المنشورات

باب التقسيم

اختلف الناس في التقسيم: فبعضهم يرى أنه استقصاء الشاعر جميع أقسام ما ابتدأ به، كقول بشار يصف هزيمة:
بضرب يذوق الموت من ذاق طعمه ... ويدرك من نجى الفرار مثالبه
فراح فريق في الأساري، ومثله ... قتيل، ومثل لاذ بالبحر هاربه
فالبيت الأول قسمان: إما الموت، وإما حياة تورث عاراً ومثلبة، والبيت الثاني ثلاثة أقسام: أسير، وقتيل، وهارب؛ فاستقضى جميع الأقسام، ولا يوجد في ذكر الهزيمة زيادة على ما ذكر.
ومثل ذلك قول عمرو بن الأهتم إلا أنه أكثر إيجازاً:
اشربا ما شربتما فهذيل ... من قتيل وهارب وأسير
فجمع الوجوه كلها في مصراع واحد.
ومن التقسيم الجيد قول نصيب:
فقال فريق القوم: لا، وفريقهم: ... نعم، وفريق قال: ويحك ما ندري
فلم يبق جواب سائل إلا أتى به؛ فاستوفى جميع الأقسام، وزعم قوم أنه أفضل بيت وقع فيه تقسيم.
ومن أناشيد قدامة في هذا الباب قول الشماخ يصف حمار وحش:
متى ما تقع أرساغه مطمئنةً ... على حجر يرفض أو يتدحرج
فلم يبق الشماخ قسماً ثالثاً إلا أن يقول: يغوص في الأرض، وذلك لا يلزم؛ من جهة أن الحافر عند الجرى وسرعة المشي يقذف الحجر إلى وراء، إلا أنه لو أتى به لكان حسناً من أجل قوله مطمئنة.
ومن أشرف المنثور في هذا الباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وهل لك يابن آدم بن مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت " فلم يبق عليه الصلاة والسلام قسماً رابعاً لو طلب يوجد.. وقال نافع بن خليفة: يا بني، اتقوا الله بطاعته، واتقوا السلطان بحقه، واتقوا الناس بالمعروف فقال رجل منهم: ما بقي شيء من أمر الدين والدنيا إلا وقد أمرتنا به.. وقال أعرابي إذا كان الرأي عند من لا يقبل منه، والسلاح عند من لا يستعمله، والمال عند من لا ينفقه ضاعت الأمور وكان ثابت البناني يقول: الحمد لله وأستغفر الله فسئل: لم خصهما؟ فقال: لأني بين نعمة وذنب؛ فاحمد الله على النعمة، وأستغفره من الذنوب.. ووقف أعرابي على حلقة الحسن البصري فقال: رحم الله من تصدق من فضل، أو واسى من كفاف، أو آثر من قوت، فقال الحسن: ما ترك البدوي منكم أحداً إلا وقد سأله.
ثم نعود إلى الشعر، قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
وهبها كشيء لم يكن، أو كنازح ... به الدار، أو من غيبته المقسابر
فلم يبق مما يعبر به عن إنسان مفقود قسماً إلا أتى به في هذا البيت.
وقال آخر، وأحسبه أبا دهبل الجمحي أو طريحاً:
لو قلت للسيل دع طريقك وال ... موج عليه كالهضب يعتلج
لارتد، أوساخ، أو لكان له ... في سائر الأرض عنك منعرج
ولا يدع السيل طريقه إلا بأحد هذه الأشياء.
وقال أبو العتاهية:
وعلى من كلفي بكم ... قيد وجامعة وغل
فأتى على جميع ما يتخذ للمأسور أو المجنون ولم يبقى قسماً هذا وأمثاله مما قدمت هو الجيد من التقسيم؛ وأما ما كان في بيتين أو ثلاثة فغير عاجز عنه كثير من الناس.
وزعم الحاتمي أن أصح تقسيم وقع لشاعر قول الأسعر الجعفي يصف فرساً:
أما إذا استقبلته فكأنه ... بازٍ يكفكف أن يطير وقد رأى
أما إذا استدبرته فتسوقه ... ساق قموس الوقع عارية النسا
أما إذا استعرضته متمطراً ... فتقول: هذا مثل سرحان الغضا
واختاره أيضاً قدامة، وليس عندي بأفضل من قول امرئ القيس إلا بشرف الصفات:
إذا أقبلت قلت دباءة ... من الخضر مغموسة في الغدر
وإن أدبرت قلت أثفية ... ململمة ليس فيها أثر
وإن أعرضت قلت سرعوفة ... لها ذنب خلفها مسبطر
ولو لم يكن إلا تنسيق هذا الكلام بعضه على بعض، وانقطاع ذلك بعضه من بعض، وقد صنعت على ضعف متني وتأخر وقتي:
إذا أقبلت أقعت، وإن أدبرت كبت ... وتعرض طولاً في العناني فتستوي
وكلفت حاجاتي شبيهة طائر ... إذا انتشرت ظلت لها الأرض تنطوي
ومن التقسيم نوع هو هذا الأول إلا أن فيه زيادة تدريجاً وترتيباً فصعب لذلك على متعاطيه وقل جداً.. فأحسنه قول زهير بن أبي سلمى:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فأتى بجميع ما استعمل في وقت الهياج، وزاد ممدوحه رتبة، وتقدم به خطوة على أقرانه، ولا أرى في التقسيم عديل هذا البيت، ويليه في باله قول عنتر:
إن يلحق أكرر، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا بضنك أنزل
ويروى وإن يقفوا ومما ينضاف إليهما قول طريح بن إسماعيل الثقفي:
إن يسمع الخير يخفوه، وإن سمعوا ... شراً أذاعوا، وإن لم يسمعوا كذبوا
وقال الحصين بن الحمام:
دفعناكم بالحلم حتى بطرتم ... وبالكف حتى كان رفع الأصابع
فلما رأينا جهلكم غير منتهي ... وما قد مضى من حلمكم غير راجع
مسنا من الآباء شيئاً، وكلنا ... إلا حسب في قومه غير واضح
فلما بلغنا الأمهات وجدتم ... بني عمكم كانوا كرام المضاجع
كأنه يقول: نحن أكرم منكم أمهات، فهذا هو التدريج في الشعر.
وبعضهم في التقسيم على خلاف ما قدمت: زعم أبو العيناء أن خير تقسيم قول ابن أبي ربيعة:
تهيم إلى نعم؛ فلا الشمل جامع ... ولا الحبل موصول، ولا أنت مقصر
ولا قرب نعم إن دنت منك نافع، ... ولا نأيها يسلى، ولا أنت تصبر
واختار قوم آخرون قول الحارثي:
فلا كمدى يفنى، ولا لك رقة، ... ولا عنك إقصار، ولا فيك مطمع
وزعم الفرزدق أن أكمل بيت قالته العرب أو قال: أجمع بيت قول امرئ القيس:
له أيطلا ظبي، وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
وقال الأعشي يصف فرساً:
سلس مقلده، أسي ... ل خده، مرع جنابه
وقال عمرو بن شأس:
مدمج سابغ الضلوع طويل الش ... خص عبل الشوي ممر الأعالي
وقال أبو دؤاد الإيادي:
بعيد مدى الطرف حاظي البضيغ ... ممر المطا سمهري القصب
هذا وما قبله يسمى جمع الأوصاف، وسماه بعض الحذاق من أهل الصناعة التعقيب العين قبل القاف وأما التقعيب فمكروه في الكلام.
وكان محمد بن موسى المنجم يحب التقسيم في الشعر، وكان معجباً بقول العباس بن الأحنف:
وصالكم صرم وحبكم قلي ... وعطفكم صد وسلمكم حرب
ويقول: أحسن والله فيما قسمحين جعل كل شيء ضده، والله إن هذا التقسيم لأحسن من تقسيمات إقليدس، حكى ذلك الصولي..
ومن مليح التقسيم قول داود بن سلم:
في باعه طول، وفي وجهه ... نور، وفي العرنين منه شمم
فوصف بعض أحواله وقسمها كما فعل الأولون.
ومن أنواع التقسيم التقطيع، أنشد الجرجاني للنابغة الذبياني:
ولله عيناً من رأى أهل قبة ... أضر لمن عادى أو أكثر نافعاً
وأعظم أحلاماً وأكبر سيداً ... وأفضل مشفوعاً إليه وشافعاً
وسماه قوم منهم عبد الكريم التفصيل، وأنشد في ذلك:
بيض مفارقنا، تغلي مراجلنا ... ناس بأموالنا آثار أيدينا
وقال البحتري:
قف مشوقاً، أو مسعداً، أو حزيناً ... أو معيناً، أو عاذراً أو عذولاً
فقطع وفصل كما تراه. وقال أبو الطيب:
فيا شوق ما أبقى، ويا لي من النوى، ... ويا دمع ما أجرى، ويا قلب ما أصى
ففصل كما فعل أصحابه وجاء به على تقطيع الوزن، كل لفظتين ربع بيت..
وقال أيضاً:
للسبي ما نكح، والقتل وما ولد، ... والنهب ما جمع، والنار ما زرعوا
وإذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعاً أو شبيهاً بالمسجوع فذلك هو الترصيع عند قدامة، وقد فضله وأطنب في وصفه إطناباً عظيماً.. وأنشد أبيات أبي المثلم يرثى صخر الغي:
لو كان للدهر مال عند متلده ... لكان للدهر صخر مال قنيان
آبي الهضيمة، ناب بالعظيمة، مت ... لاف الكريمة لا سقط ولان وان
حامي الحقيقة، نسال الوريقة، مع ... تاق الوسيقة، جلد غير ثنيان
رباء مرقبة، مناع مغلبه ... ركاب سهبلة، قطاع أقران
هباط أودية، حمال ألوية ... شهاد أندية، سرحان فتيان
يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه ... من التلاد وهوب غير منان
وللقدماء من هذا النوع، إلا أنهم لا يكثرون منه كراهة التكلف.. قال أبو دؤاد يصف فرساً، وقيل: بل رجل من الأنصار:
فالعين قادحة، والرجل ضارحة ... واليد سابحة، واللون غربيب
والشد منهمر، والماء منحدر، ... والقصب مضطمر، والمتن ملحوب
وقال الكميت بن زيد في ذلك:
كالناطقات الصادقا ... ت الواسقات من الذخائر
وإلى هذا ذهب أبو الطيب بقوله:
الناعمات القاتلات المحييا ... ت المبديات من الدلائل غرائبا
وقال توبة بن الحمير، وفيه التقسيم والترصيع:
لطيفات أقدام، نبيلات أسوق ... لفيفات أفخاذ، دقاق خصورها
وقال مسلم بن الوليد صريع الغواني:
كأنه قمر، أو ضيغم هصر، ... أو حية ذكر، أو عارض هطل
وقال أيضاً:
يورى بزندك، أو يسعى بجندك، أو ... يفرى بحدك، كل غير محدود
ومن كلام أبي تمام، وكان يجيد التصنيع:
تجلى به رشدي، وأثرت به يدي، ... وفاض به ثمدي، وأروى به زندي
وقال أيضاً وأحسن ما شاء:
تدبير معتصم، بالله منتقم، ... لله مرتقب، في الله مرتغب
وقال أيضاً في غير هذا النمط:
عن ثامر ضاف، ونبت قرارة ... واف، ونور كالمراجل خافي
المراجل: ثياب.. وقال كشاجم:
هلال في إضاءته حياء في سماحته شهاب في اتقاده
ومن جيد ما للمحدثين قول ديك الجن:
حر الإهاب وسيمه، بر الإيا ... ب كريمه، محض النصاب صميمه
فأكثر البيت ترصيع كيف ما أدرته..
وكان المذهب الأول وهو المحمود أن يؤتى ببيت من هذا أو بعض بيت، كما قال امرؤ القيس:
وأوتاده ماذية، وعماده ... ردينية، فيها أسنة قعضب
وكما قال امرؤ القيس:
كحلاء في برج، صفراء في نعج، ... كأنها فضة قد مسها ذهب
وأما ما هو شبيه بالمسجوع فقول امرئ القيس:
فتور القيام، تطوع الكلا ... م، تفتر عن ذي غروب أشر
وقوله ألص الضروس، حنى الضلوع فجاء فتور في وزن قطوع، وكذلك الضروس والضلوع، وألص وحنى.
ثم أدخل المولدون في هذا الباب أشياء عدوها تقطيعاً وتقسيماً، وذلك نحو قول أبي العميثل الأعرابي:
فاصدق وعف وجد وأنصف واحتمل ... واصفح ودار وكاف واحلم واشجع
والطف ولن وتأن وارفق واتئد ... واحزم وجد وحام واحمل وادفع
وكقول ديك الجن:
أحل وأمرر، وضر وانفع ولن واخ ... شن ورش وابر وانتدب للمعالي
وقول أبي الطيب:
أقل أنل اقطع احمل على سل أعد ... زد هش بش تفضل ادن سر صل
ثم زاد في هذا وتباغض حتى صنع:
عش ابق أمم سد قد جد مر انه رهفه أسر نل ... غظ ارم صب احم اغز اسب رع زغ دل ائن بل
فهذه رقية العقرب كما قال ابن وكيع، ولا بد من شرحها.. قوله عش ابق دعاء له بالعيش والبقاء، واسم: من السمو، وسد: من السيادة: أي دم هكذا، وقد: من قود الخيل، وجد: من الجود والسماح، أو من الجود وهو المطر الغزير، مرانه: من الأمر والنهي، ره: من الورى تثبت الهاء فيه أظنه في الخط دون اللفظ، على أنه ليس موضع وقف، ولا يجب أن يكتب بلا هاء لئلا يخالف العادة وتقع كلمة على حرف واحد، والورى: داء في الجوف: أي اصنع ذلك بإعدائك وحسادك، فه: من الوفاء، واسر: من سرى الليل، يصفه بالعزم والغارات، ونل: من النيل والإدراك، أي: نل ما تحب، وروى نل أي أعط، من النول، ويقال: نلته إذا أعطيته، وغظ: من غيظ الحسود، ويروي عظ من الوعظ، وارم: من رمي العدو بالمكايد وغيرها، وصب: من صاب المطر والهم، واحم: من حميت المكان، واغز: من الغزو، واسب: من السبي وارع: من الروع، وزع: من وزعت، أي: كففت، ود: من الدية، ول: من الولاية للأمور وقد يكون من المطر الولي، واثن: من الثنى أضداده إذا ردهم، وبل: من الوابل، وهذه غاية المقت والبغاضة وإن كان ولا بد فقوله أيضاً:
دان بعيد، محب مبغض، بهج ... أغر، حلو ممر، لين شرس
ندي أبي غر واف أخو ثقة ... جعد سرى نهٍ ندب رضاً ندس
ند: من الندى، وغر: من غرى به، ونهٍ: من النهى، وأصل هذا كله من قول امرئ القيس:
أفاد فجاد، وشاد فزاد ... وقاد فذاد، وعاد فأفضل










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید