المنشورات
باب الإشارة
والأشارة من غرائب الشعر وملحه، وبلاغة عجيبة، تدل على بعد المرمى وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملاً ومعناه بعيد من ظاهر لفظه؛ فمن ذلك قول زهير:
فإني لو لقيتك واتجهنا ... لكان لكل منكرة كفاء
فقد أشار له بقبح ما كان يصنع لو لقيه، هذا عند قدامة أفضل بيت في الإشارة.. وقول الآخر:
جعلت يدي وشاحاً له ... وبعض الفوارس لا يعتنق
وهذا النوع من الشعر هو الوحي عندهم.. وأنشد الحاتمي عن علي بن هارون عن أبيه، عن حماد، عن أبيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
جعلنا السيف بين الخد منه ... وبين سواد لمته عذارا
فأشار إلى هيئة الضربة التي أصابه بها دون ذكرها إشارة لطيفة دلت على كيفيتها، وإنما وصف أنهم ضربوا عنقه، ويروي بين الجيد ومثله قول الآخر:
ويوم يبيل النساء الدماء ... جعلت رداءك فيه خمارا
يريد بالرداء الحسام كما قال متمم بن نويرة:
لقد كفن المنهال تحت ردائه ... فتى غير مبطان العشيات أروعا
وقوله إنه جعله خماراً أي قنعت به الفرسان، وأشار بقوله يبيل النساء الدماء إلى وضع الحوامل من شدة الفزع.
ومما جاء في الإشارة على معنى التشبيه قول الراجز يصف لبناً ممذوقاً وجاء بمذق هل رأيت الذئب قط فإنما أشار إلى تشبيه لونه؛ لأن الماء غلب عليه فصار كلون الذئب.
ومن أنواع الإشارة التفخيم فكقول الله تعالى: " القارعة ما القارعة " وقد قال كعب بن سعد الغنوي:
أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ... ولا ورع عند اللقاء هيوب
وأما الإيماء فكقول الله عز وجل: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " فأومأ إليه وترك التفسير معه.. وقال كثير:
تجافيت عني حين لا لي حيلة ... وخلفت ما خلفت بين الجوانح
فقوله وخلفت ما خلفت إيماء مليح.. ومثله قول ابن ذريح:
أقول إذا نفسي من الوجد أصعدت ... بها زفرة تعتادني هي ما هيا
ومن أنواع التعريض: كقول كعب بن زهير لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
فعرض بعمر بن الخطاب وقيل: بأبي بكر رضي الله عنهما، وقيل: برسول الله صلى الله عليه وسلم تعريض مدح، ثم قال:
يمشون مشي الجمال الزهر يعصمهم ... ضرب إذا عرد السود التنابيل
فقيل: إنه عرض في هذا البيت بالأنصار، فغضبت الأنصار، وقال المهاجرون: لم تمدحنا إذ ذممتهم، حتى صرح بمدحهم في أبيات يقول فيها:
من سره كرم الحياة فلا يزل ... في مقنب من صالحي الأنصار
ومن مليح التعريض قول أيمن بن خريم الأسدي لبشر بن مروان يمدحه ويعرض بكلف كان بوجه أخيه عبد العزيز حين نفاه من مصر على يدي نصيب الشاعر مولاه:
كأن التاج تاج بني هرقل ... جلوه لأعظم الأعياد عيداً
يصافح خد بشر حين يمسي ... إذا الظلماء باشرت الخدودا
فهذا من خفي التعريض؛ لأنه أوهم السامع أنه إنما أراد المبالغة بذكر الظلماء لا سيما وقد قال حين يمسي وإنما أراد الكلف، هكذا حكت الرواة.
ومن أفضل التعريض مما يجل عن جميع الكلام قول الله عز وجل: " ذق إنك أنت العزيز الكريم " أي: الذي كان يقال له هذا أو يقوله، وهو أبو جهل؛ لأنه قال: ما بين جبليها يعني مكة أعز مني ولا أكرم، وقيل: بل ذلك على معنى الاستهزاء به.
ومن أنواعها التلويح، كقول المجنون قيس بن معاذ العامري:
لقد كنت أعلو حب ليلى فلم يزل ... بي النقض والإبرام حتى علانيا
فلوح بالصحة والكتمان ثم بالسقم والاشتهار تلويحاً عجيباً، وإياه قصد أبو الطيب بعد أن قلبه ظهراً لبطن فقال:
كتمت حبك حتى منك تكرمة ... ثم استوى فيك إسراري وإعلاني
لأنه زاد حتى فاض عن جسدي ... فصار سقمي به في جسم كتماني
إلا أنه أخفاه وعقده كما ترى، حتى صار أحجية يتلاقاها الناس.
ومن أجود ما وقع في هذا النوع قول النابغة يصف طول الليل:
تقاعس حتى قلت: ليس بمنقضً ... وليس الذي يرعى النجوم بآيب
" الذي يرعى النجوم " يريد به الصبح، أقامه مقام الراعي الذي يغدو فيذهب بالإبل والماشية؛ فيكون حينئذ تلويحه هذا عجباً في الجودة، وأما من قال: إن الذي يرعى النجوم إنما هو الشاعر الذي شكا السهر وطول الليل؛ فليس على شيء. وزعم قوم أم الآيب لا يكون إلا بالليل خاصة، ذكره عبد الكريم.
ومن أنواع الإشارات الكناية والتمثيل، كما قال ابن مقبل وكان جافياً في الدين: يبكي أهل الجاهلية وهو مسلم، فقيل له مرة في ذلك فقال:
وما لي لا أبكي الديار وأهلها ... وقد رادها رواد عك وحميرا
وجاء قطا الأحباب من كل جانب ... فوقع في أعطاننا ثم طيرا
فكنى عما أحدثه الإسلام ومثل كما ترى.
ومن أنواعها الرمز: كقول أحد القدماء يصف امرأة قتل زوجها وسبيت:
عقلت لها من زوجها عدد الحصى ... مع الصبح أو مع جنح كل أصيل
يريد أني لم أعطها عقلاً ولا قوداً بزوجها، إلا الهم الذي يدعوها إلى عد الحصى، وأصله من قول امرئ القيس:
ظللت ردائي فوق رأسي قاعداً ... أعد الحصى ما تنقضي عبراتي
ومن مليح الرمز قول أبي نواس يصف كؤوساً ممزوجة فيها صور منقوشة:
قرارتها كسرى، وفي جنباتها ... مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
يقول: إن خد الخمر من صور هذه الفوارس التي في الكؤوس إلى التراقي والنحور، وزبد الماء فيها مزاجاً، فانتهى الشراب إلى فوق رءوسها، ويجوز أن يكون انتهاء الحباب إلى ذلك الموضع لما مزجت فأزبدت، والأول أملح، وفائدته معرفة حدها صرفاً من معرفة حدها ممزوجة، وهذا عندهم مما سبق إليه أبو نواس، وأرى والله أعلم إنما تحلق على المعنى من قول امرئ القيس:
فلما استطابوا صب في الصحن نصفه ... ووافى بماء غير طرقٍ ولا كدر
ويروي " ووافوا وإياه أردت، ويروى " استظلوا " من الظل مكان " استطابوا " جعل الماء والشراب قسمين لقوة الشراب، فتسلق الحسن عليه، وأخفاه بما شغل به الكلام من ذكر الصورة المنقوشة في الكؤوس، إلا أنها سرقة ظريفة مليحة، ولم يكن أبو نواس يرضى أن يتعلق بمن دون امرئ القيس وأصحابه.
وأصل الرمز الكلام الخفي الذي لا يكاد يفهم، ثم استعمل حتى صار الإشارة وقال الفراء: الرمز بالشفتين خاصة.
ومن الإشارات اللمحة، كقول أبي نواس يصف يوماً مطيراً:
وشمسه حرة مخدرة ... ليس لها في سمائها نور
فقوله " حرة " يدل على ما أراد في باقي البيت؛ إذ كان من شأن الحرة الخفر والحياء، ولذلك جعلها مخدرة، وشأن القيان والمملوكات التبذل والتبرج، وأما زعم من زعم أن قوله " حرة " إنما يريد خلوصها كما تقول: هذا العلق من حر المتاع؛ فخطأ؛ لأن الشاعر قد قال: " ليس لها في سمائها نور " فأي خلوص هناك؟ وكذلك قول حسان ويكون أيضاً تتبيعاً:
أولاد جفنة حول قبر أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يريد أنهم ملوك ذوو حاضرة ومستقر عز، ليسوا أصحاب رحلة وانتجاع.
ومن أخفى الإشارات وأبعدها اللغز، وهو: أن يكون للكلام ظاهر عجب لا يمكن، وباطن ممكن غير عجب، كقول ذي الرمة يصف عين الإنسان:
وأصغر من قعب الوليد ترى به ... بيوتاً مبناة وأودية قفرا
فالباء في به للإلصاق كما تقول " لمسته بيدي " أي: ألصقتها به وجعلتها آلة اللمس، والسامع يتوهمها بمعنى في، وذلك ممتنع لا يكون، والأول حسن غير ممتنع ومثله قول أبي المقدام:
وغلام رأيته صار كلباً ... ثم من بعد ذاك صار غزالا
فقوله صار إنما هو بمعنى عطف وما أشبهه من قول الله عز وجل: " فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك "، ومستقبله يصور، وقد قيل " يصير " وهي لغة قليلة، وليس صار التي هي من أخوات كان مستقبلها يصير فقط ومعناها استقر بعد تحول.
واشتقاق اللغز من ألغز اليربوع ولغز، إذا حفر لنفسه مستقيماً ثم أخذ يمنة ويسرة، يوري بذلك ويعمى على طالبه.
ومن الإشارات اللحن، وهو كلام يعرفه المخاطب بفحواه، وإن كان على غير وجهه، قال الله تعالى: " ولتعرفنهم في لحن القول " وإلى هذا ذهب الحذاق في تفسير قول الشاعر:
منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً، وخير الحديث ما كان لحنا
ويسميه الناس في وقتنا هذا المحاجاة لدلالة الحجا عليه. وذلك نحو قول الشاعر يحذر قومه:
خلوا على الناقة الحمراء أرحلكم ... والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا
إن الذئاب قد اخضرت براثنها ... والناس كلهم بكر إذا شبعوا
أراد " بالناقة الحمراء " الدهناء، و " بالجمل الأصهب " الصمان، " وبالذئاب " الأعداء، يقول: قد اخضرت أقدامهم من المشي في الكلأ والخصب، والناس كلهم إذا شبعوا طلبوا الغزو فصاروا عدواً لكم كما أن بكر بن وائل عدوكم..
ومثل ذلك قول مهلهل لما غدره عبداه وقد كبرت سنه وشق عليهما ما يكلفهما من الغارات وطلب الثارات، فأراد قتله، فقال:
أوصيكما أن ترويا عني بيت شعر، قالا: وما هو؟ قال:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... لله دركما ودر أبيكما
فلما زعما أنه مات قيل لهما: هل أوصى بشيء؟ قالا: نعم، وأنشدا البيت المتقدم، فقالت ابنته: عليكم بالعبدين فإنما قال أبي:
من مبلغ الحيين أن مهلهلاً ... أمسى قتيلاً بالفلاة مجندلا
لله دركما ودر أبيكما ... لا يبرح العبدان حتى يقتلا
فاستقروا العبدين أنهما قتلاه، ورويت هذه الحكاية لمرقش.
وسبيل المحاجاة أن تكون كالتعريض والكناية، وكل لغز داخل في الأحاجي، وقد حاجى شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال له:
أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلا من حميم وصاحب
فأجابه التلميذ بأن قال:
سأكتم حتى ما تحس مدامعي ... بما انهل من دموع سواكب
فكان معكوس قول أبي عبد الله " عباد كزينب " سرك ذائع، فقال الآخر " سأكتم " فأجابه على الظاهر إجابة حسنة، ومعكوس سأكتم " منك أتيت " فكأنه قابل به قول الشيخ " ولم تؤت إلا من صديق وصاحب " وهذا كله مليح.
ومنها التعمية، وهذا مثل للطير وما شاكله، كقول أبي نواس: واسم عليه خبن للصفا وما أشبهه، وهو معنى مشهور.
ومن الإشارات مصحوبة، وهي عند أكثرهم معيبة كأنها حشو واستعانة على الكلام، نحو قول أبي نواس:
قال إبراهيم بالما ... ل كذا غرباً وشرقا
ولم يأت بها أبو نواس حشواً، ولكن شطارة وعبثاً بالكلام، وإن شئت قلت بياناً وتثقيفاً، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص: " وكيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس، وقد مرجت عهودهم وأمانتهم، واختلفوا فكانوا هكذا؟ وشبك بين أصابع يديه "، ولا أحد أفصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أبعد كلاماً منه من الحشو والتكلف.
وقالوا: مبلغ الإشارة أبلغ من مبلغ الصوت، فهذا باب تتقدم الإشارة فيه الصوت، وقيل: حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان، جاء بذلك الرماني نصاً، وقاله الجاحظ من قبل، وأخذ على بعض الشعراء في قوله:
أشارت بطرف العين خيفة أهلها ... إشارة مذعور ولم تتكلم
فأيقنت أن الطرف قال: مرحباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيب المتيم
إذ كان هذا كله مما لا تحمله إشارة خائف مذعور.
ولما أقام معاوية الخطباء لبيعة يزيد قام رجل من ذي الكلاع فقال: هذا أمير المؤمنين، وأشار بيده إلى معاوية، فإن مات فهذا، وأشار إلى يزيد، فمن أبى فهذا، وأشار إلى السيف، ثم قال:
معاوية الخليفة لا تمارى ... فإن يهلك فسائسنا يزيد
فمن غلب الشقاء عليه جهلاً ... تحكم في مفارقه الحديد
وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين بن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعراً لا قافية له؟ قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالاً:
ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك: " إشارة قبلة "
فأشارت بمعصم ثم قالت ... من بعيد خلاف قولي: " " لا لا "
فتنفست ساعة ثم إني ... قلت للبغل عند ذلك: " " امش "
فتعجب جميع من حضر المجلس من اهتدائه وحسن تأتيه، وأعطاه الأمين صلة شريفة.
ومن إشارات الحذف، نحو قول نعيم بن أوس يخاطب امرأته:
إن شئت أشرفنا جميعاً فدعا ... الله كل جهده فأسمعا
بالخير خيراً وإن شرا فاا ... ولا أريد الشر إلا أن تاا
كذا رواه أبو زيد الأنصاري، وساعده من المتأخرين علي بن سليمان الأخفش، وقال: لأن الرجز يدل عليه، إلا أن رواية النحويين " وإن شراً فا " و " إلا أن تا " قالوا: يريد إن شراً فشر، وإلا أن تشائي.. وأنشدوا:
ثم تنادوا بعد تلك الضوضا ... منهم بهات وهل ويا يا
نادى منادٍ منهم ألاتا ... قالوا جميعاً كلهم بلى فا
وأنشد الفراء: قلت لها قومي فقالت: قا ف يريد قد قمت.
ومن أنواعها التورية كقول علية بنت المهدي في طل الخادم:
أيا سرحة البستان طال تشوقي ... فهل لي إلى ظل إليك سبيل
متى يشتفى من ليس يرجى خروجه ... وليس لمن يهوى إليه دخول؟
فورت بظل عن طل، وقد كانت تجد به، فمنعه الرشيد من دخول القصر، ونهاها عن ذكره، فسمعها مرة تقرأ: " فإن لم يصبها وابل " فما نهى عنه أمير المؤمنين، أي فطل فقال: ولا كل هذا.
وأما التورية في أشعار العرب فإنما هي كناية: بشجرة، أو شاة، أو بيضة، أو ناقة، أو مهرة، أو ما شاكل ذلك كقول المسيب بن علس:
دعا شجر الأرض داعيهم ... لينصره السدر والأثأب
فكنى بالشجر عن الناس، وهم يقولون في لكلام المنثور: جاء فلان بالشوك والشجر، إذا جاء بجيش عظيم.
وكان عمر رضي الله عنه أو غيره من الخلفاء قد حظر على الشعراء ذكر النساء، فقال حميد بن ثور الهلالي:
تجرم أهلوها لأن كنت مشعراً ... جنوناً بها، يا طول هذا التجرم
وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
بلى فاسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلم
وقال أيضاً في مثل ذلك:
أبى الله إلا أن سرحة مالكٍ ... على كل أفنان العضاة تروق
فيا طيب رياها، ويا برد ظلها ... إذا حان من شمس النهار شروق
فهل أنا إن عللت نفسي بسرحة ... من السرح مسدود علي طريق؟
حمى ظلها شكس الخليقة خائف ... عليها غرام الطائفين شفيق
يريد بذلك بعلها أو ذا محرمها
فلا الظل من برد الضحى مستطيعه ... ولا الفيء منها في العشي نذوق
وقال عنترة العبسي:
يا شاة ما قنص لمن حلت له ... حرمت علي وليتها لم تحرم
وإنما ذكر امرأة أبيه، وكان يهواها، وقيل: بل كانت جاريته؛ فلذلك حرمها على نفسه، وكذلك قوله: والشاة ممكنة لمن هو مرتمي والعرب تجعل المهاة شاة؛ لأنها عندهم ضائنة الظباء، ولذلك يسمونها نعجة، وعلى هذا المتعارف في الكناية جاء قول الله عز وجل في إخباره عن خصم داود عليه السلام: " إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة " كناية بالنعجة عن المرأة، وقال امرؤ القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها ... تمتعت من لهوٍ بها غير معجل
كناية بالبيضة عن المرأة.. وروى ابن قتيبة أن رجلاً كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا حفصٍ رسولاً ... فدى لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله، إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
فما قلص وجدن معقلاتٍ ... قفا سلعٍ بمختلف النجار
يعقلهن جعد شيظمي ... وبئس معقل الذود الظؤار
وإنما كنى بالقلص وهي النوق الشواب عن النساء، وعرض برجل يقال له جعدة كان يخالف إلى المغيبات من النساء، ففهم عمر ما أراد، وجلد جعدة ونفاه.
ومن الكناية اشتقاق الكنية؛ لأنك تكني عن الرجل بالأبوة، فتقول: أبو فلان، باسم ابنه، أو ما تعورف في مثله، أو ما اختار لنفسه؛ تعظيماً له وتفخيماً، وتقول ذلك للصبي على جهة التفاؤل بأن يعيش ويكون له ولد.
قال المبرد وغيره: الكناية على ثلاثة أوجه: هذا الذي ذكرته آنفاً أحدها، والثاني: التعمية والتغطية التي تقدم شرحها، والثالث: الرغبة عن اللفظ الخسيس كقول الله عز وجل: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا " فإنها فيما ذكر كناية عن الفروج. ومثله في القرآن وفي كلام الفصحاء كثير.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)