجز شهادته.
وخاصم جرير بن الخطفي الحماني الشاعر إلى قاضي اليمامة، فقال في أبيات رجز بها:
أعوذ بالله العلي القهار ... من ظلم حمان وتحويل الدار
فقال الحماني مجيباً له:
ما لكليب من حمى ولا دار ... غير مقام أتن وأعيار
قب البطون داميات الأظفار ويروي قعس الظهور داميات الأظفار فقال جرير: مقام أتنى وأعياري لا أريد غيره، وقد اعترف به، فقال القاضي: هي لجرير، وقضى على الحماني بشعره الذي قال.
وكان الفرزدق يجلس إلى الحسن البصري، فجاءه رجل فقال: يا أبا سعيد، إنا نكون في هذه البعوث والسرايا فنصيب المرأة من العدو وهي ذات زوج أفتحل لنا من قبل أن يطلقها زوجها؟ فقال الفرزدق: قد قلت أنا مثل هذا في شعري، فقال الحسن: وما قلت؟ قال: قلت:
وذات حليل أنكحتنا رماحنا ... حلالاً لمن يبني بها لم تطلق
فقال الحسن: صدق، فحكم بظاهر قوله، وما أظن الفرزدق والله أعلم أراد الجهاد في العدو المخالف للشريعة، لكن أراد مذهب الجاهلية في السبايا. كأنه يشير إلى العزة وشدة البأس.
وقيل: إن عمر بن الخطاب كان يتعجب من قول زهير:
فإن الحق مقطعه ثلاث ... أداء أو نفار أو جلاء
وسمي زهير قاضي الشعراء بهذا البيت، يقول: لا يقطع الحق إلا الأداء، أو النفار وهو الحكومة أو الجلاء وهو العذر الواضح ويروي يمين أو نفار وهذه الثلاث على الحقيقة هي مقاطع الحق كما قال، على أنه جاهلي، وقد وكدها الإسلام.









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید