المنشورات
حد الشعر وبنيته
الشعر يقوم بعد النية من أربعة أشياء، وهي: اللفظ، والوزن، والمعنى، والقافية، فهذا هو حد الشعر؛ لأن من الكلام موزوناً مقفى وليس بشعر؛ لعدم القصد والنية، كأشياء اتزنت من القرآن، ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم،وغير ذلك مما لم يطلق عليه أنه شعر، والمتزن: ما عرض على الوزن فقبله، فكأن الفعل صار له، ولهذه العلة سمي ما جرى هذا المجرى من الأفعال فعل مطاوعة، هذا هو الصحيح، وعند طائفة من أصحاب الجدل أن المنفعل والمفتعل لا فاعل لهما، نحو: شويت اللحم فهو منشوٍ ومشتوٍ، وبنيت الحائط فهو منبنٍ، ووزنت الدينار فهو متزن، وهذا محال لا يصح مثله في العقول، وهو يؤدي إلى ما لا حاجة لنا به، ومعاذ الله أن يكون مراد القوم في ذلك إلا المجاز والاتساع، وإلا فليس هذا مما يغلط فيه من رق ذهنه وصفا خاطره، وإنما جئت بهذا الفصل احتجاجاً على من زعم أن المتزن غير داخل في الموزون، وإذا لم يعرض المتزن على الوزن فيوجد موزوناً فمن أين يعلم أنه متزن؟ وكيف يقع عليه هذا الاسم؟ وقال بعض العلماء بهذا الشأن: بني الشعر على أربعة أركان، وهي: المدح، والهجاء، والنسيب، والرثاء.
وقالوا: قواعد الشعر أربعة: الرغبة، والرهبة، والطرب، والغضب: فمع الرغبة يكون المدح والشكر، ومع الرهبة يكون الاعتذار والاستعطاف، ومع الطرب يكون الشوق ورقة النسيب، ومع الغضب يكون الهجاء والتوعد والعتاب الموجع.
وقال الرماني علي بن عيسى: أكثر ما تجري عليه أغراض الشعر خمسة: النسيب، والمدح، والهجاء، والفخر، والوصف، ويدخل التشبيه والاستعارة في باب الوصف.
وقال عبد الملك بن مروان لأرطأة بن سهية: أتقول الشعر اليوم؟ فقال: والله ما أطرب، ولا أغضب، ولا أشرب، ولا أرغب، وإنما يجيء الشعر عند إحداهن. قال أبو علي البصير:
مدحت الأمير الفتح أطلب عرفه ... وهل يستزاد قائل وهو راغب
فأفنى فنون الشعر وهي كثيرة ... وما فنيت آثاره والمناقب
فجعل الرغبة غاية لا مزيد عليها.
وقال عبد الكريم: يجمع أصناف الشعر أربعة: المديح، والهجاء، والحكمة، واللهو، ثم يتفرغ من كل صنف من ذلك فنون؛ فيكون من المديح المرائي والافتخار والشكر، ويكون من الهجاء الذم والعتاب والاستبطاء، ويكون من الحكمة الأمثال والتزهيد والمواعظ، ويكون من اللهو الغزل والطرد وصفة الخمر والمخمور.
وقال قوم: الشعر كله نوعان: مدح، وهجاء؛ فإلى المدح يرجع الرثاء، والافتخار، والتشبيب، وما تعلق بذلك من محمود الوصف: كصفات الطلول والآثار، والتشبيهات الحسان، وكذلك تحسين الأخلاق: كالأمثال، والحكم، والمواعظ، والزهد في الدنيا، والقناعة، والهجاء ضد ذلك كله، غير أن العتاب حال بين حالين؛ فهو طرف لكل واحد منهما، وكذلك الإغراء ليس بمدح ولا هجاء؛ لأنك لا تغرى بإنسان فتقول: إنه حقير ولا ذليل، إلا كان عليك وعلى المغري الدرك، ولا تقصد أيضاً بمدحه الثناء عليه فيكون ذلك على وجهه.
والبيت من الشعر كالبيت من الأبنية: قراره الطبع، وسمكه الرواية، ودعائمه العلم، وبابه الدربة، وساكنه المعنى، ولا خير في بيت غير مسكون، وصارت الأعاريض والقوافي كالموازين والأمثلة للأبنية، أو كالأواخي والأوتاد للأخبية، فأما ما سوى ذلك من محاسن الشعر فإنما هو زينة مستأنفة ولو لم تكن لاستغنى عنها.
قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني صاحب كتاب الوساطة: الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له، وقوة لكل واحد من أسبابه؛ فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المبرز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان. وقال: ولست أفضل في هذه القضية بين القديم والمحدث، والجاهلي والمخضرم، والأعرابي والمولد، إلا أني أرى حاجة المحدث إلى الرواية أمس، وأجده إلى كثرة الحفظ أفقر، فإذا استكشفت عن هذه الحال وجدت سببها والعلة فيها أن المطبوع الذكي لا يمكنه تناول ألفاظ العربي إلا رواية، ولا طريق إلى الرواية إلا السمع، وملاك السمع الحفظ.
قال دعبل في كتابه:
من أراد المديح فبالرغبة، ومن أراد الهجاء فبالبغضاء، ومن أراد التشبيب فبالشوق والعشق، ومن أراد المعاتبة فبالاستبطاء؛ فقسم الشعر كما ترى هذه الأقسام الأربعة، وكان الرثاء عنده من باب المدح على ما قدمت، إلا أنه جعل العتاب بدلاً منه.
وقال غير واحد من العلماء: الشعر ما اشتمل على المثل السائر، والاستعارة الرائعة، والتشبيه الواقع، وما سوى ذلك فإنما لقائله فضل الوزن.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: قلت لأعرابي: من أشعر الناس؟ قال: الذي إذا قال أسرع، وإذا أسرع أبدع، وإذا تكلم أسمع، وإذا مدح رفع، وإذا هجا وضع.
وسئل بعض أهل الأدب: من أشعر الناس؟ فقال: من أكرهك شعره على هجو ذويك ومدح أعاديك، يريد الذي تستحسنه فتحفظ منه ما فيه عليك وصمة، وخلاف للشهوة، وهذا ذوب قول أبي الطيب:
وأسمع من ألفاظه اللغة التي ... يلذ بها سمعي ولو ضمنت شتمي
أخذه من قول أبي تمام:
فإن أنا لم يمدحك عني صاغراً ... عدوك فاعلم أنني غير حامد
أتبعه البحتري في ذلك فقال:
ليواصلنك ركب شعري سائراً ... يرويه فيك لحسنه الأعداء
وقال عبد الصمد بن المعذل: الشعر كله في ثلاث لفظات، وليس كل إنسان يحسن تأليفها: فإذا مدحت قلت أنت، وإذا هجوت قلت لست، وإذا رثيت قلت كنت.
وقال بعض النقاد: أصغر الشعر الرثاء؛ لأنه لا يعمل رغبة ولا رهبة.
قال ابن قتيبة: قال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي يعقوب الخريمي: أنت في مدائحك لمحمد بن منصور كاتب البرامكة أشعر منك في مراثيك له، فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن نعمل اليوم على الوفاء.
قال صاحب الكتاب: ومن هذا المنثور والله أعلم سرق البصير بيته المتقدم في الفتح بن خاقان.
وقيل لبعضهم: ما أحسن الشعر؟ فقال: ما أعطى القياد، وبلغ المراد.
وقال أبو عبد الله وزير المهدي: خير الشعر ما فهمته العامة، ورضيته الخاصة.
وسمعت بعض الشيوخ يقول: قال الحذاق: لو كانت البلاغة في التطويل ما سبق إليها أبو نواس والبحتري.
وقال بعض الحذاق من المتعقبين: أشعر الناس من تخلص في مدح امرأة ورثائها.
وقال ابن المعتز: قيل لمعتوه: ما أحسن الشعر؟ قال: ما لم يحجبه عن القلب شيء.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)