المنشورات

باب الغلو

ومن أسمائه أيضاً الإغراق، والإفراط، ومن الناس من يرى أن فضيلة الشاعر إنما هي في معرفته بوجوه الإغراق والغلو، ولا أرى ذلك إلا محال؛ لمخالفته الحقيقة، وخروجه عن الواجب والمتعارف.. وقد قال الحذاق: خير الكلام الحقائق، فإن لم يكن فما قاربها وناسبها، وأنشد المبرد قول الأعشى:
فلو أن ما أبقين مني معلق ... بعود تمام ما تأود عودها
فقال: هذا متجاوز، وأحسن الشعر ما قارب فيه القائل إذا شبه، وأحسن منه ما أصاب الحقيقة فيه، انقضى كلامه.
وأصح الكلام عندي ما قام عليه الدليل، وثبت فيه الشاهد من كتاب الله تعالى، ونحن نجده قد قرن الغلو فيه بالخروج عن الحق؛ فقال جل من قائل: " يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ".
والغلو عند قدامة: تجاوز في نعت ما للشيء أن يكون عليه، وليس خارجاً عن طباعه، كقول النمر بن تولب في صفة سيف شبه به نفسه:
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
إذ ليس خارجاً عن طباع السيف أن يقطع الشيء العظيم ثم يغوص بعد ذلك في الأرض، ولأن مخارج الغلو عنده على " تكاد " وعلى هذا تأول أصحاب التفسير قول الله تعالى: " وبلغت القلوب الحناجر " أي: كادت.
وقال الجرجاني في كتاب الوساطة: والإفراط مذهب عام في المحدثين، وموجود كثير في الأوائل، والناس فيه مختلفون: من مستحسن قابل، ومستقبح راد، وله رسوم متى وقف الشاعر عندها ولم يتجاوز بالوصف حدها سلم، ومتى تجاوزها اتسعت له الغاية، وأدته الحال إلى الإحالة، وإنما الإحالة نتيجة الإفراط، وشعبة من الإغراق.
وقال الحاتمي: وجدت العلماء بالشعر يعيبون على الشاعر أبيات الغلو والإغراق، ويختلفون في استحسانها واستهجانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرى أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضيلة له، فيقولون: أحسن الشعر أكذبه، وأن الغلو إنما يراد به المبالغة والإفراط، وقالوا: إذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج عن الموجود ويدخل في باب المعدوم فإنما يريد به المثل وبلوغ الغاية في النعت، واحتجوا بقول النابغة وقد سئل: من أشعر الناس فقال: من استجيد كذبه وأضحك رديثه، وقد طعن قوم على هذا المذهب بمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة، انقضى كلامه.
ومن أبيات الغلو للقدماء قول مهلهل:
فلولا الريح اسمع من بحجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
وقد قيل: إنه أكذب بيت قالته العرب، وبين حجر وهي قصبة اليمامة وبين مكان الوقعة عشرة أيام، وهذا اشد غلواً من قول امرئ القيس في النار؛ لأن حاسة البصر أقوى من حاسة السمع وأشد إدراكاً..
ومنها قول النابغة في صفة السيوف:
تقد السلوقي المضاعف نسجه ... ويوقدن بالصفاح نار الحباحب
وهو دون بيت امرئ القيس في تنر صاحبة النار إفراطاً، ودون بيت النابغة قول النمر بن تولب في صفة السيف أيضاً، وقد أنشدته فيما مضى من هذا الباب واختار قوم على بيتي النابغة والنمر قول أبي تمام:
ويهتز مثل السيف لو لم تسله ... يدان لسلته ظباه من الغمد
ومن الغلو قول جرير:
فلو وضعت فقاح بني نمير ... على خبث الحديد إذا لذابا
لأنه شيء لا يذوب أبداً، وقد نعي على أبي نواس قوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
إذ جعل ما لم يخلق يخافه.. وكذلك قوله:
حتى الذي في الرحم لم يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
وزعم بعض المتعقبين أن الذي كثر هذا الباب أبو تمام، وتبعه الناس بعد، وأين أبو تمام مما نحن فيه؟ فإذا صرت إلى أبي الطيب صرت إلى أكثر الناس غلواً، وأبعدهم فيه همة، حتى لو قدر ما أخلي منه بيتاً واحداً، وحتى تبلغ به الحال إلى ما هو عنه غنى، واه في غيره مندوحة، كقوله:
