المنشورات

الإنشاد وما ناسبه

ليس بين العرب اختلاف إذا أرادوا الترنم ومد الصوت في الغناء والحداء في إتباع القافية المطلقة، مثلها من حروف المد واللين في حال الرفع والنصب والخفض، كانت مما ينون أو مما لا ينون، فإذا لم يقصدوا ذلك اختلفوا: فمنهم من يصنع كما يصنع في حال الغناء والترنم؛ ليفصل بين الشعر والكلام المنثور، وهم أهل الحجاز، ومنهم من ينون ما ينون وما لا ينون: إذا وصل الإنشاد أتى بنون خفيفة مكان الوصل فجعل ذلك فصلاً بين كل بيتين فينشد قول النابغة: يا دار مية بالعلياء فالسند منوناً إلى آخر القصيدة، لا يبالي بما فيه ألف ولام، ولا مضاف، ولا بفعل ماض، ولا مستقبل، وهم ناس كثير من بني تميم.
ومنهم من يجري القافي مجراها ولو لم تكن قوافي فيقف على المرفوع والمكسور موقوفين ويعوض المنصوب ألفا على كل حال، وهم ناس كثير من قيس وأسد، فينشدون:
لا يبعد الله جيراناً لنا ظعنوا ... لم أدر بعد غداة البين ما صنع
يريد " ما صنعوا ". وكذلك ينشدون:
ففاضت دموع العين مني صبابة ... على النحر حتى بل دمعي محمل
فإذا وصلوا جعلوه كالكلام وتركوا المدة لعلهم أنها في أصل البناء.
قال سيبويه: سمعناهم ينشدون: أقلي اللوم عاذل والعتاب إذا كان منوناً أثبتوا تنوينه ووصلوه كما يفعلون بالكلام المنثور.
ومن العرب من في لغته أن يقف على إشباع الحركة: فتجر الضمة واواً، والكسرة ياء، والفتحة ألفا، فينشد هذا كله موصولاً من غير قصد غناء ولا ترنم.
ومنهم من في لغته أن لا يعوض شيئاً من النصب فهو ينشد هذا كله موقوفاً من غير اعتقاد تقييد، وإذا كان الشعر مقيداً كان تنويه بإزاء إطلاقه، فهو غير جائز؛ لأن الشعر المقيد يكسر بتنوينه كما يكسر بإطلاقه، ما خلا الأوزان التي قدمنا القول أنها من بين ضروب الشعر يجوز إطلاقها وتقييدها.
ويحكى عن رؤبة أنه أنشد قصيدته القافية المقيدة منونة، فرد ذلك الزجاجي وأنكره، وذكر أنه وهم من السامع، وأن الوجه فيه أن من العرب من يزيد بعد كل قافية " إن " الخفيفة المكسورة إعلاماً بانقضاء البيت، فينشد:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق ان ... مشتبه الأعلام لماع الخفق ان
يكل وفد الريح من حيث انخرق ان وإذا كان ما قبل حرف الروي ساكناً وكانت لغة منشده الوقوف على المضموم والمكسور بنقل الحركة كما أنشد أعرابي من بني سنبس قول ذي الرمة: ولا زال منهلاً يجرعائك القطر بضم الطاء وإسكان الراء لما وقف حكى ذلك عبد الكريم، وعلى هذا قال الآخر: أنا ابن ماوية إذ جد النفر أراد " النفر " بالخيل.
وأنشد أبو العباس ثعلب:
أرتني حجلاً على ساقها ... فهش الفؤاد لذاك الحجل
فقلت ولم أخف من صاحبي: ... ألا بأبي أصل تلك الرجل
وقال: نقل لاضطرار القافية.
ومما يدخل في شفاعة هذا الباب: الغناء، والحداء، والتغبير، قال الشاعر:
تغن بالشعر إما كنت قائله ... إن الغناء لهذا الشعر مضمار
ويقولون: فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه شعراً.
قال ذو الرمة:
أحب المكان القفر من أجلي أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم
وكذلك يقولون: حدا به، إذا عمل فيه شعراً.
قال المرار الأسدي:
ولو أني حدوت به أرفأنت ... نعامته وأبصر ما يقول
وغناء العرب قديماً على ثلاثة اوجه: النصب، والسناد، والهزج.
فأما النصب فغناء الركبان والفتيان، قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: وهو الذي يقال له المرائي، وهو الغناء الجنابي، اشتقه رجل من كلب يقال له جناب بن عبد الله بن هبل، فنسب إليه، ومنه كان أصل الحداء كله، وكله يخرج من أصل الطويل في العروض.
وأما السناد فالثقيل ذو الترجيع، الكثير النغمات والنبرات، وهو على ست طرائق: الثقيل الأول، وخفيفه، والثقيل الثاني، وخفيفه، والرمل، وخفيفه.
وأما الهزج فالخفيف الذي يرقص عليه، ويمشي بالدف والمزمار فيطرب، ويستخف الحليم، قال إسحاق: هذا كان غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتحت العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير.
قال الجاحظ: العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار الموزونة، والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع موزوناً على غير موزون.
ويقال: إن أول من أخذ في ترجيعه الحداء مضر بن نزار؛ فإنه سقط عن جمل فانكسرت يده فحملوه وهو يقول: وايداه، وايداه، وكان أحسن خلق الله جرماً وصوتاً، فأصغت الإبل إليه وجدت في السير، فجعلت العرب مثالاً لقوله هايدا هايدا يحدون به الإبل، حكى ذلك عبد الكريم في كتابه.
وزعم ناس من مضر أن أول من حدا رجل منهم، كان في إبله أيام الربيع، فأمر غلاماً له ببعض أمر، فاستبطأه، فضر به بالعصا، فجعل ينشد في الإبل ويقول: يايداه، يايداه، فقال له: إلزم إلزم، واستفتح الناس الحداء من ذلك الوقت.
وذكر ابن قتيبة أنهم قالوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وحكى الزبير بن بكار في حديث يرفعه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم من بني غفار سمع حاديهم بطريق مكة ليلاً فمال إليهم: إن أباكم مضر خرج إلى بعض رعاته فوجدها قد تفرقت، فأخذ عصا فضرب بها كف غلامه، فعدا الغلام في الوادي وهو يصيح: وايداه، وايداه، فسمعت الإبل ذلك فعطفت، فقال مضر: لو اشتق مثل هذا لانتفعت به الإبل واجتمعت، فاشتق الحداد.
وأما التغبير فهو تهليل أو تردد صوت، بقراءة أو غيرها، حكى ذلك ابن دريد، وحكى أبو إسحاق الزجاجي قال: سألني بعض الرؤساء: لما سمي التغبير تغبيراً؟ قلت: لأنه وضع على أنه يرغب في الغابر أي: الباقي، أي: يرغب في نعيم الجنة وفيما يعمل للآخرة وقال غيره: إنما قيل له تغبير لأنه جعل ما يخرج من الفن بمنزلة الغبار، فعرض الجوابان على أحمد بن يحيى فاستجاد جوابي.
يقال للمراسل في الغناء: المثالي، حكاه غلام ثعلب








مصادر و المراجع :

١- العمدة في محاسن الشعر وآدابه

المؤلف: أبو على الحسن بن رشيق القيرواني الأزدي (المتوفى: 463 هـ)

المحقق: محمد محيي الدين عبد الحميد

الناشر: دار الجيل

الطبعة: الخامسة، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید