المنشورات

باب في المديح

وسبيل الشاعر إذا مدح ملكاً أن يسلك طريقة الإيضاح والإشادة بذكره للممدوح، وأن يجعل معانيه جزلة، وألفاظه نقية، غير مبتذلة سوقية، ويجتنب مع ذلك التقصير والتجاوز والتطويل؛ فإن للملك سآمة وضجراً، ربما عاب من أجلها ما لا يعاب، وحرم من لا يريد حرمانه، ورأيت عمل البحتري إذا مدح الخليفة كيف يقل الأبيات، ويبرز وجوه المعاني، فإذا مدح الكتاب عمل طاقته، وبلغ مراده.
وقد حكى عن عمارة أن جده جريراً قال: يا بني، إذا مدحتهم فلا تطيلوا الممادحة؛ فإنه ينسى أولها، ولا يحفظ آخرها، وإذا هجوتم فخالفوا.
قال عبد الكريم: وهذا ضد قول عقيل بن علفة المرادي، وحكى غيره قال: دخل الفرزدق على عبد الرحمن بن أم الحكم، فقال له عبد الرحمن: أبا فراس، دعني من شعرك الذي ليس يأتي آخره حتى ينسى أوله، وقال: قل في بيتين يعلقان بالرواة، وأنا أعطيك عطية لم يعطكها أحد قط قبلي، فغدا عليه وهو يقول:
وأنت ابن بطحاوي قريشٍ، وإن تشأ ... تكن من ثقيف سيل ذي خدر غمر وأنت ابن سوار اليدين إلى العلى ... تكفت بك الشمس المضيئة للبدر
فقال: أحسنت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وإذا كان الممدوح ملكاً لم يبال الشاعر كيف قال فيه، ولا كيف أطنب، وذلك محمود، وسواه المذموم، وإن كان سوقة فإياك والتجاوز به خطته؛ فإنه متى تجاوز به خطته؛ كان كمن نقصه منها، وكذلك لا يجب أن يقصر عما يستحق، ولا أن يعطيه صفة غيره؛ فيصف الكاتب بالشجاعة والقاضي بالحمية والمهابة، وكثيراً ما يقع هذا لشعراء وقتنا، وهو خطأ، إلا أن تصحبه قرينة تدل على الصواب الرأي فيه، وكذلك لا يجب أن يمدح الملك ببعض ما يتجه في غيره من الرؤساء، وإن كان فضيلة.
وذلك مثل قول البحتري يمدح المعتز بالله:
لا العذل يردعه ولا الت ... عنيف عن كرم يصده
فإنه مما أنكره عليه أبو العباس أحمد بن عبد الله، وقال: من ذا يعنف الخليفة على الكرم أو يصده؟ هذا بالهجاء أولى منه بالمدح.
وعيب على الأخطل قوله في عبد الملك بن مروان:
وقد جعل الله الخلافة منهم ... لأبيض لا عاري الخوان ولا جدب
وقالوا: لو مدح بها حرسياًً لعبد الملك لكان قد قصر به.
قلت أنا: وإن كان فلا بد من ذكر الضيافة والقرى، كقول ابن قيس الرقيات لمصعب بن الزبير:
يلبس الجيش بالجيوش ويسقي ... لبن البخت في عساس الخلنج
لأن هذا وإن لم يعد به ممادحة العرب في سقي اللبن فقد زاده رتبة عرف بها أنه ملك. وأجود منه في معناه قول حسان في آل جفنة:
يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
ويروي " مسكا ".
وعابوا على الأحوص قوله للملك:
وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم ... مذق الحديث يقول ما لا يفعل
فقالوا: إن الملوك لا تمدح بما يلزمها فعله كما تمدح العامة، وإنما تمدح بالإغراق والتفضيل بما لا يتسع غيرهم لبذله.
ومن هذا النوع قول كثير:
رأيت ابن ليلى يعتري صلب ماله ... مسائل شتى من غني ومصرم
مسائل إن توجد لديك تجد بها ... يداك، وإن تظلم بها تتظلم
لأن هذا إنما يقع لمن دون الخليفة والملك، وإنما أخذه من قول زهير في هرم ابن سنان، وليس بملك، ولذلك حسن قوله:
هو الجواد الذي يعطيك نائله ... عفواً، ويظلم أحياناً فيظلم
يريد أنه يسأل ما ليس قبله فيحتمله، هذا، وقد قال الصولي في شرح قول حبيب:
لو يفاجى ركن المديح كثيراً ... بمعانيه خالهن نسيباً
طاب فيه المديح والتذ، حتى ... فاق وصف الديار والتشييبا
سألت عون بن محمد الكندي: لم خص كثيراً؟ فقال: سمعته يقول: أمدح الناس زهير والأعشى، ثم الأخطل وكثير.
وحكى غير الصولي أن مروان بن أبي حفصة كان يقدم كثيراً في المدح على جرير والفرزدق.
ومما قدم به زهير قوله:
لو كان يقعد النجم من كرمٍ ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
قوم سنان أبوهم حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
إنس إذا أمنوا، جن إذا فزعوا، ... مرزأون بها ليل إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله عنهم ماله حسدوا
ويروي غر بها ليل في أعناقهم صيد وقدمه قدامة بن جعفر الكاتب فقال في كتابه نقد الشعر: لما كانت فضائل الناس من حيث هم ناس، لا من طريق ما هم مشتركون فيه مع سائر الحيوانات، على ما عليه أهل الألباب من الاتفاق في ذلك؛ إنما هي العقل والعفة والعدل والشجاعة؛ كان القاصد للمدح بهذه الأربعة مصيباً، وبما سواها مخطئاً.
فقال زهير:
أخي ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
لأنه قد وصفه بالعفة لقلة في اللذات وأنه لا ينفد فيها ماله، وبالسخاء لإهلاكه ماله في النوال وانحرافه إلى ذلك عن اللذات، وذلك هو العقل، ثم قال:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أراد أن فرحة بما يعطي أكثر من فرحه بما يأخذ، فزاد في وصف السخاء منه: بأن يهش، ولا يلحقه مضض، ولا تكره لفعله..
ثم قال:
فمن مثل حصن في الحروب ومثله ... لإنكار ضيم أو لخصم يجادله
فأتى في هذا البيت بالوصف من جهة الشجاعة والعقل، فاستوفى ضروب المدح الأربعة التي هي فضائل الإنسان على الحقيقة، وزادها ما هو وإن كان داخلاً في الأربعة فكثير من الناس من لا يعرف وجه دخوله فيها حيث قال أخي ثقة فوصفه بالوفاء، والوفاء داخل في هذه الفضائل التي قدمنا، وقد تفنن الشعراء فيعدون أنواع الفضائل الأربع وأقامها وكل داخل في جملتها مثل أن يذكروا ثقابة المعرفة، والحياء، والبيان، والسياسة، والصدع بالحجة، والعلم، والحلم عن سفاهة الجهلة، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى، وهي من أقسام العقل؛ وكذكرهم القناعة، وقلة الشهوة، وطهارة الإزار، وغير ذلك وهي من أقسام العفة؛ وكذكرهم الحماية، والأخذ بالثأر، والدفع عن الجار، والنكاية في العدو، وقتل الأقران، والمهابة، والسير في المهامه والقفار الموحشة، وما شاكل هذا وهو من أقسام الشجاعة؛ وكذكرهم السماحة، والتغابن، والانظلام، والتبرع بالنائل، والإجابة للسائل، وقرى الأضياف، وما جانس هذه الأشياء، وهي من أقسام العدل.
وأما تركيب بعضها من بعض فيحدث منها سته أقسام: يحدث من تركيب العقل مع الشجاعة الصبر على الملمات ونوازل الخطوب، والوفاء بالإيعاد؛ وعن تركيب العقل مع السخاء البر، وإنجاز الوعد وما أشبه ذلك؛ وعن تركيب العقل مع العفة التنزه، والرغبة عن المسألة، والاقتصار على أدنى معيشة، وما أشبه ذلك؛ وعن تركيب الشجاعة مع السخاء الإتلاف، والإخلاف وما جانس ذلك؛ وعن تركيب الشجاعة مع العفة إنكار الفواحش، والغيرة على الحرم؛ وعن تركيب السخاء مع العفة الإسعاف بالوقت، والإيثار على النفس، وما شاكل ذلك.
قال: وكل واحدة من هذه الفضائل الأربع المتقدم ذكرها وسط بين طرفين مذمومين.
مدح أبو العتاهية عمر بن العلاء فأعطاه سبعين ألفاً وخلع عليه حتى لم يستطع أن يقوم، فغار الشعراء لذلك، فجمعهم ثم قال: عجباً لكم معشر الشعراء ما أشد حسد بعضكم لبعض، إن أحدكم يأتينا ليمدحنا فينسب في قصيدته بصديقته بخمسين بيتنا فما يبلغنا حتى تذهب لذاذة مدحه ورونق شعره، وقد أتى أبو العتاهية فنسب في أبيات يسيرة. ثم قال:
إني أمنت الزمان وريبه ... لما علقت من الأمير حبالاَ
لو يستطيع الناس من إجلاله ... لحذوا له حر الخدود نعالاً
إن المطايا تشتكيك؛ لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ... وإذ صدرن بنا صدرن ثقالاً
ومن مليح ما لأبي العتاهية في المدح قوله:
فتى ما استفاد الما إلا أفاده ... سواه كأن الملك في كفه حلم
إذا ابتسم المهدي نادت يمينه ... ألا من أتانا زائرا فله الحكم
وله أيضاً في معنى بيتي الفرزدق اللذين صنعهما لعبد الرحمن بن أم الحكم:
فما مثل بيتيه في العالمين ... أعز بناء ولا أرفع
فبيت بناه له هاشم ... وبيت بناه له تبع
ولو حاول الدهر ما في يديه ... لعاد وعرنينه أجدع
ومن المديح المنصوص عليه قول زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوهها ... وأندية ينتابها القول والفعل
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالس قد يشفى بأحلامها الجهل
على مكثريهم حق من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم ... فلم يفعلوا ولم يليموا ولم يألوا
فما كان من خير أتوه فإنما ... توارثه أباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وكذلك أيضاً قوله:
من يلق يوماً على علاته هرماً ... يلق السماحة منه والندى خلقاً
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا ... ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
فضل الجواد على الخيل البطاء فلا ... يعطي بذلك ممنوناً ولا نزقا
هذا وليس كمن يعيا بخطبته ... وسط الندى إذا ما ناطق نطقا
لو نال حي من الدنيا بمكرمة ... أفق السماء لنالت كفه الأفقا
وينبغي أن يكون قصد الشاعر في مدح الكاتب والوزير ما اختاره قدامة وغيره، وكذلك ما ناسب حسن الروية، وسرعة الخاطر بالصواب، وشدة الحزم، وقلة الغفلة، وجود النظر للخليفة، والنيابة عنه في المعضلات بالرأي أو الذات، كما قال أبو نواس:
إذا نابه أمر فإما كفيته ... وإما عليه بالكفى تشير
وبأنه محمود السير، حسن السياسة، لطيف الحس، فإن أضاف ذلك إلى البلاغة، والخط، والتفنن في العلم؛ كان غاية.
وأفضل ما مدح به القائد: الجود، والشجاعة، وما تفرغ منهما، نحو التخرق في الهيئات، والإفراط في النجدة، وسرعة البطش، وما شاكل ذلك.
ويمدح القاضي بما ناسب العدل والإنصاف، وتقريب البعيد في الحق، وتبعيد القريب، والأخذ للضعيف من القوي، والمساواة بين الفقير والغني، وانبساط الوجه، ولين الجانب، وقلة المبالاة في إقامة الحدود واستخراج الحقوق، فإن زاد إلى ذلك ذكر الورع، والتحرج، وما شاكلهما، فقد بلغ النهاية.
وصفات القاضي كلها لائقة بصاحب المظالم، ومن دون هذه الثلاث الطبقات سوى طبقة الملك فلا أرى لمدحه وجهاً، فإن دعت إلى ذلك ضرورة مدح كل إنسان بالفضل في صناعته، والمعرفة بطريقته التي هو فيها، وأكثر ما يعول عن الفضائل النفسية التي ذكرها قدامة، فإن أضيف إليها فضائل عرضية أو جسمية: كالجمال، والأبهة، وبسطة الخلق، وسعة الدنيا، وكثرة العشيرة؛ كان ذلك جيداً، إلا أن قدامة قد أبى منه، وأنكره جملة، وليس ذلك صواباً، وإنما الواجب عليه أن يقول: إن المدح بالفضائل النفيسة أشرف وأصح، فأما إنكار ما سواها كرة واحدة فما أظن أحداً يساعده فيه، ولا يوافقه عليه.
وقد كره الحذاق أن تمدح الملوك بما ناسب قول موسى شهوات وروى لغيره: 
ليس فيما بدا لنا منك عيب ... عابه الناس غير أنك فاني
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
وذكر عن سليمان بن عبد الملك أنه خرج من الحمام، وهو الخليفة، يريد الصلاة، ونظر في المرآة فأعجبه جماله، وكان حسن الوجه، فقال: أنا الملك الشاب، ويروى " الفتى " فتلقته إحدى حظاياه، فقال لها: كيف ترينني؟ فتمثلت في البيتين المتقدم ذكرهما، فتطير بهما ورجع، فحم فما بات إلا ميتاً تلك الليلة وروى عن بعض الملوك أنه قال: ما لهؤلاء الشعراء قاتلهم الله، ربما ذكرونا شيئاً نحن أكثر ذكراً له منهم فينغصون به علينا أوقات لذتنا!!؟ يعني بذلك الموت.
ومن أشنع ما في ذلك قول أبي تمام:
فليطل عمره فلو مات في طو ... س مقيماً لمات فيها غريبا
فما الذي دعاه إلى ذكر الموت ههنا إلا النكد والنغاصة؟.
أجمع الناس على تقديم قول كعب بن زهير يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تحمله الناقة الأدماء معتجراً ... بالبرد كالبدر جلى ليلة الظلم
وفي عطافيه أو أثناء ريطته ... ما يعلم الله من دين ومن كرم
والجهال يروون البيت الأول لأبي دهبل الجمحي، ويناسبه قول العجاج:
يحملن كل سؤدد وفخر ... يحملن ما ندري وما لا ندري
قال الأصمعي: وأصله قول الحارث بن حلزة:
وفعلنا بهم كما علم الل ... هـ وما إن للحائنين دماء
قال: ولم يقل قط شاعر " كما يعلم " أحسن من هذه الثلاثة المعاني قال أبو العباس المبرد: من الشعراء من يحمل المدح، فيكون ذلك وجهاً حسناً؛ لبلوغه الإرادة مع خلوة من الإطالة، وبعده من الإكثار، ودخوله في الاختصار.
وذلك نحو قول الحطيئة:
تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ومن يعط أثمان المكارم يحمد
تزور فتى يعطي على الحمد ماله ... ويعلم أن المرأ غير مخلد
يرى البخل لا يبقي على المرء ماله ... ويعلم أن المرء غير مخلد
ورواه غيره أن المال غير مخلد.
كسوب متلاف إذا ما سألته ... تهلل واهتز اهتزاز المهند
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... نجد خير نار عندها خير موقد
تصرف في أبياته هذه في أصناف المديح، واتى بجماع الوصف وجملة المدح على سبيل الاقتصار في البيت الأخير.
ومثله قول الشماخ:
رأيت عرابة الأوسي يسمو ... إلى العلياء منقطع القرين
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
انتهى كلامه.
ومن أفضل ما مدح به ملوك وأكثره إصابة للغرض ما ناسب قول أبن هرمة المنصور:
له لحظات عن حفافي سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
فأم الذي أمنت آمنة الردى ... وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل
وقول أبي العتاهية في مدح الهادي:
يضطرب الخوف والرجاء إذا ... حرك موسى القضيب أو فكرا
وكذلك قول الحزين الكناني في عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وقد وفد عليه بمصر، ويروي للفرزدق في علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقيل: بل قالها فيه اللعين المنقري، وقيل: بل الأبيات لداود بن سلم في قثم بن العباس بن عبد الله بن العباس:
في كفه خيزران ريحه عبق ... من كف أروع في عرنينه شمم
يغضي حياء ويغضى من مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل منصور النميري في أمير المؤمنين الرشيد:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلك الله منها حيث تجتمع
إذا رفعت أمراً فالله رافعه ... ومن وضعت من الأقوام متضع
من لم يكن بأمين الله معتصماً ... فليس بالصلوات الخمس بنتفع
إن أخلف الغيث لم تخلف أنامله ... أو ضاق أمر ذكرناه فيتسع
فليدخل، فقال محمد بن وهب: فينا من يقول خيراً منه، وأنشد:
ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتهم ... شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
يحكى أفاعيله في كل نائلة ... الغيث والليث والصمصامة الذكر
فأمر بإدخاله وأحسن صلته.
قالوا: لما حضرت الحطيئة الوفاة قال: أبلغوا الأنصار أن أخاهم أمدح الناس حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
قال ثعلب: بل قول الأعشى:
فتى لو يباري الشمس ألقت قناعها ... أو القمر الساري لألقى المفالدا
أمدح منه.
وقال أبو عمرو بن العلاء: بل بيت جرير:
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
أسير ما قيل في المدح وأسهله.
وقال غيره: بل قول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاماً إذا قدروا
وقال دعبل: بل قول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ... دجى الليل حتى نظم العقد ثاقبه
قال: وقد تنازع في هذا البيت يعني بيت أبي الطمحان قوم، وفي بيت حسان في آل جفنة، وبيت النابغة:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وبيت أبي الطمحان أشعرها.
قال الحاتمي: بل بيت زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وحكى علي بن هارون عن أبيه أنه قال: أجمع أهل العلم على أن بيتي أبي نواس أجود ما للمولدين في المدح، وهما قوله:
أنت الذي تأخذ الأيدي بحجزته ... إذا الزمان على أبنائه كلحا
وكلت بالدهر عيناً غير غافلة ... من جود كفك تأسو كل ما جرحا
روى الحاتمي عن محمد بن عبد الواحد عن أحمد بن يحيى قال: سمعت ابن الأعرابي يقول: أمدح بيت قاله مولد قول أبي نواس:
تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعيني ترى دهري وليس يراني
فلو تسأل الأحداث عني ما درت ... وأين مكاني ما عرفن مكاني
قال صاحب الكتاب: نحن إلى الإنصاف أحوج منا إلى المكابرة والخلاف، أبو نواس ذهب مذهباً لطيفاً يخرج له فيه العذر والتأويل، وإلا فما في صفة الخمول أشد مما وصف، لا سيما على رواية من روى: فلو تسأل الأيام عني ومن جيد ما سمعته لمحدث وأظنه لابن الرومي في عبيد الله بن سليمان بن وهب، ورأيت من يرويه لأبي الحسين أحمد بن محمد الكاتب:
إذا أبو قاسم جادت لنا يده ... لم يحمد الأجودان: البحر والمطر
ولو أضاءت لنا أنوار غرته ... تضاءل النيران: الشمس والقمر
وإن مضى رأيه أو حد عزمته ... تأخر الماضيان: السيف والقدر
من لم يبت حذراً من خوف سطوته ... لم يدر ما المزعجان: الخوف والحذر
ينال بالظن ما يعيا العيان به ... والشاهدان عليه العين والأثر
كأنه وزمام الدهر في يده ... يرى عواقب ما يأتي وما يذر
وقال خلف الأحمر: أغلب المدح أكثره ملقاً كقول زهير:
تراه إذا ما جئته متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخو ثقة لا يهلك الخمر ماله ... ولكنه قد يهلك المال نائله
غدوت عليه غدوة فوجدته ... قعوداً لديه بالصريم عواذله
يفدينه طوراً، وطوراً يلمنه ... وأعيى فما يدرين أين مخاتله
فأعرضن منه عن كريم مرزإ ... عزوم على الأمر الذي هو فاعله
وقال طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا ... تلاقي الذي لا قوة منا لملت
وقال الأصمعي: أخلب الشعر قول حمزة بن بيض:
تقول لي والعيون هاجعة: ... أقم علينا يوماً، فلم أقم
أي الوجوه انتجعت؟ قلت لها: ... لا أي وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجباً سرداقه ... هذا ابن بيضٍ بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذ حل أعطني سلمي
وسأل الرشيد المفضل الضبي: أي بيت قالته العرب أمدح؟ فقال:
أغر أبلج تأتم الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
هكذا روايته فيه.
قال شرحبيل بن معن بن زائدة: كنت أسير تحت قبة يحيى بن خالد، وقد حج مع الرشيد، وعديله أبو يوسف القاضي، إذ أتاه أعرابي من بني أسد كان يلقاه إذا حج فيمدحه، فأنشده شعراً أنكر يحيى منه بيتاً فقال: يا أخا بني أسد، ألم أنهك عن مثل هذا الشعر؟ ألا قلت كما قال الشاعر:
بنو مطر يوم اللقاء كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
بها ليل في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
هم القوم إن قالوا أصابوا، وأن دعوا ... أجابوا، وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيع الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
فقال أبو يوسف: لمن هذا الشعر أصلحك الله فما سمعت أحسن منه؟ فقال يحيى: يقوله ابن أبي حفصة في أبي هذا الفتى، وأوما إلي، فكان قوله أسر إلى من جليل الفوائد، ثم التقت إلي وقال: يا شرحبيل، أنشدني أجود ما قاله ابن أبي حفصة في أبيك، فأنشدته:
نعم المناخ لراغب ولراهب ... ممن تصيب جوائح الأزمان
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
إن عد أيام اللقاء فإنما ... يوماه يوم ندى ويوم طعان
يكسو الأسرة والمنابر بهجة ... ويزينها بجهارة وبيان
تمضي أسنته ويسفر وجهه ... في الحرب عند تغير الألوان
نفسي فداك أبا الوليد إذا بدا ... رهج السنابك والرماح دواني
فقال يحيى: أنت لا تدري جيد ما مدح به أبوك، أجود من هذا قوله:
تشابه يوماه علينا فأشكلاً ... فلا نحن ندري أي يوميه أفضل
أيوم نداه الغمر، أم يوم بأسه؟ ... وما منهما إلا أغر محجل
ومما اخذ الكميت قوله يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
فاعتتب القول من فؤادي والش ... عر إلى من إليه معتتب
إلى السراج المنير أحمد لا ... يعدلني رغبة ولا رهب
عنه إلى غيره ولو رفع الن ... اس إلى العيون وارتقبوا
وقيل: أفرطت، بل تقصدت، ولو ... عنفني القائلون أو ثلبوا
إليك يا خير من تضمنت ال ... أرض ولو عاب قولي العيب
لج بتفضيلك اللسان ولو ... أكثر فيك الضجاج والصخب
قالوا: من هذا الذي يقول في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أفرطت، أو يعنفه، أو يثلبه، أو يعيبه، حتى يكثر الضجاج والصخب؟!! وهذا كله خطأ منه، وجهل بمواقع المدح، وقال من احتج له: لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد علياً رضي الله عنه، فورى عنه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً من بني أمية.
ومن الشعراء من ينقل المديح عن رجل إلى رجل، وكان ذلك دأب البحتري، وفعله أبو تمام في قصائد معدودة؛ منها: قدك أتئب أربيت في الغلواء نقلها عن يحيى بن ثابت إلى محمد بن حسان، فأما الذي قال: " هن بنياتي أنكحهن من شئت " فهو معذور إن لم يثب، فأما إن أثيب فذلك منه قلة وفاء، وفرط خيانة.










مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید