المنشورات
عمل الشعر وشحذ القريحة
لا بد للشاعر وإن كان فحلاً، حاذقاً، مبرزاً، مقدماً من فترة تعرض له في بعض الأوقات: إما لشغل يسير، أو موت قريحة، أو نبو طبع في تلك الساعة أو ذلك الحين. وقد كان الفرزدق وهو فحل مضر في زمانه يقول: تمر علي الساعة وقلع ضرس من أضراسي أهون علي من عمل بيت من الشعر. فإذا تمادى ذلك على الشاعر قيل: أصفى وأفصى، كما يقال: أفصت الدجاجة إذا انقطع بيضها، وكذلك يقال له: أجبل، كما يقال لحافر البئر إذا بلغ جبلاً تحت الأرض لا يعمل فيه شيء: أجبل، ومثل أجبل: أكدى، إلا أنهم خصوا به العطاء، وذلك أن يصادف حافر البئر كدية فلا يزيد شيئاً على ما حفر، ويقال: أفحم الشاعر على أفعل، قالوا: وهو من فحم الصبي إذا انقطع صوته من شدة البكاء، فإن ساء لفظه وفسدت معانيه قيل له: أهتر فهو مهتر. وقد قيل في الذبياني: إنه إنما كان شعره نظيفاً من العيوب لأنه قاله كبيراً، ومات عن قرب، ولم يهتر.. وأكثر ما جاء الإهتار في صفة الكبير الذي يختلط كلامه وقولهم في شعر النابغة إنه قاله وهو كبير يدل على أنه بهذا سمي نابغة كما عند أكثر الناس، لا لقوله:
فقد نبغت لنا منهم شئون.
كما تقدم من قول بعضهم. ويقال: أخلى الشاعر، كما يقال أخلى الرامي، إذا لم يصب معنى.
حكي عن البحتري أنه قال: فاوضت ابن الجهم علياً في الشعر، وذكر أشجع السلمي فقال: إنه كان يخلى، فلم أفهمها عنه، وأنفت أن أسأله عنها، فلما انصرفت فكرت فيها، ونظرت في شعر أشجع، فإذا هو ربما مرت له الأبيات مغسولة ليس فيها بيت رائع.
ثم إن للناس فيما بعد ضروباً مختلفة: يستدعون بها الشعر، فتشحذ القرائح وتنبه الخواطر، وتلين عريكة الكلام، وتسهل طريق المعنى: كل امرئ على تركيب طبعه، واطراد عادته، وسيأتي ذلك في أقاويل العلماء بما أرجو أن تكون فيه هداية إن شاء الله تعالى.
قال بكر بن النطاح الحنفي:
الشعر مثل عين الماء: إن تركتها اندفنت، وإن استهتنتها هتنت، وليس مراد بكر أن تستهتن بالعمل وحده؛ لأنا نجد الشاعر تكل قريحته مع كثرة العمل مراراً، وتنزف مادته، وتنفد معانيه، فإذا أجم طبعه أياماً وربما زماناً طويلاً ثم صنع الشعر جاء بكل آبدة، وانهمر في كل قافية شاردة، وانفتح له من المعاني والألفاظ ما لو رامه من قبل لاستغلق عليه، وأبهم دونه، لكن بالمذاكرة مرة؛ فإنها تقدح زناد الخاطر، وتفجر عيون المعاني، وتوقظ أبصار الفطنة، وبمطالعة الأشعار كرة؛ فإنها تبعث الجد، وتولد الشهوة.
وسئل ذو الرمة: كيف تعمل إذا انقفل دونك الشعر؟ فقال: كيف ينقفل دوني وعندي مفتاحه؟ قيل له: وعنه سألناك، ما هو؟ قال: الخلوة بذكر الأحباب، فهذا لأنه عاشق، ولعمري إنه إذا انفتح للشعر نسيب القصيدة فقد ولج من الباب، ووضع رجله في الركاب، على أن ذا الرمة لم يكن كثير المدح والهجاء، وإنما كان واصف أطلال، ونادب أظعان، وهو الذي أخرجه من طبقة الفحول.
وقيل لكثير: كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر؟ قال: أطوف في الرباع المحيلة؛ والرياض المعشبة، فيسهل علي أرصنه، ويسرع إلى أحسنه.
وقال الأصمعي: ما استدعي شارد بمثل الماء الجاري، والشرف العالي، والمكان الخالي وقيل: الحالي، يعني الرياض وحدثني بعض أصحابنا من أهل المهدية وقد مررنا بموضع بها يعرف بالكدية هو أشرفها أرضاً وهواء قال: جئت هذا الموضع مرة فإذا عبد الكريم على سطح برج هنالك قد كشف الدنيا، فقلت: أبا محمد؟ قال: نعم، قلت: ما تصنع ههنا؟ قال: ألقح خاطري، وأجلو ناظري، قلت: فهل نتج لك شيء؟
قال: ما تقر به عيني وعينك إن شاء الله تعالى، وأنشدني شعراً يدخل مسام القلوب رقة، قلت: هذا اختبار منك اخترعته، قال: بل برأي الأصمعي.
وقالوا: كان جرير إذا أراد أن يؤبد قصيدة صنعها ليلاً: يشعل سراجه ويعتزل، وربما على السطح وحده فاضطجع وغطى رأسه رغبة في الخلوة بنفسه. يحكي أنه صنع ذلك في قصيدته التي أخزى بها بني نمير، وقد تقدم ذكرها.
وروى أن الفرزدق كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خالياً منفرداً وحده في شعاب الجبال وبطون الأودية والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قياده. حكى ذلك عن نفسه في قصيدته الفائية:
عزفت بأعشاش وما كدت تعزف
وذكر أن فتى من الأنصار بحضرة كثير أو غيره فاخره بأبيات حسان بن ثابت:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
فأنظره سنة فمضى حنقاً، وطالت ليلته ولم يصنع شيئاً، فلما كان قرب الصباح أتى جبلاً بالمدينة يقال له ذباب، فنادى: أخاكم يا بني لبني، صاحبكم، صاحبكم، صاحبكم، وتوسد ذراع ناقته، فانثالت عليه القوافي انثيالاً، وجاء بالقصيدة بكرة وقد أعجزت الشعراء وبهرتهم طولاً وحسناً وجودة.
وقيل لأبي نواس: كيف عملك حين تريد أن تصنع الشعر؟ قال أشرب حتى إذا كنت أطيب ما أكون نفساً بين الصاحي والسكران صنعت وقد داخلني النشاط وهزتني الأريحية.
قال ابن قتيبة: وللشاعر أوقات يسرع فيها أتيه، ويسمح فيها أبيه: منها أول الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في الحبس والمسير، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل المترسل.
وحكى عن أبي تمام وقد سأله البحتري عن أوقات صنعة الشعر قريب من هذا لا أحفظه نصاً، ولا أشك أن ابن قتيبة به اقتدى، إن كان مما رواه.
ومما يجمع الفكرة من طريق الفلسفة استلقاء الرجل على ظهره، وعلى كل حال فليس يفتح مقفل بحار الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم؛ لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعييها، وإذ هي مستريحة جديدة كأنما أنشئت نشأة أخرى؛ ولأن السحر ألطف، وأرق نسيماً هواءً، وأعدل ميزاناً بين الليل والنهار، وإنما لم يكن العشي كالسحر وهو عديله في التوسط بين طرفي الليل والنهار لدخول الظلمة فيه على الضياء بضد دخول الضياء في السحر على الظلمة، ولأن النفس فيه كالة مريضة من تعب النهار وتصرفها فيه، ومحتاجة إلى قوتها من النوم متشوقة نحوه؛ فالسحر أحسن لمن أراد أن يصنع، وأما لمن أراد الحفظ والدراسة وما أشبه ذلك فالليل، قال الله تعالى وهو أصدق القائلين: " إن ناشئة الليل هي أشد وطأً وأقوم قيلا " وهذا الكلام الذي لا مطعن فيه، ولا اعتراض عليه، وعلى قراءة من قرأ وطاء يكون معناه أثقل على فاعله، وإذا كان كذلك كان أكثر أجراً، فهذا يشهد لنا أن العمل أول الليل يصعب؛ لأن النوم يغلب والجسم يكل.
وكان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره.. حكى ذلك عنه بعض أصحابه، قال: استأذنت عليه وكان لا يستتر عني فأذن لي فدخلت فإذا هو في بيت مصهرج قد غسل بالماء، يتقلب يميناً وشمالاً، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغاً شديداً، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أطلق من عقال، قال: الآن وردت، ثم استمد وكتب شيئاً لا أعرفه، ثم قال: أتدري ما كنت فيه مذ الآن؟ قلت: كلا، قال: قول أبي نواس: كالدهر في شراسة وليان أردت معناه فشمس علي حتى أمكن الله منه فصنعت.
شرست، بل لنت، بل قانيت ذاك بذا ... فأنت لا شك فيك السهل والجبل
ولعمري لو سكت هذا الحاكي لنم هذا البيت بما كان داخل البيت؛ لأن الكلفة فيه ظاهرة، والتعمل بين، على أن مثل حكاية أبي تمام وأشد منها قد وقعت لمن لا يتهم، وهو جرير: صنع الفرزدق شعراً يقول فيه:
فإني أنا الموت الذي هو ذاهب ... بنفسك، فانظر كيف أنت محاوله
وحلف بالطلاق أن جريراً لا يغلبه فيه، فكان جرير يتمرغ في الرمضاء ويقول:
أنا أبو حزرة، حتى قال:
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئاً يطاوله
وكان أبو تمام ينصب القافية للبيت؛ ليعلق الأعجاز بالصدور، وذلك هو التصدير في الشعر، ولا يأتي به كثيراً إلا شاعر متصنع كحبيب ونظرائه، والصواب أن لا يصنع الشاعر بيتاً لا يعرف قافيته، غير أني لا أجد ذلك في طبعي جملة، ولا أقدر عليه، بل أصنع القسيم الأول على ما أريده، ثم ألتمس في نفسي ما يليق به من القوافي بعد ذلك، فأبني عليه القسيم الثاني: أفعل ذلك فيه كما يفعل من يبني البيت كله على القافية، ولم أر ذلك بمخل علي، ولا يزيحني عن مرادي، ولا يغير علي شيئاً من لفظ القسيم الأول، إلا في الندرة التي لا يعتد بها أو على جهة التنقيح المفرط.
وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحه كالمتعجب من شعره، فقال: كيف تقول الشعر؟ قال: أنظر في ذلك ثم أقول، قال: فعليك بالمشركين ولم يكن أعد شيئاً، فأنشد أبياتاً منها:
فخبروني، أثمان العباء متى ... كنتم بطاريق أو دانت لكم مضر؟؟
فعرف الكراهية في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، لما جعل قومه أثمان العباء، فقال:
نجالد الناس عن عرض ونأسرهم ... فينا النبي وفينا تنزل السور
وقد علمتم بأنا ليس يغلبنا ... حي من الناس إن عزوا، وإن كثروا
ينتهي إلى أن يقول في النبي صلى الله عليه وسلم:
فثبت الله ما أعطاك من حسن ... تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم بوجهه، فقال: " وإياك فثبت الله يا بن رواحة ".
ومن الشعراء من يسبق إليه بيت واثنان، وخاطره في غيرهما: يجب أن يكونا بعد ذلك بأبيات، أو قبله بأبيات، وذلك لقوة طبعه، وانبعاث مادته، ومنهم من ينصب قافية بعينها لبيت بعينه من الشعر مثل أن تكون ثالثة أو رابعة أو نحو ذلك لا يعدو بها ذلك الموضع إلا انحل عنه نظم أبياته، وذلك عيب في الصنعة شديد، ونقص بين؛ لأنه أعني الشاعر يصير محصوراً على شيء واحد بعينه، مضيقاً عليه، وداخلاً تحت حكم القافية.
وكانوا يقولون: ليكن الشعر تحت حكمك، ولا تكن تحت حكمه.
ومنهم من إذا أخذ في صنعة الشعر كتب من القوافي ما يصلح لذلك الوزن الذي هو فيه، ثم أخذ مستعملها، وشريفها، ومساعد معانيه، وما وافقها، وأطرح ما سوى ذلك، إلا أنه لا بد أن يجمعها ليكرر فيها نظره، ويعيد عليها تخيره في حين العمل، هذا الذي عليه حذاق القوم.
ومن الشعراء من إذا جاءه البيت عفواً أثبته، ثم رجع إليه فنقحه، وصفاه من كدره، وذلك أسرع له، وأخف عليه، وأصح لنظره، وأرخى لباله..
وآخر لا يثبت البيت إلا بعد إحكامه في نفسه، وتثقيفه من جميع جهاته، وذلك أشرف للهمة، وأدل على القدرة، وأظهر للكلفة، وأبعد من السرقة.
وسألت شيخاً من شيوخ هذه الصناعة فقلت: ما يعين على الشعر؟ قال: زهرة البستان، وراحة الحمام.
وقيل: إن الطعام الطيب، والشراب الطيب، وسماع الغناء، ما يرق الطبع، ويصفي المزاج، ويعين على الشعر.
ولما أرادت قريش معارضة القرآن عكف فصحاؤهم الذين تعاطوا ذلك على لباب البر وسلاف الخمر ولحوم الضأن والخلوة إلى أن بلغوا مجهودهم. فلما سمعوا قول الله عز وجل " وقيل يا أرض ابلعي ماءك، ويا سماء أقلعي، وغيض الماء، وقضي الأمر، واستوت على الجودي، وقيل بعداً للقوم الظالمين " يئسوا مما طمعوا فيه، وعلموا أنه ليس بكلام مخلوق.
وقيل: مقود الشعر الغناء به، وذكر عن أبي الطيب أن متشرفاً تشرف عليه وهو يصنع قصيدته التي أولها:
جللاً كما بي فليك التبريح.
وهو يتغنى ويصنع، فإذا توقف بعض التوقف رجع بالإنشاد من أول القصيدة إلى حيث انتهى منها.
وقال بعضهم: من أراد أن يقول الشعر فليعشق فإنه يرق، وليرو فإنه يدل، وليطمع فإنه يصنع. وقالوا: الحيلة لكلال القريحة انتظار الحمام، وتصيد ساعات النشاط، وهذا عندي أنجع الأقوال، وبه أقول، وإليه أذهب..
وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا القلوب ولا تهملوها، وخير الفكر ما كان في عقب الحمام، ومن أكره بصره عشي، واشحذوا القلوب بالذاكرة ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا منحتم ببعض الاستغلاق، فإن من أدمن قرع الباب وصل.
وقال الخليع: من لم يأت شعره من الوحدة فليس بشاعر، قالوا: يريد الخلوة، وربما أراد الغربة، كما قال ديك الجن: ما أصفى شاعر مغترب قط.
ومما لا يسع تركه في هذا الموضع صحيفة كتبها بشر بن المعتمر، ذكر فيها البلاغة، ودل على مظان الكلام والفصاحة، يقول فيها:
خذ من نفسك ساعة فراغك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قلبك تلك الساعة أكرم جوهراً، وأشرف حساً، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدور، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين وغرة من لفظ شريف ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمجاهدة، وبالتكلف والمعاندة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، أو خفيفاً على اللسان سهلاً كما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه. وإياك والتوعر، فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراغ معنى كريماً فليلتمس له لفظاً كريماً؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن يصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله أسوأ حالاً منك من قبل أن تلتمس إظهارهما، وترهن نفسك في ملابستهما وقضاء حقهما، وكن في إحدى ثلاث منازل: فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً، وقريباً معروفاً: إما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وإما للعامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة. وإنما مدار الشرف مع الصواب وإحراز المنفعة، ومع موافقة الحال، ومع ما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، ولطف مداخلك، واقتدارك في نفسك على أن تفهم العامة معاني الخاصة وتكسوها الألفاظ المتوسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء؛ فأنت البليغ التام. فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك ولا تسمح لك عند أول نظرك في أول تكلفك، وتجد اللفظة لم تقع موقعها ولم تصل إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها؛ فلا تكرهها على اغتصاب مكانها، والنزول في غير أوطانها؛ فإنك إذا لم تتعاط قرض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختيار الكلام المنثور لم يعبك بترك ذلك أحد؛ فإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقاً مطبوعاً، ولا محكماً لشأنك، بصيراً بما عليك ولك؛ عابك من أنت أقل منه عيباً، ورأى من هو دونك أنه فوقك. فإن أنت ابتليت بأن تتكلف القول وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع؛ فلا تعجل، ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك؛ فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة إن كانت هناك طبيعة، أو جريت في الصناعة على عرق، فإن تمنع عليك بعد ذلك من غير حادث شغل، ومن غير طول إهمال؛ فالمنزلة الثالثة أن تتحول عن هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك، وأخفها عليك؛ فإنك لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما شاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في صفات، وإلا أن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع الشهوة والمحبة.
وقال بعض أهل الأدب: حسب الشاعر عوناً على صناعته أن يجمع خاطره، بعد أن يخلي قلبه من فضول الأشغال، ويدع الامتلاء من الطعام والشراب، ثم يأخذ فيما يريده. وأفضل ما استعان به الشاعر فضل غنى أو فرط طمع. والفقر آفة الشعر، وإنما ذلك لأن الشاعر إذا صنع القصيدة وهو في غنى وسعة نقحها وأنعم النظر فيها على مهل، فإذا كان مع ذلك طمع قوي انبعاثها من ينبوعها، وجاءت الرغبة بها في نهايتها محكمة، وإذا كان فقيراً مضطراً رضي بعفو كلامه، وأخذ ما أمكنه من نتيجة خاطره، ولم يتسع في بلوغ مراده ولا بلوغ مجهود نيته؛ لما يحفزه من الحاجة والضرورة، فجاء دون عادته في سائر أشعاره وربما قصر عمن هو دونه بكثير، ومنهم من تحمي الحاجة خاطره، وتبعث قريحته؛ فيجود، فإذا أوسع أنف، وصعب عليه عمل الأبيات اليسيرة فضلاً عن الكثيرة، وللعادة في هذه الأشياء فعل عظيم، وهي طبيعة خامسة كما قيل فيها.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)