يترشفن من فمي رشفات ... هن فيه أحلى من التوحيد
وإن كان له في هذا تأويل ومخرج يجعله التوحيد غاية المثل في الحلاوة بفيه.
وقوله:
لو كان ذو القرنين أعمل رأيه ... لما أتى الظلمات صرن شموسا
أو كان صادف رأس عازر سيفه ... في يوم معركة لأعيا عيسى
أو كان لج البحر مثل يمينه ... ما انشق حتى جاز فيه موسى
فما دعاه إلى هذا وفي الكلام عوض من بلا تعلق عليه؟ فكيف إذا قال:
كأني دحوت الأرض من خبرتي به ... كأني بني الإسكندر السد من عزمي
فشبه نفسه بالخالق، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، ثم انحط إلى الإسكندر، وربما أفسد أبو الطيب إغراقه هكذا ونقص منه بما يظنه إصلاحاً له وزيادة فيه، نحو قوله يصف شعره:
إذا قلته لم يمتنع من وصوله ... جدار معلى أو خباء مطنب
فما وجه الخباء المطنب بعد الجدار المنيف؟ بينا هو في الثريا صار في الثرى! وإنما أراد الحاضرة والبادية، وكذلك قوله:
تصد الرياح الهوج عنها مخافة ... ويفزع منها الطير أن يلقط الحبا
فكم بين خوف الرياح الهوج وصدودها، وبين فزع الطير أن تلقط الحب؟ ولا سيما وأفزع الطير بهائمه التي تلقط الحب لضعفها وعدمها السلاح، وأقل خيال أو تمثال يحمي مزروعات جمة
وقد رجح صاحب الوساطة هذا البيت على قول أبي تمام:
فقد بث عبد الله خوف انتقامه ... على الليل حتى ما تدب عقاربه
فاعتبروا يا أولي البصار.
ومما يشاكل قول أبي الطيب في ألفاظه قول نصر الخابز أرزي:
ذبت من الشوق فلو زج بي ... في مقلة النائم لم ينتبه
وكان لي فيما مضى خاتم ... فالآن لو شئت تمنطقت به
فبين الإغراق والإغراق بون بعيد واختلاف شديد.
وإذا لم يجد الشاعر بداً من الإغراق لحبه ذلك، ونزوع طبعه إليه فليكن ذلك منه في الندرة، وبيتاً قي القصيدة إن أفرط، ولا يجعل هجيراه كما يفعل أبو الطيب. وأحسن الإغراق ما نطق فيه الشاعر أو المتكلم بكاد أو ما شاكلها، نحو كأن ولو ولولا، وما أشبه ذلك مما لم يناسب أبيات أبي الطيب المتقدم ذكرها في البشاعة، ألا ترى ما أعجب قول زهير:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرم ... قوم بأحسابهم أو مجدهم قعدوا
فبلغ ما أراد من الإفراط، وبنى كلامه على صحة.
ومما استحسنه الرواة ونص عليه العلماء قول امرئ القيس يصف سناناً:
حملت ردينيا كأن شباته ... سنا لهب لم يتصل بدخان
وإذا نظرت إلى قول أبي صخر:
تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ... وينبت في أطرافها الورق النضر
وقول أبي الطيب:
عجبت من أرض سحاب أكفهم ... من فوقها وصخورها لا تورق
لم يخف عنك وجه الحكم فيهما، على أن في قول أبي الطيب بعض الملاحة والمخالطة لطبعه في حب الإفراط وقلة المبادرة فيه؛ إذ كان ممكناً أن يقول: إن الصخور أورقت، ولغة القرآن أفصح اللغات، وأنت تسمع قول الله تعالى: " يكاد البرق يخطف أبصارهم " وقوله: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " وقوله: " يكاد زينتها يضيء ولو لم تمسسه نار ".
واشتقاق الغلو من المبالغة، ومن غلوة السهم، وهي مدى رميته، يقال: غاليت فلاناً مغالاة وغلاء، إذا اختبرتما أيكما أبعد غلوة سهم، ومنه قول النبي عليه الصلاة السلام: " جرى المذكيات غلاء " وقد جاء في حديث داحس " غلاء " و " غلاب " بالياء ايضاً، وإذا قلت: غلا السعر غلاء، فإنما تريد أنه ارتفع وزاد على ما كان، وكذلك غلت القدر غلياً أو غلياناً، إنما هو أن يجيش ماؤها ويرتفع، والإغراق أيضاً أصله في الرمي، وذلك أن تجذب السهم في الوتر عند النزع حتى تستغرق جميعه بينك وبين حنية القوص، وإنما تفعل ذلك لبعد الغرض الذي ترميه، وهذه التسمية تدل على ما نحوت إليه وأشرت نحوه.








مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید