المنشورات
السرقات وما شاكلها
وهذا باب متسع جداً، لا يقدر أحد من الشعراء أن يدعى السلامة منه، وفيه أشياء غامضة، إلا عن البصير الحاذق بالصناعة، وأخر فاضحة لا تخفى على الجاهل المغفل، وقد أتى الحاتمي في حلية المحاضرة بألقاب محدثة تدبرتها ليس لها محصول إذا حققت: كالاصطراف، والاجتلاب، والانتحال، والاهتدام، والإغارة، والمرافدة، والاستلحاق، وكلها قريب، وقد استعمل بعضها في مكان بعض، غير أني ذاكرها على ماخيلت فيما بعد.
وقال الجرجاني وهو أصح مذهباً، وأكثر تحقيقاً من كثير ممن نظر في هذا الشأن: ولست تعد من جهابذة الكلام، ولا من نقاد الشعر، حتى تميز بين أصنافه وأقسامه، وتحيط علماً برتبه ومنازله، فتفصل بين السرق والغصب وبين الإغارة والاختلاس، وتعرف الإلمام من الملاحظة، وتفرق بين المشترك الذي لا يجوز ادعاء السرقة فيه والمبتذل الذي ليس واحد أحق به من الآخر، وبين المختص الذي حازه المبتدي فملكه واجتباه السابق فاقتطعه.
قال عبد الكريم: قالوا:
السرق في الشعر ما نقل معناه دون لفظه، وأبعد في أخذه، على أن من الناس من بعد ذهنه إلا عن مثل بيت امرئ القيس وطرفة حين لم يختلفا إلا في القافية؛ فقال أحدهما وتحمل، وقال الآخر وتجلد ومنهم من يحتاج إلى دليل من اللفظ مع المعنى، ويكون الغامض عندهم بمنزلة الظاهر، وهم قليل.
والسرق أيضاً إنما هو في البديع المخترع الذي يختص به الشاعر، لا في المعاني المشتركة التي هي جارية في عاداتهم ومستعملة في أمثالهم ومحاوراتهم، مما ترتفع الظنة فيه عن الذي يورده أن يقال إنه أخذه من غيره.
قال: واتكال الشاعر على السرقة بلادة وعجز، وتركه كل معنى سبق إليه جهل، ولكن المختار له عندي أوسط الحالات.
وقال بعض الحذاق من المتأخرين: من أخذ معنى بلفظه كما هو كان سارقاً، فإن غير بعض اللفظ كان سالخا، فإن غير بعض المعنى ليخفيه أو قلبه عن وجهه كان ذلك دليل حذقه.
وأما ابن وكيع فقد قدم في صدر كتابه على أبي الطيب مقدمة لا يصح لأحد معها شعر إلا الصدر الأول إن سلم ذلك لهم، وسماه كتاب المنصف مثل ما سمي اللديغ سليما، وما أبعد الإنصاف منه.
والاصطراف: أن يعجب الشاعر ببيت من الشعر فيصرفه إلى نفسه، فإن صرفه إليه على جهة المثل فهو اختلاب واستلحاق، وإن ادعاه جملة فهو انتحال، ولا يقال منتحل إلا لمن ادعى شعراً لغيره وهو يقول الشعر، وأما إن كان لا يقول الشعر فهو مدع غير منتحل، وإن كان الشعر لشاعر أخذ منه غلبة فتلك الإغارة والغصب، وبينهما فرق أذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن أخذه هبة فتلك المرافدة، ويقال: الاسترفاد، فإن كانت السرقة فيما دون البيت فذلك هو الاهتدام، ويسمى أيضاً النسخ، فإن تساوى المعنيان دون اللفظ وخفي الأخذ فذلك النظر والملاحظة، وكذلك إن تضادا ودل أحدهما على الآخر، ومنهم من يجعل هذا الإلمام، فإن حول المعنى من نسيب إلى مديح فذلك الاختلاس، ويسمى أيضاً نقل المعنى، فإن أخذ بنية الكلام فقط فتلك الموازنة، فإن جعل مكان كل لفظة ضدها فذلك هو العكس، فان صح أن الشاعر لم يسمع بقول الآخر وكانا في عصر واحد فتلك المواردة، وإن ألف البيت من أبيات قد ركب بعضها من بعض فذلك هو الالتقاط والتلفيق، وبعضهم يسميه الاجتذاب والتركيب، ومن هذا الباب كشف المعنى والمحدود من الشعر، وسوء الاتباع، وتقصير الآخذ عن المأخوذ منه، وسأورد عليك مما رويته أو تأدى إلى فهمه لكل واحد من هذه الألقاب مثالا يعرفه العالم، ويقتدي به المتعلم، إن شاء الله تعالى.
أما الاصطراف فيقع من الشعر على نوعين: أحدهما: الاجتلاب، وهو الاستلحاق أيضاً كما قدمت، والآخر: الانتحال؛ فأما الاجتلاب فنحو قول النابغة الذبياني:
وصهباء لا تخفي القذى وهو دونها ... تصفق في راووقها حين تقطب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
فاستلحق البيت الخير فقال:
وإجانة ريا السرور كأنها ... إذا غمست فيها الزجاجة كوكب
تمززتها والديك يدعو صباحه ... إذا ما بنو نعش دنوا فتصوبوا
وربما اجتلب الشاعر البيتين على الشريطة التي قدمت؛ فلا يكون في ذلك باس، كما قال عمرو ذو الطوق:
صددت الكأس عنا أم عمرو ... وكان الكأس مجراه اليمينا
وما شر الثلاثة أم عمرو ... بصاحبك الذي لا تصبحينا
فاستلحقهما عمرو بن كلثوم؛ فهما في قصيدته، وكان عمرو بن العلاء وغيره لا يرون ذلك عيباً، وقد يصنع المحدثون مثل هذا.
قال زياد الأعجم:
أشم إذا ما جئت للعرف طالباً ... حباك بما تحوي عليه أنامله
ولو لم يكن في كفه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ويروى هذا لأخت يزيد بن الطثرية، فاستلحق البيت الأخير أبو تمام فهو في شعره.
وأما قول جرير للفرزدق وكان يرميه بانتحال شعر أخيه الأخطل بن غالب:
ستعلم من يكون أبوه قيناً ... ومن كانت قصائده اجتلاباً
فإنما وضع الاجتلاب موضع السرق والانتحال لضرورة القافية، هكذا ذكر العلماء من هؤلاء المحدثين، وأما الجمحي فقال: من السرقات ما يأتي على سبيل المثل ليس اجتلاباً، مثل قول أبي الصلت بن أبي ربيعة الثقفي:
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيباً بماء فعاد بعد أبوالا.
ثم قاله بعينه النابغة الجعدي لما أتى موضعه، فبنو عامر ترويه للجعدى، والرواة مجمعون أنه لأبي الصلط؛ فقد ذهب الجمحي في الإجتلاب مذهب جرير أنه انتحال ولم أر محدثاً غيره يقول هذا القول.
والانتحال عندهم قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلا بعينك لا يزال معينا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ... ماذا لقيت من الهوى ولقينا؟
فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعلوط السعدي انتحلهما جرير، وانتحل أيضاً قول طفيل الغنوي:
ولما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله
ولذلك قال الفرزدق:
إن تذكروا كرمي بلؤم أبيكم ... وأوابدي تتنحلوا الأشعارا
وكان يتقارضان الهجاء، ويعكس كل واحد منهما المعنى على صاحبه وليس ذلك عيباً في المناقضات، ولما قال الفرزدق في بني ربيع:
تمنت ربيع أن يجيء صغارها ... بخير، وقد أعيا ربيعاً كبارها
أخذه البعيث بعينه في بني كليب رهط جرير فقال الفرزدق:
إذا ما قلت قافية شروداً ... تنحلها ابن حمراء العجان
يعني البعيث؛ وكان ابن سرية.
وأما قول البحتري:
رمتني غواة الشعر من بين مفحم ... ومنتحل ما لم يقله ومدعى
فيشهد لك ما قدمت ذكره؛ لأنه قسمهم ثلاثة أقسام: مفحم قد عجز عن الكلام فصلا عن التحلي بالشعر غير أنه يتبع الشعراء؛ والآخر منتحل لأجود من شعره، والثالث مدع جملة لا يحسن شيئاً.
والإغارة: أن يصنع الشعر بيتاً ويخترع معنى مليحاً فيتناوله من هو أعظم منه ذكراً وأبعد صوتاً، فيروى له دون قائله، كما فعل الفرزدق بجميل وقد سمعه ينشد:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
فقال: متى كان الملك في بني عذرة؟ إنما هو في مضر وأنا شاعرها، فغلب الفرزدق على البيت، ولم يتركه جميل ولا أسقطه من شعره.
وقد زعم بعض الرواة أنه قد قال له: تجاف لي عنه، فتجافى جميل عنه، والأول أصح؛ فما كان هكذا فهو إغارة، وقوم يرون أن الإغارة أخذ اللفظ بأسره والمعنى بأسره، والسرق أخذ بعض اللفظ أو بعض المعنى، كان ذلك لمعاصر أو قديم.
وأما الغصب فمثل صنيعه بالشردل اليربوعي، وقد أنشد في محفل:
فما بين من لم يعط سمعاً وطاعةً ... وبين تميم غير حز الحلاقم
فقال الفرزدق: والله لتدعنه أو لتدعن عرضك، فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.
وقال ذو الرمة بحضرته: لقد قلت أبياتاً، إن لها لعروضاً وإن لها لمراداً ومعنى بعيداً، قال: وما قلت؟ فقال: قلت:
أحين أعادت بي تميم نسائها ... وجردت تجريد اليماني من الغمد
ومدت بضبعي الرباب ومالك ... وعمرو وسالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوع زهاء كأنه ... دجى الليل محمود النكاية والرفد
فقال له الفرزدق: إياك وإياها لا تعودن إليها، وأنا أحق بها منك، قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبداً إلا لك وسمعت بعض المشايخ يقول: الاصطراف في شعر الأموات كالإغارة على شعر الأحياء، إنما هو أن يرى الشاعر نفسه أولى بذلك الكلام من قائله.
وأما المرافدة فأن يعين الشاعر صاحبه بالأبيات يهبها له، كما قال جرير لذي الرمة: أنشدني ما قلت لهشام المرئي، فأنشده قصيدته:
نبت عيناك عن طلل بحزوى ... محته الريح وامتنح القطارا
فقال: ألا أعينك؟ قال: بلى بأبي وأمي، قال: قل له:
يعد الناسبون إلى تميم ... بيوت المجد أربعة كبارا
يعدون الرباب وآل سعد ... وعمراً ثم حنظلة الخيارا
ويهلك بينها المرئي لغواً ... كما ألغيت في الدية الحوارا
فلقيه الفرزدق، فلما بلغ هذه قال: جيد، أعده، فأعاده، فقال: كلا والله، لقد علكهن من هو أشد لحيين منك، هذا شعر ابن المراغة.
واسترفد هشام المرئي جريراً على ذي الرمة فقال في أبيات:
يماشي عدياً لؤمها ما تجنه ... من الناس ما ماشت عدياً ظلالها
فقل لعدي تستعن بنسائها ... علي فقد أعيا عدياً رجالها
أذا الرم، قد قلدت قومك رمة ... بطيئاً بأيدي العاقلين انحلالها
ويروي بأيدي المطلقين فقال ذو الرمة لما سمعها: يا ويلتنا، هذا والله شعر حنظلي، وغلب هشام على ذي الرمة بعد أن كان ذو الرمة مستعلياً عليه.
وقد استرفد نابغة بني ذبيان زهيراً فأمر ابنه كعباً فرفده.
والشاعر يستوهب البيت والبيتين والثلاثة وأكثر من ذلك، إذا كانت شبيهة بطريقته، ولا يعد ذلك عيباً؛ لأنه يقدر على عمل مثلها، ولا يجوز ذلك إلا للحاذق المبرز.
والاهتدام نحو قول النجاشي:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة ... ورجل رمت فيها يد الحدثان
فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ، فقال: ورجل رمى فيها الزمان فشلت وأما النظر والملاحظة فمثل قول مهلهل:
أنبضوا معجس القسي وأبرق ... نا كما توعد الفحول الفحولا
نظر إليه زهير بقوله:
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
وأبو ذؤيب بقوله:
ضروب لهامات الرجال بسيفه ... إذا حن نبع بينهم وشريح
والإلمام: ضرب من النظر، وهو مثل قول أبي الشيص: أجد الملامة في هواك لذيذة وقول أبي الطيب: أأحبه وأحب فيه ملامة البيت، وقد تقدم ذكرهما في التغاير.
وأما الاختلاس فهو قول أبي نواس:
ملك تصور في القلوب مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
اختلسه من قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل سبيل
وقول عبد الله بن مصعب:
كأنك كنت محتكماً عليهم ... تخير في الأبوة ما تشاء
ويروى كأنك جئت محتكماً عليهم اختلسه من قول أبي نواس:
خليت والحسن تأخذه ... تنتقي منه وتنتخب
فاكتست منه طرائفه ... ثم زادت فضل ما تهب
أردت البيت الأول.
ومن هذا النوع قول امرئ القيس:
إذا ما ركبنا قال ولدان حينا ... تعالوا إلى أن يأتنا الصيد نحطب
نقله ابن مقبل إلى القدح فقال:
إذا امتحنته من معد عصابة ... عدارية قبل الإفاضة يقدح
نقله ابن المعتز إلى البازي فقال:
قد وثق القوم له بما طلب ... فهو إذا عرى لصيد واضطرب
عروا سكلكينهم من القرب
نقلته أنا إلى قوس البندق فقلت:
طير أبابيل جاءتنا فما برحت ... إلا وأقواسنا الطير الأبابيل
ترميهم بحصى طير مسمومة ... كأن معدنها للرمي سجيل
تعدو على ثقة منا بأطيبها ... فالنار تقدح والطنجير مغسول
والموازنة مثل قول كثير:
تقول مرضنا فما عدتنا ... وكيف يعود مريض مريضا
وازن في القسم الآخر قول نابغة بني تغلب:
بخلنا لبخلك قد تعلمين ... وكيف يعيب بخيلاً بخيلا
والعكس قول ابن أبي قيس، ويروى لأبي حفص البصري:
ذهب الزمان برهط حسان الأولى ... كانت مناقبهم حديث الغابر
وبقيت في خلف يحل ضيوفهم ... منهم بمنزلة اللئيم الغادر
سود الوجوه لئيمة أحسابهم ... فطس الأنوف من الطراز الآخر
وقد عاب ابن وكيع هذا النوع بقلة تمييز منه أو غفلة عظيمة.
وأما الموارد فقد ادعاها قوم في بيت امرئ القيس وطرفة، ولا أظن هذا مما يصح؛ لأن طرفة في زمان عمرو بن هند شاب حول العشرين، وكان امرؤ القيس في زمان المنذر الأكبر كهلاً واسمه وشعره أشهر من الشمس؛ فكيف يكون هذا مواردة؟ إلا أنهم ذكروا أن طرفة لم يثبت له البيت، حتى استحلف أنه لم يسمعه قط فحلف، وإذا صح هذا كان مواردة، وإن لم يكونا في عصر، وسئل أبو عمرو بن العلاء: أرأيت الشاعرين يتفقان في المعنى ويتواردان في اللفظ لم يلق واحد منهما صاحبه ولم يسمع شعره؟ قال: تلك عقول رجال توافت على ألسنتها، وسئل أبو الطيب عن مثل ذلك فقال: الشعر جادة، وربما وقع الحافر على موضع الحافر.
وألما الالتقاط والتلفيق فمثل قول يزيد بن الطثرية:
إذا ما رآني مقبلاً غض طرفه ... كأن شعاع الشمس دوني مقابله
فأوله من قول جميل:
إذا ما رأوني طالعاً من ثنية ... يقولون: من هذا؟ وقد عرفوني ووسطه من قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا
وعجزه من قول عنترة الطائي:
إذا أبصرتني أعرضت عني ... كأن الشمس من حولي تدور
فأما كشف المعنى فنحو قول امرئ القيس:
نمشي بأعراف الجياد أكفنا ... إذا نحن قمنا عن شواء مضهب
وقال عبدة بن الطبيب بعده:
ثمة قمنا إلى جرد مسومة ... أعرافهن لأيدينا مناديل
فكشف المعنى وأبرزه.
وأما المجدود من الشعر فنحو قول عنترة العبسي: وكما علمت شمائلي وتكرمي رزق جداً واشتهاراً على قول امرئ القيس:
وشمائلي ما قد علمت، وما ... نبحت كلابك طارقاً مثلي
ومنه أخذ عنترة، والمخترع معروف له فضله، متروك له من درجته، غير أن المتبع إذا تناول معنى فأجاده بأن يختصره إن كان طويلاً، أو يبسطه إن كان كزاً، أو يبينه إن كان غامضاً، أو يختار له حسن الكلام إن كان سفسافاً، أو رشيق الوزن إن كان جافياً فهو أولى به من مبتدعه، وكذلك إن قلبه أو صرفه عن وجه إلى وجه آخر، فأما إن ساوى المبتدع فله فضيلة حسن الاقتداء لا غيرها، فإن قصر كان ذلك دليلاً على سوء طبعه، وسقوط همته، وضعف قدرته.
فمما أجاد فيه المتبع على المبتدع قول الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ... عرابة فاشرقي بدم الوتين
فقال أبو النواس:
أقول لناقتي إذا بلغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للغربان نحلاً ... ولا قلت " اشرقي بدم الوتين "
وكرره فقال:
وإذا المطي بنا بلغن محمداً ... فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الحصى ... فلها علينا حرمة وذمام
ومما يتساوى فيه السارق والمسروق منه قول امرئ القيس فلو أنها نفس البيت، وقول عبدة بن الطبيب فما كان قيس البيت.
وسوء الاتباع أن يعمل الشاعر معنى ردياً ولفظاً ردياً مستهجناً ثم يأتي من بعده فيتبعه فيه على رداءته، نحو قول أبي تمام:
باشرت أسباب الغنى بمدائح ... ضربت بأبواب الملوك طبولا
فقال أبو الطيب:
إذا كان بعض الناس سيفاً لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
فسرق هذه اللفظة لئلا تفوته.
ومما قصر فيه الآخذ عن المأخوذ منه قول أبي دهبل الجمحي في معنى بيت الشماخ:
يا ناق سيري واشرقي ... بدم إذا جئت المغيره
سيثيبني أخرى سوا ... ك، وتلك لي منه يسيره
فأنت ترى أين بلغت همته؟؟ ومما يعد سرقاً وليس بسرق اشتراك اللفظ المتعارف كقول عنترة:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... عليها الأسد تهتصر اهتصارا
وقول عمرو بن معدي كرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقول الخنساء ترثي أخاها صخراً:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... فدارت بين كبشيها رحاها
ومثله:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... ترى فرسانها مثل الأسود
وأمثال هذا كثير.
وكانوا يقضون في السرقات أن الشاعرين إذا ركبا معنى كان أولاهما به أقدمهما موتاً، وأعلاهما سناً، فإن جمعهما عصر واحد كان ملحقاً بأولاهما بالإحسان، وإن كانا في مرتبة واحدة لهما جميعاً، وإنما هذا فيما سوى المختص الذي حازه قائله، واقتطعه صاحبه، ألا ترى أن الأعشى سبق إلى قوله:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا
موروثة مجداً، وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
فأخذ النابغة فقال:
شعب العلا فيات بين فروجهم ... والمحصنات عوازب الأطهار
وبيت النابغة خير من بيت الأعشى باختصاره، وبما فيه من المناسبة بذكر الشعب بين الفروج وذكره النساء بعد ذلك، وأخذه الناس من بعده، فلم يغلبه على معناه أحد، ولا شاركه فيه، بل جعل مقتدياً تابعاً، وإن كان مقدماً عليه في حياته، وسابقاً له بمماته.
وقال أوس بن حجر:
كأن هراً جنيباً عند غرضتها ... والتف ديك برجليها وخنزير
فلم يقربه أحد، وكذلك سائر المعاني المفردة والتشبيهات العقم تجري هذا المجرى.
وأجل السرقات نظم النثر وحل الشعر، وهذه لمحة منه. قال نادب الإسكندر " حركنا الملك بسكونه " فتناوله أبو العتاهية فقال:
قد لعمري حكيت لي غصص المو ... ت وحركتني لها وسكنتا
وقال أرساطاطاليس يندبه: " قد كان هذا الشخص واعظاً بليغاً، وما وعظ بكلامه عظة قط أبلغ من موعظته بسكوته " وقال أبو العتاهية في ذلك:
وكانت في حياتك لي عظات ... فأنت اليوم أوعظ منك حياً
وقال عيسى عليه السلام: تعملون السيئات وترجون أن تجازوا عليها بمثل ما يجازى به أهل الحسنات، أجل لا يجنى الشوك من العنب.
فقال ابن عبد القدوس:
إذا وترت امرأ فاحذر عداوته ... من يزرع الشوك لا يحصد به عنباً
وأخذ الكتاب قولهم " قدمت قبلك " من قول الأقرع بن حابس، ويروى لحاتم:
إذا ما أتى يوم يفرق بيننا ... بموت فكن أنت الذي تتاخر
وقولهم " وأتم نعمته عليك " من قول عدي بن الرقاع العاملي:
صلى الإله على امرئ ودعته ... وأتم نعمته عليه وزادها
فما جرى هذا المجرى لم يكن على سارقه جناح عند الحذاق، وفي أقل ما جئت به منه كفاية.
مصادر و المراجع :
١- العمدة في محاسن الشعر
وآدابه
المؤلف: أبو على
الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)
المحقق: محمد
محيي الدين عبد الحميد
الناشر: دار
الجيل
الطبعة: الخامسة،
1401 هـ - 1981 م
6 أبريل 2024
تعليقات (0)