المنشورات
باب التمثيل
ومن ضروب الاستعارة التمثيل، وهو الممائلة عند بعضهم، وذلك أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة، نحو قول امرؤ القيس وهو أول من ابتكره، ولم يأت أملح منه:
وما ذرفت عيناك إلا لتقذحي ... بسهميك في أعشار قلب مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر يعني المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب، وله ثلاثة أنصباء فصار جميع أعشار قلبه للسهمين الذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجزور؛ فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل.
وقال حريث بن زيد الخيل:
أبانا بقتلانا من القوم عصبة ... كراماً، ولم نأكل بهم حشف النخل
فمثل خساس الناس بحشف النخل، ويجوز أن يريد أخذ الدية فيكون حينئذ حذقاً أو إشارة.. وقال الأخطل لنابغة بني جعدة:
لقد جاز أبو ليلى بقحم ... ومنتكث عن التقريب وان
إذا هبط الخبار كبا لفيه ... وخر على الجحافل والجران
وإنما عيره بالكبر، وإنما هو شاب حديث السن.. وقال بعض الرواة: إنما تهاجيا في مسابقة فرسين، وهو غلط عند الحذاق.
ومن التمثيل أيضاً قوله:
فنحن أخ لم تلق في الناس مثلنا ... أخاً حين شاب الدهر وابيض حاجبه
ومعنى التمثيل اختصار قولك مثل كذا وكذا كذا وكذا ...
وقال أبو خراش في قصيدة رثى بها زهير بن عجردة، وقد قتله جميل بن معمر يوم حنين مأسوراً:
فليس كعهد الدار يا أم مالكٍ ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
يقول: نحن من عهد الإسلام في مثل السلاسل، وإلا فكنا نقتل قاتله، وهو من قول الله عز وجل في بني إسرائيل " ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم " يريد بذلك الفرائض المانعة لهم من أشياء رخص فيها لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى نحو ذلك ذهب عمرو بن معدي كرب حين خفقه عمر رضي الله عنه بالدرة، فقال له: الحمى أضرعتني لك، يعني الدين، وإن كان مثل قديماً إنما هو الحمى أضرعتني للنوم.
ومن جيد التمثيل قول ضباعة بنت قرط ترثي زوجها هشام بن المغيرة المخزومي:
إن أبا عثمان لم أنسه ... وإن صمتاً عن بكاه لحوب
تفاقدوا من معشر! ما لهم ... أي ذنوب صوبوا في القليب؟
ومن كلام النبي صلى الله عليه وسلم في التمثيل قوله: " الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة " وقوله: " ظهر المؤمن مشجبه، وخزانته بطنه، وراحلته رجله، وذخيرته ربه " وقوله: " المؤمن في الدنيا ضيف، وما في يديه عارية، والضيف مرتحل، والعارية مؤداة، ونعم الصهر القبر ".
ومن مليح أناشيد التمثيل قول ابن مقبل:
إني أقيد بالمأثور راحلتي ... ولا أبالي وإن كنا على سفر
فقوله أقيد بالمأثور تمثيل بديع، والمأثور هو السيف الذي فيه أثر، وهو الفرند، وقوله ولا أبالي حشو مليح، أفاد مبالغة عجيبة، وقوله إن كنا على سفر زيادة في المبالغة، وهذا النوع يسمى إيغالاً، وبعضهم يسميه التبليغ، وهو يرد في مكانه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
ومما اختاره عبد الكريم وقدمه قول ابن أبي ربيعة:
أيها المنكح الثريا سهيلاً ... عمرك الله كيف يلتقيان!!؟
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني
يعني الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت نهاية في الحسن والكمال، وسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وكان غاية في القبح والدمامة. فمثل بينهما وبين سمييهما، ولم يرد إلا بعد ما بينهما وتفاوته خاصة، لا أن سهيلاً اليماني قبيح ولا دميم، ولا أدري هل هذا الرأي موافق لرأي عبد الكريم أم لا؟ وحسبك أن الشاعر لم ينكر إلا التقاءهما.
وقال أبو الطيب وذكر نزاراً:
فأقرحت المقاود ذفرييها ... وصعر خدها هذا العذار
ووصف رمحاً فقال، وهو مليح متمكن جداً:
يغادر كل ملتفت إليه ... ولبته لثعلبه وجار
وقال يخاطب سيف الدولة:
بنو كعب وما أثرت فيهم ... يد لم يدمها إلا السوار
بها من قطعها ألم ونقص ... وفيها من جلالتها افتخار
والتمثيل والاستعارة من التشبيه، إلا أنهما بغير أداته، وعلى غير أسلوبه، والمثل المضروب في الشعر نحو قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
راجع إلى ما ذكرته؛ لأن معناه ستبدي لك الأيام كما أبدت لغيرك ويأتيك بالأخبار من لم تزود كما جرت عادة الزمان.. وتسمية المثل دالة على ما قلته؛ لأن المثل والمثل والشبيه والنظير، وقيل: إنما سمي مثلاً لأنه مائل لخاطر الإنسان أبداً، يتأسى به، ويعظ ويأمر ويزجر، والماثل: الشاخص المنتصب، من قولهم " طلل ماثل " أي: شاخص، فإذا قيل " رسم مائل " فهو الدارس، والماثل من الأضداد.. وقال مجاهد في قول الله عز وجل " وقد خلت من قبلهم المثلات ": هي الأمثال. وقال قتادة: هي العقوبات. وقال قوم: إنما معنى المثل المثال الذي يحذى عليه، كأنه جعله مقياساً لغيره، وهو راجع إلى ما قدمت. وقال بعضهم: في المثل ثلاث خلال: إيجاز اللفظ، وإصابة المعنى، وحسن التشبيه، وقد يكون المثل بمعنى الصفة، من ذلك قول الله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون " أي: صفة الجنة، وقوله: " وله المثل الأعلى في السموات والأرض " أي: الصفة العليا، وهي قولنا " لا إله إلا الله " وقوله تعالى: " ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه " أي: صفتهم.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)