المنشورات

سيرورة الشعر والحظوة في المدح

كان الأعشى أسير الناس شعراً، وأعظمهم فيه حظاً، حتى كاد ينسى الناس أصحابه المذكورين معه؛ ومثله زهير، والنابغة، وامرؤ القيس؛ وكان جرير نابغة الشعر مظفراً، قال الأخطل للفرزدق: أنا والله أشعر من جرير، غير أنه رزق من سيرورة الشعر ما لم أرزقه، وقد قلت بيتاً لا أحسب أن أحداً قال أهجى منه، وهو:
قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النار
وقال هو:
والتغلبي إذا ننحنح للقرى ... حك استه وتمثل الأمثالا
فلم يبق سقاء ولا أمة حتى روته. قال الأصمعي: فحكما له بسيرورة الشعر قال الحسين بن الضحاك الخليع: أنشدت أبا نواس قولي:
وشاطري اللسان مختلق الت ... كريه شاب المجون بالنسك
إلى أن بلغت إلى قولي:
كأنما نصب كأسه قمر ... يكرع في بعض أنجم الفلك
فنفر نفرة منكرة، فقلت: مالك فقد أفزعتني؟!! فقال: هذا معنى مليح وأنا أحق به، وسترى لمن يروى، ثم أنشدني بعد أيام:
إذا عب فيها شارب القوم خلته ... يقبل في داج من الليل كوكبا
فقلت: هذه مصالته يا أبا علي، فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة؟!! وأنت ترى سيرورة بيت أبي نواس كيف نسي معها بيت الخليع، على أن له فضل السبق، وفيه زيادة ذكر القمر، وقد أربى ابن الرومي عليهما جميعاً بقوله:
أبصرته والكأس بين فم ... منه وبين أنامل خمس
وكأنها وكأن شاربها ... قمر يقبل عارض الشمس
ولكن بيت أبي نواس أملأ للفم والسمع، وأعظم هيبة في النفس والصدر ولذلك كان أسير.
وفي زماننا هذا قوم يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون.
وليس في العرب قبيلة إلا وقد نيل منها، وهجيت، وعيرت؛ فحط الشعر بعضاً منهم بموافقة الحقيقة، ومضى صفحاً عن الآخرين لما لم يوافق الحقيقة، ولا صادف موضع الرمية.
فمن الذي لم يحك فيهم هجاء إلا قليلاً على كثرة ما قيل فيهم: تميم بن مرة، وبكر بن وائل، وأسد بن خزيمة، ونظراؤهم من قبائل اليمن.
ومن الذين شقوا بالهجاء، ومزقوا كل ممزق على تقدمهم في الشجاعة والفضل أحياء من قيس: نحو غنى وباهلة ابني أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان، واسم غنى عمرة، وكانوا موالي عامر ابن صعصعة: يحملون عنهم الديات والنوائب، ونحو محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان، وجسر بن محارب حالفوا بني عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة على لوم الحلف، ومن ولد طابخة بن إلياس بن مضر: تيم وعكل ابنا عبد مناة بن أد، صادف الشعر سباء كان وقع عليهم في الجاهلية، فاستهانت العرب بهم، وانطبع الهجاء فيهم، وعدى بن عبد مناة، كانوا قطيناً لحاجب بن زرارة، وأراد أن يستملكهم ملك رق بسجل من قبل المنذر، والحبطات، وهم ولد الحارث بن عمرو بن تيم، وسمى الحارث الحبط لعظم بطنه، شبهوه بالجمل الحبط، وهو الذي انتفخ بطنه مما رعى الخلا؛ فأما سلول فقد قال فيهم أبو زياد الكلابي: كرام من كرام من صعصعة، لم يحالفوا، ولم يدخلوا في صغار، وإنما كلمة عامر بن الطفيل التي حدثت هي التي شأمتهم يريد قوله: " أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية " قلت: أما عامر فقد قال هذه الكلمة حين دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فما يصنع بقول السموأل ابن عادياء:
ونحن أناس لا نرى القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
والسموأل في زمان امرئ القيس، وبين امرئ القيس ومبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة وأربع وخمسون سنة.
قال الجاحظ: لم تمدح قبيلة قط في الجاهلية من قريش كما مدحت مخزوم قال: وكان عبد العزيز بن مروان أحظى في الشعر من كثير من خلفائهم، قال: ولم يكن من أصحابنا وخلفائنا أحظى في الشعر من الرشيد، وقد كان يزيد بن مزيد وعمه معن بن زائدة ممن أحظاه الشعر، ولا أعلم في الأرض نعمة بعد ولاية الله تعالى أعظم من أن يكون الرجل ممدوحاً.
قلت أنا: أما هذه النعمة فقد أحلها الله مضاعفة عند السيد أبي الحسن، وقرنها منه بالاستحقاق، فقرت مقرها، ونزلت منزلها المختار لها، وأحيا الله لبني شيبان حمداً لم يشبه ذم، وجوداً لم يعقبه فدم، مما زاد على يزيد، ولم يدع لمعن معنى في الجود.
وقال غيره: كان عمر بن العلاء ممدحاً، وفيه يقول بشار بن برد:
قل للخليفة إن جئته ... نصيحاً ولا خير في المتهم
إذا أيقظتك حروب العدا ... فنبه لها عمراً ثم نم
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يشرب الماء إلا بدم
دعاني إلى عمر جوده ... وقول العشيرة بحر خضم
ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شم
وله يقول أبو العتاهية:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... قطعت إليك سباسباً ورمالا
وقد مرت هذه الأبيات فيما مضى من هذا الكتاب.
قال أبو عبيدة: لم يمدح أحد قط بني كليب غير الحطيئة بقوله:
لعمرك ما المجاور في كليب ... بمقصي الجوار ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع
وكانت قيس تفتخر على تميم؛ لأن شعراءهم تضرب المثل بقبائل قيس ورجالها فأقامت تميم دهراً لا ترفع رءوسها حتى قال لبيد:
أبني كليب كيف تنفي جعفر ... وبنو ضبينة حاضرو الأجباب
قتلوا ابن عروة ثم لطوا دونه ... حتى يحاكمهم إلى جواب
يرعون منخرق اللديد كأنهم ... في العز أسرة حاجب وشهاب
متظاهري حلق الحديد عليهم ... كبني زرارة أو بني عتاب
قوم لهم عرفت معد فضلها ... والفضل يعرفه ذوو الألباب
وقال زبان بن منصور الفزاري:
فجاءوا بجمع محزئل كأنهم ... بنو دارم إذ كان في الناس دارم
فتكلمت تميم وافتخرت؛ لمكان هذين الشاعرين العظيمي القدر في قيس، فدل هذا على أن قيساً أحظى بالمدح من تميم.
والأوابد من الشعر الأبيات السائرة كالأمثال، وأكثر ما تستعمل الأوابد في الهجاء، يقال: رماها بآبدة، فتكون الآبدة هنا الداهية، قال الجاحظ: الأوابد الدواهي، ومنه أوابد الشعر، حكاه عن أبي زيد، وحكى: الأوابد الإبل التي تتوحش فلا يقدر عليها إلا بالعفر، والأوابد الطير التي تقيم صيفاً وشتاء، والأوابد الوحش؛ فإذا حملت أبيات الشعر على ما قال الجاحظ كانت المعاني السائرة كالإبل الشاردة المتوحشة، وإن شئت المقيمة على من قيلت فيه لا تفارقه كإقامة الطير التي ليست بقواطع، وإن شئت قلت: إنها في بعدها من الشعراء وامتناعها عليهم كالوحش في نفارها من الناس.
وأما المجدودون في التكسب بالشعر والحظوة عند الملوك فمنهم: سلم الخاسر مات عن مائة ألف دينار، ولم يترك وارثاً، وأبو العتاهية صنع:
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذل الحرص أعناق الرجال
وكان صديقه جداً، فقال سلم: ويلي من ابن الفاعلة، جمع القناطير من الذهب ونسبني إلى ما ترون من الحرص، ولم يرد ذلك أبو العتاهية، لكن دعاه يعجبه كما يفعل الصديق مع صديقه، ومروان بن أبي حفصة: أعطى مائة ألف دينار غير مرات، وكان لا يقابل إلا بالكثير، وهو لعمري من ذوي البيوتات، والمعوقين في التكسب بالشعر، وكان أبو نواس محظوظاً لا يدري ما وصل إليه، لكنه كان متلافاً سمحاً، وكان يتساجل في الإنفاق هو وعباس بن الأحنف وصريع الغواني، وكان البحتري ملياً قد فاض كسبه من الشعر، وكان يركب في موكب من عبيده، وأبو تمام فما وفى حقه مع كثرة ما صار إليه من الأموال؛ لأنه تبذل، وجاب الأرض، وكذلك أبو الطيب.








مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید