المنشورات

نفي الشيء بإيجابه

وهذا الباب من المبالغة، وليس بها مختصاً، إلا أنه من محاسن الكلام، فإذا تأملته وجدت باطنه نفياً، وظاهره إيجاباً.. قال امرؤ القيس:
على لاحب لا يهتدى بمناره ... إذا سافه العود النباطي جرجرا
فقوله " لا يهتدى بمناره " لم يرد أن له مناراً لا يهتدى به، ولكن أراد أنه لا منار له فيهتدى بذلك المنار.
وكذلك قول زهير:
بأرض خلاء لا يسد وصيدها ... علي، ومعروفي بها غير منكر
فأثبت لها في اللفظ وصيداً، وإنما أراد ليس لها وصيد فيسد علي.
ويتصل بهذا قول الزبير بن عبد المطلب يذكر عميلة بن السباق بن عبد الدار، وكان نديماً له وصاحباً:
صبحت بهم طلقاً يراح إلى الندى ... إذا ما انتشى لم تحتضره مفاقره
ضعيفاً بحث الكأس قبض بنانه ... كليلاً على وجه النديم أظافره
فظاهر كلامه أنه يخمش وجه النديم، إلا أن أظافره كليلة، وإنما أراد في الحقيقة أنه لا يظفر وجه النديم ولا يفعل شيئاً من ذلك، وكذلك قوله " لم تحتضره مفاقره " أي: ليس له مفاقر فتحتضره.
وقال أبو كبير الهذلي يصف هضبة:
وعلوت مرتقباً على مرهوبة ... حصاء ليس رقيبها في مثمل
عيطاء معنقة يكون أنيسها ... ورق الحمام جميعها لم يؤكل
يريد أنه ليس بها جميم فيؤكل، يدل على ذلك قوله في البيت الأول " حصاء " وهي التي لا نبت فيها.
وقال أبو ذؤيب يصف فرساً:
متفلق أنساؤها عن قانئ ... كالقرط صار وغبره لا يرضع
فلم يرد أن هناك بقية لبن لا يرضع، لكن أراد أنها لا لبن لها فيرضع.
والشاهد على جميع ما قلته في شرح هذه الأشياء ما جاء في تفسير قول الله عز وجل:
" لا يسألون الناس إلحافاً " قالوا: ليس يقع منهم سؤال فيقع إلحافاً: أي هم لا يسألون البتة.
والمعيب من هذا الباب قول كثير يرثي عزة صاحبته:
فهلا وقاك الموت من أنت زينه ... ومن هو أسوأ منك دلاً وأقبح؟
لأنه قد أوهم السامع أن لها دلاً سيئاً، ولكن غيره أسوأ منه وأقبح، فكيف إن كان القبح راجعاً عليها لا على دلها، وليس هذا في شيء من قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلا " لأن هذا إشكال فيه.









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید