المنشورات

باب التشكك

وهو من ملح الشعر وطرف الكلام، وله في النفس حلاوة وحسن موقع، بخلاف ما للغو والإغريق.
وفائدته الدالة على قرب الشبهين حتى لا يفرق بينهما، ولا يميز أحدهما من الآخر، وذلك نحو قول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
فإن تكن النساء مخبئآت ... فحق لكل محصنة هداء
فقد أظهر أنه لم يعلم أنهم رجال أم نساء، وهذا أملح من أن يقول: هم نساء، وأقرب إلى التصديق؛ ولهذه العلة اختاروه كما تقدم القول في بيت ذي الرمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقاآ أنت أم أم سالم
وبيت جرير فإنك لو رأيت عبيد تيم وبيت أبي النجم في صفة عرق الخيل. وقال العرجي:
بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاي منكن أم ليلى من البشر
وإنما سلك طريق ذي الرمة.
وقال سلم بن عمرو الخاسر:
تبدت فقلت الشمس عند طلوعها ... بجلد غني اللون عن أثر الورس
فلما كررت الطرف قلت لصاحبي ... على مرية: ما ها هنا مطلع الشمس
فأنت ترى كيف موقع هذا الشك من اليقين؟ وكيف حلاوته في الصدر وقبوله؟؟ فإنه لو كان يقيناً ما بلغ هذا المبلغ.
وتناول هذا المعنى أبو زيد الوضاح بن محمد الثقفي فقال يمدح المستعين بالله:
وقائلة والليل قد نشر الدجى ... فغطى بها ما بين سهل وقردد
أرى بارقاً يبدو من الجوسق الذي ... به حل ميراث النبي محمد
فظل عذارى الحي ينظمن تحته ... ظفارية الجزع لم يسرد
أضاءت به الآفاق حتى كأنما ... رأينا بنصف الليل نور ضحى الغد
فقلت: هو البدر الذي تعرفينه ... وإلا يكن فالنور من وجه أحمد
وأما قول أبي تمام حين قصد عبد الله بن طاهر إلى خراسان يذكر شك رفقائه واستبعادهم الطريق:
يقول في قومس صحبي وقد أخذت ... منا السرى وخطا المهرية القرد:
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا؟ ... فقلت: كلا ولكن مطلع الجود
فقد صرف المعنى فيه عن وجهه، وخالف فيه قصده، ونسب الشك إلى غيره، وهو بعيد من قول سلم، وليس ذكرهما جميعاً مطلع الشمس قدوة، ولا عليه معول.. وقال ابن ميادة:
وأشفق من وشك الفراق وإنني ... أظن لمحمول عليه فراكبه
فوالله ما أدري: أيغلبني الهوى ... إذاجد جد البين أم أنا غالبه؟!
فقوله في البيت الأول " أظن " مليح جداً، وكذلك قوله في البيت الثاني " ما أدري أيغلبني الهوى أم أنا غالبه ".
وأخذ هذا المعنى ابن أبي مية وزاده ملاحة فقال:
فديتك لم تشبع ولم ترو من هجري ... أيستحسن الهجران أكثر من شهر
أراني سأسلو عنك إن دام ما أرى ... بلا ثقة، لكن أظن ولا أدري
وقد أحسن أبو الطيب في قوله:
أريقك أم ماء الغمامة أم خمر؟؟ ... بفي برود وهو في كبدي جمر
لولا أنه كدر صفوه ومرر حلوه بما أضاف إليه من قوله:
أذا الغصن أم ذا الدعص أم أنت فتنة ... وهذا الذي قبلته البرق أم ثغر؟
ولله در أبي نواس إذ يقول:
ألا لا أرى مثل امترى اليوم في رسم ... تغص به عيني ويلفظه وهمي
أتت صور الأشياء بيني وبينه ... فظني كلا ظن وعلمي كلا علم
ويروي وجهلي كلا جهل.
وأول من نطق بهذا المعنى امرؤ القيس:
لمن طلل دارس آيه ... أضر به سالف الأحرس
تنكره العين من جانب ... ويعرفه شغف الأنفس
وقال أعرابي في معنى أبيات الوضاح بن محمد:
أقول والنجم قد مالت مياسره ... إلى الغروب: تأمل نظرة حار
ألمحة من سنا برق رأى بصري ... ووجه نعم بدا لي أم سنا نار
بل وجه نعم بدا والليل معتكر ... فلاح من بين حجاب وأستار









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید