المنشورات

باب الوصف

الشعر إلا أقله راجع إلى باب الوصف، ولا سبيل إلى حصره واستقصائه، وهو مناسب للتشبيه، مشتمل عليه، وليس به؛ لأنه كثيراً ما يأتي في أضعافه، والفرق بين الوصف والتشبيه أن هذا إخبار عن حقيقة الشيء، وأن ذلك مجاز وتمثيل.
وأحسن الوصف ما نعت به الشيء حتى يكاد يمثله عياناً للسامع، كما قال النابغة الجعدي يصف ذئباً افترس جؤذراً:
فبات يذكيه بغير حديدة ... أخو قنص يمسي ويصبح مفطراً
إذا ما رأى منه كراعا تحركت ... أصاب مكان القلب منه وفرفرا
فأنت ترى كيف قام هذا الوصف بنفسه، ومثل الموصوف في قلب سامعه. قال قدامة: الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات، ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من ضروب المعاني كان أحسنهم وصفا من أتى في شعره أكثر المعاني التي الموصوف بها مركب فيها، ثم بأظهرها فيه، وأولاها به، حتى يحكيه ويمثله للحس بنعته.
وقال بعض المتأخرين: أبلغ الوصف ما قلب السمع بصراً. واصل الوصف الكشف والإظهار، يقال: قد وصف الثوب الجسم، إذا نم عليه ولم يستره، ومنه قول ابن الرومي:
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها ... غلائلها ردت شهادتها الأزر
إلا أن من الشعراء والبلغاء من إذا وصف شيئاً بلغ في وصفه، وطلب الغاية القصوى التي لا يعدوها شيء: إن مدحا فمدحا، وإن ذما فذما.
والناس يتفاضلون في الأوصاف، كما يتفاضلون في سائر الأصناف: فمنهم من يجيد وصف شيء ولا يجيد وصف آخر، ومنهم من يجيد الأوصاف كلها وإن غلبت عليه الإجادة في بعضها: كامرئ القيس قديماً، وأبي نواس في عصره، والبحتري وابن الرومي في وقتهما، وابن المعتز، وكشاجم؛ فإن هؤلاء كانوا متصرفين مجيدين الأوصاف، وليس بالمحدث من الحاجة إلى أوصاف الإبل ونعوتها، والقفار ومياهها، وحمر الوحش، والبقر، والظلمان، والوعول؛ ما بالأعراب وأهل البادية؛ لرغبة الناس في الوقت عن تلك الصفات، وعلمهم أن الشاعر إنما يتكلفها تكلفا ليجري على سنن الشعراء قديما، وقد صنع ابن المعتز وأبو النواس قبله ومن شاكلهما في تلك الطرائق ما هو مشهور في أشعارهم: كرائية الحسن في الخصيب، وجيمية ابن المعتز المردفة في الضرب الثاني من الكامل.
والأولى بنا في هذا الوقت صفات الخمر والقيان وما شاكلهما، وما كان مناسباً لهما كالكؤوس والقناني والأباريق، وتفاح التحيات، وباقات الزهر إلى ما لا بد منه من صفات الخدود، والقدود، والنهود، والوجوه، والشعور، والريق، والثغور، والرداف، والخصور، ثم صفات الرياض والبرك والقصور، وما شاكل المولدين؛ فإن ارتفعت البضاعة فصفات الجيوش وما يتصل بها من ذكر الخيل، والسيوف، والرماح، والدروع، والقسي، والنبل، إلى نحو ذلك من ذكر الطبول، والبنود، والمنحرفات، والمنجنيقات، وليس يتسع بنا هذا الموضع لاستقصاء ما في النفس من هذه الأوصاف؛ فحينئذ أدل على مظانها دلالة مجملة، وأذكر مما قل شكله وعز نظيره شواهد وأمثلة يعرف بها المتعلم كيف العمل فيها ومن حيث المسلك إليها، إن شاء الله تعالى.
أما نعات الخيل فامرؤ القيس، وأبو دؤاد، وطفيل الغنوي، والنابغة الجعدي، وأما نعات الإبل فطرفة في معلقته من أفضلهم، وأوس بن حجر، وكعب بن زهير، والشماخ، وأكثر القدماء يجيد وصفها؛ لأنها مراكبهم، ألا ترى رؤبة لما غلط في وصف الفرس كيف قال: أدنني من ذنب البعير، وكان عبيد بن حصين الراعي النميري أوصف الناس للابل، ولذلك سمي راعياً، وأما الحمر الوحشية والقسي فأوصف الناس لها الشماخ، شهد له بذلك الحطيئة والفرزدق، وهذان يجيدان صفات الخيل والقسي أيضاً والنبل، وأما الخمر فمن أوصاف الأعشى والأخطل وأبي نواس وابن المعتز، ولأبي نواس أيضاً وابن المعتز الصيد والطرد، فما شئت من هذه الأوصاف فالتمسها حيث ذكرت، ومن الأوصاف القليلة المثل قول رؤبة يصف الفيل:
أجرد الخصر طويل النابين ... مشرب اللحى صغير الفقمين
عليه أذنان كفضل الثوبين
وقال آخر يصفه، أنشده عبد الكريم:
من يركب الفيل فهذا الفيل ... إن الذي يحمله محمول
على تهاويل لها تهويل ... كالطود إلا أنه يجول
وأذن كأنها منديل
هكذا أنشده، وبين البيتين الأخيرين أبيات كثيرة أسقطتها، وقد أنشدها غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي.
وقال عبد الكريم فجمع ما فرقاه وزاد عليهما:
وأضخم هندي النجار تعده ... ملوك بني ساسان إن رابها أمر
من الورق لا من ضربه الورق ترتعي ... أضاخ ولا من ضربه الخمس والعشر
يجئ كطود جائل فوق أربع ... مضبرة لمت كما لمت الصخر
له فخذان كالكثيبين لبدا ... وصدر كما أوغى من الهضبة الصدر
ووجه به أنف كراووق خمرة ... ينال به ما تدرك الأنمل العشر
وأذن كنصف البرد يسمعه الندا ... خفياً وطرف ينقض الغيب مزور
ونابان شقا لا يريك سواهما ... قناتين سمراوين طعنهما نثر
له لون ما بين الصباح وليله ... إذا نطق العصفور أو غلس الصقر
وصنعت أنا في زرافة أتت في الهدية من مصر إلى مولانا خلد الله ملكه من قصيدة طويلة:
أتتك من كسب الملوك زرافة ... شتى الصفات لكونها أثناء
جمعت محاسن ما حكت فتناسبت ... في خلقها وتنافت الأعضاء
تحتثها بين الخوافق مشية ... باد عليها الكبر والخيلاء
وتمد جيداً في الهواء يزينها ... فكأنه تحت اللواء لواء
حطت مآخرها وأشرف صدرها ... حتى كأن وقوفها إقعاء
وكأن فهر الطيب ما رجمت به ... وجه الثرى لو لمت الأجزاء
وتخيرت دون الملابس حلة ... عيت لصنعة مثلها صنعاء
لوناً كلون الزبل إلا أنه ... حلي وجزع بعضه الجلاء
أو كالسحاب المكفهرة خيطت ... فيه البروق، وميضها إيماء
أو مثل ما صدئت صفائح جوشن ... وجرى على حافاتهن جلاء
نعم التجافيف التي ادرعت به ... من جلدها لو كان فيه وقاء
وصنعت أيضاً:
ومجنونة أبداً لم تكن ... مذللة الظهر للراكب
قد اتصل الجيد من ظهرها ... بمثل السنام بلا غارب
ملمعة مثل ما لمعت ... بجناء وشي يد الكاعب
كأن الجواري كنفنها ... لخالخ من كل جانب؟
وقال كشاجم يصف اصطرلاباً:
ومستدير كجرم البدر مسطوح ... عن كل رابعة الأشكال مصفوح
صلب يدار على قطب يلينه ... تمثال طرف بشكم الحذق مشبوح
مثل البنان وقد أوفت صفائحه ... على الأقاليم في أقطارها الفيح
كأنما السبعة الأفلاك محدقة ... بالماء والنار والأرضين والريح
تنبيك عن طالع الأبراج هيئته ... بالشمس طوراً وطوراً بالمصابيح
وإن مضت ساعة أو بعض ثانية ... عرفت ذاك بعلم منه مشروح
وإن تعرض في وقت يقدره ... لك التشكك جلاه بتصحيح
مميز في قياسات النجوم لنا ... بين المشائيم منها والمناجيح
له على الظهر عيناً حكمة بهما ... يحوي الضياء ويجنيه من اللوح
وفي الدوائر من أشكاله حكم ... تلقح الفهم منا أي تلقيح
لا يستقل لما فيها بمعرفة ... إلا الحصيف اللطيف الحس والروح
حتى ترى الغيب عنه وهو منغلق ال ... أبواب عمن سواه جد مفتوح
نتيجة الدهر والتفكير صوره ... ذوو العقول الصحيحات المراجيح
وقال أيضاً يصف تحت حساب الهندسة:
وقلم مداده تراب ... في صحف سطورها حساب
يكثر فيه المحو الإضطراب ... من غير أن يسود الكتاب
حتى يبين الحق والصواب ... وليس إعجام ولا إعراب
فيه ولا شك ولا ارتياب
وقال يستهدي بركارا:
جد لي ببركارك الذي صنعت ... فيه يدا قينة أعاجيبا
ملأم الشفرتين معتدل ... ماشين من جانب ولا عيبا
شخصان في شكل واحد قدرا ... وركبا في العقول تركيبا
وأشبه شيئين في اشتباههما ... بصاحب لا يمل مصحوبا
أوثق مسماره وغيب عن ... نواظر الناقدين تغييبا
فعين من يجتليه تحسبه ... في قالب الاعتدال مصبوبا
وضم شطريه محكم لهما ... ضم محب إليه محبوبا
يزداد حرصاً عليه مبصره ... ما زاده بالبنان تقليبا
فقوله كلما تأمله ... طوبى لمن كان ذاله طوبى
ذو مقلة بصرته مذهبة ... لم تأله زينة وتذهيبا
ينظر منه إلى الصواب به ... فلا يزال الصواب مطلوبا
لولاه ما صح شكل دائرة ... ولا وجدنا الحساب محسوبا
الحق فيه فإن عدلت إلى ... سواه كان الحساب تقريبا
لو عين إقليدس به بصرت ... خر له بالسجود مكبوبا
فابعثه واجنبه لي بمسطرة ... تلق الهوى بالثناء محبوبا
لا زلت تجدي وتجتدي حكماً ... مستوهباً للصديق موهوبا
وقال في صفة البنكام:
روح من الماء في جسم من الصفر ... مؤتلف بلطيف الحس والنظر
مستعبر لم يغب عن إلفه سكن ... ولم يبت قط من طعن على حذر
له على الظهر أجفان محجرة ... ومقلة دمعها يجري على قدر
تنشأ له حركات في أسافله ... كأنها حركات الماء في الشجر
وفي أعاليه حسبان يفصله ... للناظرين بلا ذهن ولا فكر
إذا بكى دار في أحشائه فلك ... خافي المسير وإن لم يبك لم يدر
مترجم عن مواقيت تخبرنا ... عنها فيوجد فيها صادق الخبر
تقضى به الخمس في وقت الوجوب، وإن ... غطى على الشمس ستر الغيم والمطر
وإن سهرت لأسباب تؤرقني ... عرفت مقدار ما ألقى من السهر
محرر كل ميقات تخيره ... ذوو التخير للأسفار والحضر
ومخرج لك بالإجراء ألطفها ... من النهار وقوس الليل والسحر
نتيجة العلم والأفكار صوره ... يا حبذا بدع الأفكار في الصور
وقال يصف زرمانج آبنوس:
نعم المعين على الآداب والحكم ... صحائف حلك الألوان كالظلم
لا تستمد مدادها غير صبغتها ... فسر ذي اللب منها غير مكتتم
خفت وجفت فلم تدنس لحاملها ... ثوباً ولم يخش منها نبوة القلم
وأمكن المحو فيها الكف فاتسعت ... لما تضمن من نثر ومنتظم
حليتها بلجين وانتخبت لها ... وقاية من ذكي العود لا الأدم
فالكم يعبق منها حين تودعه ... عرفاً تنسم منها أطيب النسم
لو كن ألواح موسى حين يغضبه ... هارون لم يلقها خوفاً من الندم
وله من قصيدة ذكر فيها طاووساً مات له:
رزئته روضةً يروق، ولم ... نسمع بروض يمشي على قدم
جثل الذنابى كأن سندسة ... زرت عليه موشية العلم
متوجاً خلقة حباه بها ... ذو الفطر المعجزات والحكم
كأنه يزدجرد منتصباً ... يبني فيعلى مآثر العجم
يطبق أجفانه ويحسر عن ... فصين يستصبحان في الظلم
أدل بالحسن فاستذال له ... ذيلاً من الكبر غير محتشم
ثم مشى مشية العروس؛ فمن ... مستظرف معجب ومبتسم
فهذا طرف مما شرطته كاف، يرى به المتعلم نهج هذه الطريقة، إن شاء الله تعالى.









مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید