المنشورات

باب التفريع

وهو من الاستطراد كالتدريج من التقسيم، وذلك أن يقصد الشاعر وصفاً ما ثم يفرع منه وصفاً آخر يزيد الموصوف توكيداً، نحو قول الكميت:
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم يشفى بها الكلب
فوصف شيئاً ثم فرع شيئاً آخر لتشبيه شفاء هذا بشفاء هذا. وقال ابن المعتز:
كلامه أخدع من لحظه ... ووعده أكذب من طيفه
فبينا هو يصف خدع كلامه فرع منه خدع لحظه، ويصف كذب وعده فرع كذب طيفه وقال أيضاً يصف ساقي كأس:
فكأن حمرة لونها من خده ... وكأن طيب نسيمها من نشره
حتى إذا صب المزاج تبسمت ... عن ثغرها فحسبته من ثغره
ما زال ينجزني مواعد عينه ... فمه، وأحسب ريقه من خمره
البيتان الأولان من هذه الثلاثة تفريع، والبيت الآخر ليس بتفريع جيد؛ لأن الخمرة نازلة عن رتبة الريق عند العاشق، وحق التفريع أن يكون الآخر من الموصوفين زائداً على الأول درجة: في الحسن إن قصد المدح، وفي القبح إن قصد الذم، وهو نوع خفي إلا على الحاذق البصير بالصنعة.
ومثل بيت ابن المعتز قول البحتري:
وإذا تألق في الندي كلامه ال ... مصقول خلت لسانه من عضبه
لأن حق العضب في باب المدح أن اللسان أمضى منه..
ومن التفريع الجيد قول الصنوبري:
ما أخطأت نوناته من صدغه ... شيئاً، ولا ألفاته من قده
وكأنما أنفاسه من شعره ... وكأنما قرطاسه من جلده
فانظر إليه كيف يزيده رتبة في الجودة كلما فرع.
ووصف ابن شيرزاد جارية كاتبة: فقال كأن خطها أشكال صورتها، وكأن بيانها سحر مقلتها، وكأن سكينها غنج لحظها، وكأن مدادها سواد شعرها، وكأن قرطاسها أديم وجهها، وكأن قامتها بعض أناملها، وكأن مقطها قلب عاشقها.
وشتان ما بين هذا الوصف وقول الآخر يهجو كاتباً أنشده الصولي في أبيات:
كأن دواته من ريق فيه ... تلاق فنشرها أبداً كريه
وقال كشاجم:
شيخ لنا من مشايخ الكوفه ... نسبته للعليل موصوفه
لو بدل الله قمله غنما ... ما طمع الناس منه في صوفه
ومن لطيف التفريع قول أبي الطيب يصف ليلا:
أقلب فيه أجفاني كأني ... أعد بها على الدهر الذنوبا
بينا هو يصف كثرة سهره وإدارة لحظه شبهها بكثرة ذنوب الدهر عنده.. وقال فبرد:
ولو نقصت كما قد زدت من شرف ... على الورى لرأوني مثل شانيكا
هذا التفريع الملعون.. وقال محمد بن وهب:
طللان طال عليهما الأمد ... دثراً فلا علم ولا نضد
لبسا البلى فكأنما وجدا ... بعد الأحبة بعض ما أجد
ومن المستحسن قول الخوارزمي أبي بكر محمد بن العباس:
سمح البديهة ليس يمسك لفظه ... فكأنما ألفاظه من ماله
وكأنما عرماته وسيوفه ... من حدهن خلقن من إقباله
متبسم في الخطب تحسب أنه ... تحت العجاج ملثم بفعاله
وأخبث ما سمعته في هذا الباب قول ابن الرومي يهجو رجلاً:
له سائس ماهر ... يجول على متنه
ويطعن في دبره ... أفانين من طعنه
بأطول من قرنه ... وأغلظ من ذهنه
ومن التفريع أيضاً قول أبي الطيب على غير هذا النظام:
أسير إلى أقطاعه في ثيابه ... على طرفه من داره بحسامه
وما مطرتنيه من البيض والقنا ... وروم العبدي هاطلات غمامه
فهذا تفريع تناوله من قول أبي تمام:
فقالوا: فما أولاك؟ صف بعض نيله ... فقلت لهم: من عنده كل ما عندي
وأصله من قول أبي نواس: فكل خير عندهم من عنده يصف كلب صيد.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید