المنشورات
باب التكرار
وللتكرار مواضع يحسن فيها، ومواضع يقبح فيها، فأكثر ما يقع التكرار في الألفاظ دون المعانى، وهو في المعاني دون الألفاظ أقل، فإذا تكرر اللفظ والمعنى جميعاً فذلك الخذلان بعينه، ولا يجب للشاعر أن يكرر اسماً إلا على جهة التشوق والاستعذاب، إذا كان في تغزل أو نسيب.. كقول امرئ القيس، ولم يتخلص أحد تخلصه فيما ذكر عبد الكريم وغيره، ولا سلم سلامته في هذا الباب:
ديار لسلمى عافيات بذي الخال ... ألح عليها كل أسحم هطال
وتحسب سلمى لا تزال كعهدنا ... بوادي الخزامي أو على رأس أو عال
وتحسب سلمى لا تزال ترى طلا ... من الوحش أو بيضاً بميثاء محلال
ليالي سلمى إذ تريك منضداً ... وجيداً كجيد الريم ليس بمعطال
وكقول قيس بن ذريح:
ألا ليت لبنى لم تكن لي خلة ... ولم تلقني لبنى ولم أدر ما هيا
أو على سبيل التنويه به، والإشارة إليه بذكر، إن كان في مدح كقول أبي الأسد:
ولائمة لامتك يا فيض في الندى ... فقلت لها: هل يقدح اللوم في البحر؟
أرادت لتثني الفيض عن عادة الندى ... ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر؟!
كأن وفود الفيض يوم تحملوا ... إلى الفيض لاقوا عنده ليلة القدر
مواقع جود الفيض في كل بلدة ... مواقع ماء المزن في البلد القفر
فتكر يراسم الممدوح ههنا تنويه به، وإشارة بذكره، وتفخيم له في القلوب والأسماع.
وكذلك قول الخنساء:
وإن صخراً لمولانا وسيدنا ... وإن صخراً إذا نشتو لنحار
وإن صخراً لتأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
أو على سبيل التقرير والتوبيخ. كقول بعضهم:
إلى كم وكم أشياء منكم تريبني ... أغمض عنها لست عنها بذي عمي
فأما قول محمد بن مناذر الصبيري في معنى التكثير:
كم وكم كم كم وكم كم كم وكم ... قال لي: أنجز حر ما وعد
فقد زاد على الواجب، وتجاوز الحد.
ولما أنشدوا للصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد قول أبي الطيب:
عظمت فلما لم تكلم مهابة ... تواضعت، وهو العظم عظماً عن العظم
قال: ما أكثر عظام هذا البيت مع أنه من قول الطائي:
تعظمت عن ذاك التعظيم فيهم ... وأوصاك عظم القدر أن تتنبلا
ومن المعجز في هذا النوع قول الله تعالى في سورة الرحمن: " فبأي آلاء ربكما تكذبان " كلما عدد منة أو ذكر بنعمة كرر هذا. وقد كرر أبو كبير الهذلي قوله:
فإذا وذلك ليس إلا ذكره ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
على بعض الروايات في سبعة مواضع من قصيدته التي أولها:
أزهير هل عن شيبة من معدل ... أم لا سبيل إلى الشباب الأول؟؟
كلما وصف فصلاً وأتمه كرر هذا البيت.
أو على سبيل التعظيم للمحكي عنه، وأنشد سيبويه:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء ... نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
أو على جهة الوعيد والتهديد إن كان عتاب موجع، كقول الأعشى ليزيد بن مسهر الشيباني:
أبا ثابت لا تعلقنك رماحنا ... أبا ثابت أقصر وعرضك سالم
وذرنا وقوماً إن هم عمدوا لنا ... أبا ثابت واقعد فإنك طاعم!!
أو على وجه التوجع إن كان رثاء وتأبيناً، نحو قول متمم بن نويرة:
وقالوا: أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك؟؟
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى ... دعوني فهذا كله قبر مالك
وأولى ما تكرر فيه الكلام باب الرثاء؛ لمكان الفجيعة وشدة القرحة التي يجدها المتفجع، وهو كثير حيث التمس من الشعر وجد.
أو على سبيل الاستغاثة وهي في باب المديح، نحو قول العديل بن الفرخ:
بني مسمع لولا الإله وأنتم ... بني مسمع لم ينكر الناس منكرا
ويقع التكرار في الهجاء على سبيل الشهرة، وشدة التوضيع بالمهجو، كقول ذي الرمة يهجو المرئي:
تسمى امرأ القيس بن سعد إذا اعتزت ... وتأبى السبال الصهب والأنف الحمر
ولكنا أصل امرئ القيس معشر ... يحل لهم لحم الخنازير والخمر
نصاب امرئ القيس العبيد وأرضهم ... ممر المساحي لا فلاة ولا مصر
تخطى إلى الفقر امرؤ القيس؛ إنه ... سواء على الضيف امرؤ القيس والفقر
تحب امرؤ القيس القرى أن تناله ... وتأبى مقاريها إذا طلع الفجر
هل الناس إلا يا امرأ القيس غادر ... ووافٍ وما فيكم وفاء ولا غدر؟
وكذلك صنع جرير في قصيدته الدماغة التي هجا بها راعي الإبل؛ فإنه كرر " بني نمير " في كثير من أبياتها.
ويقع أيضاً على سبيل الازدراء والتهكم والتنقيص، كقول حماد عجرد لابن نوح، وكان يتعرب:
يا بن نوح يا أخا ال ... حلس ويا ابن القتب
ومن نشا والده ... بين الربا والكثب
يا عربي يا عربي ... يا عربي يا عربي
ومن المعيب في التكرار قول ابن الزيات:
أتعزف أم تقيم على التصابي؟ ... فقد كثرت مناقلة العتاب
إذا ذكر السلو عن التصابي ... نفرت من اسمه نفر الصعاب
وكيف يلام مثلك في التصابي ... وأنت فتى المجانة والشباب؟!!
سأعزف إن عزفت عن التصابي ... إذا ما لاح شيب بالغراب
ألم ترني عدلت عن التصابي ... فأغرتني الملامة بالتصابي؟!!
فملأ الدنيا بالتصابي، على التصابي لعنة الله من أجله، فقد برد به الشعر، ولا سيما وقد جاء به كله على معنى واحد من الوزن، لم يعد به عروض البيت، وأين هذا من تكريره على جهة التفخيم في قوله للحسن بن سهل من قصيدة:
إلى الأمير الحسن استجدتها ... أي مزار ومناخ ومحل
أي مزار ومناخ ومحل ... لخائف ومستريش ذي أمل
وهذا كقول امرئ القيس:
تقطع أسباب اللبانة والهوى ... عشية جاوزنا حماة وشيزرا
عشية جاوزنا حماة وشيزرا ... أخو الجهد لا يلوي على من تعذرا
ومن تكرير المعاني قول امرئ القيس، وما رأيت أحداً نبه عليه:
فيا لك من ليل كأن نجومه ... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت في مصامها ... بأمراس كتان إلى صم جندل
فالبيت الأول يغني عن الثاني، والثاني يغني عن الأول، ومعناهما واحد؛ لأن النجوم تشتمل على الثريا، كما أن بذبل يشتمل على صم الجندل، وقوله " شدت بكل مغار الفتل " ومثل قوله " علقت بأمراس كتان " ويقرب من ذلك وليس به قول كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعدما ... تخليت مما بيننا وتخلت
لكالمرتجى ظل الغمامة كلما ... تبوأ منها للمقيل اضمحلت
كأني وإياها سحابة ممحل ... رجاها فلما جاوزته استهلت
إلا أن كثيراً تصرف، فجعل رجاء الأول ظل الغمامة ليقيل تحتها من حرارة الشمس فاضمحلت وتركته ضاحياً، وجعل الممحل في البيت الثاني يرجو سحابة ذات ماء فأمطرت بعد ما جاوزته.
ومن مليح هذا االباب ما أنشدنيه شيخنا أبو عبد الله محمد بن جعفر لابن المعتز، وهو قوله:
لساني لسري كتوم كتوم ... ودمعي بحبي نموم نموم
ولي مالك شفني حبه ... بديع الجمال وسيم وسيم
له مقلتا شادنٍ أحورٍ ... ولفظ سحور رخيم رخيم
فدمعي عليه سجوج سجوم ... وجسمي عليه سقيم سقيم
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
5 أبريل 2024
تعليقات (0)