المنشورات

تذكرت ما بيت العذيب وبارق ... مجر عوالينا ومجرى السوابق

العذيب, وبارق: موضعان بالعراق, ويتردد ذكرهما في الشعر, قال عمرو بن كلثوم: [الطويل]
ليهنئ تراثي تغلب ابنة وائلٍ ... إذا نزلوا بين العذيب وخفان
وقال: مجر العوالي؛ لأنه اكتفى بها من ذكر الرماح, وإنما تجر سافلة الرمح؛ إلا أن يطعن بالعالية فيجرها المطعون, يقال: أجررته الرمح إذا طعنه, وترك الرمح فيه, ومنه قول الحادرة: [الكامل]
نبني على سنن العدو بيوتنا ... ونجر في الهيجا الرماح وندعي
وقوله:
وصحبة قومٍ يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسروا في المفارق
هذا البيت يستحسن, وهو غير مسبوق إليه؛ يريد أنهم قاتلوا بسيوفهم حتى تحطمت نصالها, ثم ذبحها القنيص بفضلات السيوف, وسكن ضاد فضلاتٍ, وفتحها أحسن, وهي عند الضرورة تسكن, قال الراجز: [الرجز]
عل صروف الدهر أو دولاتها ... تديلنا اللمة من لماتها
فتستريح النفس من زفراتها
(121/ب) وقوله:
وليلًا توسدنا الثوية تحته ... كأن ثراها عنبر في المرافق
الثوية: موضع قريب من الكوفة, وفيه قبر زياد بن أبي سفيان, وقوله: كأن ثراها عنبر في المرافق: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مدحًا للأرض؛ يريد أنها طيبة كأن ثراها عنبر.
والآخر: أن يكون وصف نفسه وأصحابه بأنهم معيون, فهم لإيثارهم النزول والراحة؛ كأن ثرى الأرض عندهم عنبر, وإن كان الأمر على سوى ذلك, وقد تمنت الشعراء مباشرة تراب الأرض التي ينزل بها من يحبون, قال الشاعر: [الوافر]
وددت وأبرق العيشوم أنا ... نكون معًا جميعًا في رداء
أباشره وقد نديت رباه ... فألصق صحةً منه بدائي
وقال آخر: [الطويل]
يقر بعيني أن أرى من مكانه ... ذرى عقدات الأجرع المتقاود
وأن أرد الماء الذي شربت به ... سليمى إذا ما خف من كل وارد
وألصق أحشائي ببرد ترابه ... وإن كان مخلوطًا بسم الأساود
وقوله:
بلاد إذا زار الحسان بغيرها ... حصى تربها ثقبنه للمخانق
في الفرات مواضع يكون فيها حصًى متلون يستحسن, وربما جلبه المسافرون ليتحفوا به ولدانهم؛ فبالغ أبو الطيب في صفته حتى جعل الحسان تتخذه في المخانق.
وقوله:
سقتني بها القطربلي مليحة ... على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق
قطربل: كلمة أعجمية, وليس في كلام العرب لها مشبه, ولا يوجد في الشعر القديم, وإنما ذكرها المحدثون. وقوله: على كاذبٍ من وعدها ضوء صادق, ما وصف الوعد الكاذب قط بأحسن من هذه الصفة.
وقوله:
وأغيد يهوى نفسه كل عاقلٍ ... عفيفٍ ويهوى جسمع كل فاسق
الأغيد: الذي في عنقه طول مع لينٍ وانعطافٍ, ويقال: نبت غاد؛ أي: ناعم منعطف للينه, قال كثير: [الطويل]
وصفراء رعبوبٍ كأن وشاحها ... على ناعمٍ من غاب دجلة غاد
فوزن غادٍ هاهنا فعل أو فعل, كأنه في الأصل غيد أو غيد, وقد وافق لفظ غادٍ من الغدو وليس منه في شيء, قال ذو الرمة: [الرجز]
وفتيةٍ مثل النشاوى غيد ... قد استحلوا قسمة السجود
والمسح بالأيدي على الصعيد
وأصل الفسق: خروج الشيء من مكانه ومحله, ويقال: فسق السيف إذا خرج من الغمد, وفسق الرطب إذا خرج من قشره, وفسق الصبح إذا ظهر من تحت الليل, ومنه اشتقاق الفاسق من بني آدم؛ لأنه يخرج عن الشرع.
وقوله:
أديب إذا ما جس أوتار مزهرٍ ... بلا كل سمعٍ عن سواها بعائق
وصف هذا الأغيد بأنه مغن, والمزهر: العود, ويجوز أن يكون سمي بذلك؛ لأنه كثير النقوش, فكأن نقشه الزهر, ونعته بالأدب؛ لأنه ادعى له العلم بأخبار الناس لما قال:
يحدث عما بين عادٍ وبينه ... وصدغاه في خدي غلامٍ مراهق
أي: هو حديث السن, وعلمه واسع, ومعرفته بسيطة, وتلك من مبالغات الشعراء التي تخرج إلى الكذب.
وقوله:
وما الحسن في وجه الفتى شرفًا له ... إذا لم يكن في فعله والخلائق
هذا بيت قد جمع فيه بين صدقٍ وجودةٍ وسلامة لفظٍ, فقد فضل ما قبله من الأبيات, والبيت الذي بعده, وهو قوله:
وما بلد الإنسان غير الموافق ... ولا أهله الأدنون غير الأصادق
هذا البيت قد ضعف بالتصريع ضعفًا بينًا, وهو كالمنقطع من معنى ما قبله, ولم تجر عادة أبي الطيب بالتصريع في غير الأوائل؛ فأما العرب فمنهم من يصرع في أول القصيدة, ومنهم من يبتدئها على غير تصريعٍ, فمما لم يصرع قول الأفوه: [الرمل]
إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواتي خلة فيها دوار
وديوانه في الرواية اليمانية أربع قصائدة وقطعة, وكلها غير مصرعٍ, ومن ذلك قوله: (122/أ) [السريع]
إما تري رأسي أزرى به ... مأس زمانٍ انتكاسٍ مؤوس
وقوله: [البسيط]
فينا معاشر لم يبنوا لقومهم ... وإن بنى قومهم ما أفسدوا عادوا
وقوله: [الكامل]
أضحت فريعة قد تغير بشرها ... وتجهمت بتحية القوم العدى
وقوله: [الرمل]
أيها الساعي على آثارنا ... نحن من لست بسعاءٍ معه
ومن العرب من صرع في أول القصيدة, وفي غيره, ومنهم امرؤ القيس؛ لأنه قال: [الطويل]
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وقال فيها: [الطويل]
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
وقال: [الطويل]
أفاطم مهلًا بعض هذا التدلل
وقال: [الطويل]
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
وهم يجيئون بذلك إذا خرجوا من وصفٍ إلى وصفٍ, والرواة تنشد قول امرئ القيس: [المتقارب]
لا وأبيك ابنة العامري ... ي لا يدعي القوم أني أفر
فجعله أول القصيدة, وفيها ثلاثة أبيات كلها مصرع, وهي قوله:
تروح من الحي أم تبتكر ... وماذا يضرك لو تنتظر
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
وشاقك بين الخليط الشطر ... وفيمن أقام من الحي هر
وبعض الرواة يروي هذه القصيدة لرجلٍ من النمر بن قاسطٍ, وينشد في أولها: [المتقارب]
أحار بن عمرو كأني خمر ... ويعدو على المرء ما يأتمر
ويقال: إن اسم الرجل ربيعة بن جشم.
وقد ترك أبو زبيدٍ الطائي التصريع في أول القصيدة, فقال: [الخفيف]
لمن العيس لابن أروى على طهـ ... ـر المرورى حداتهن عجال
وصرع في آخر القصيدة, فقال: [الخفيف]
كل شيءٍ تحتال فيه الرجال ... غير أن ليس في المنايا احتيال
والمتقدمون يجعلون التصريع جنسًا واحدًا فيما أصله اعتدال النصفين, وما اختلف نصفاه فبعض المتأخرين يجعل ما أصله اعتدال النصفين إذا رددت فيه القافية مقفى, كقول طرفة: [الطويل]
لخولة أطلال ببرقة ثهمد ... تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقول زهير: [الطويل]
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم ... بحومانة الدراج فالمتثلم
ويجعل ما اختلف نصفاه إذا كررت فيه القافية مصرعًا, كقول امرئ القيس: [الطويل]
ألا انعم صباحًا أيها الطلل البالي ... وهل ينعمن من كان في العصر الخالي
وقوله:
وجائزة دعوى المحبة والهوى ... وإن كان لا يخفى كلام المنافق
المراد أن عادة بني آدم أن يظهروا المودة, وفي النفوس غيرها, إلا أن ذلك جائز؛ لأن العادة جرت به, وادعى أن كلام المنافق ليس بخافٍ؛ وإنما يظهر نفاقه في بعض الأوقات, ورب منافقٍ اتخذه الغر صفيًا, وحسب أن الصديق المخلص.
وقوله:
برأي من انقادت عقيل إلى الردى ... وإشمات مخلوقٍ وإسخاط خالق
لما ذكر كلام المنافق جاز أن يصل به هذا البيت؛ لأنه جعل الذين ذكروا فيه من المنافقين, وذم من أشار عليهم بذلك.
وقوله:
أرادوا عليا بالذي يعجز الورى ... ويوسع قتل الجحفل المتضايق
الجحفل: الجيش العظيم, وقال قوم: إنما قيل له: جحفل لأن فيه خيلًا كثيرةً, والجحفلة من الفرس كالشفة من الإنسان, وقد يجوز هذا الوجه, إلا أنهم قد اتسعوا في هذه اللفظة حتى وصفوا الرجل بالجحفل؛ أي: إنه يقوم مقام الجيش, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
عبيد ذوي المال الكثير يرونه ... وإن كان عبدًا سيد الأمر جحفلا
وقوله:
ولما سقى الغيث الذي كفروا به ... سقى غيره في غير تلك البوارق
يعني بكعبٍ أبا عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. والمعنى: أنه سقاهم غيثًا فأمطرهم به, وكفروا نعمه عندهم, فلما فعلوا ذلك سقاهم غيثًا هو ضد ذلك الأول؛ لأن الغيث الأول محيءٍ, والغيث الآخر مهلك مميت. وبروق الغيث المتقدم كانت البروق الدالة على المطر, وبروق الغيث المتأخر هي السيوف, وما بين الشكلين متباعد.
وقوله:
أتاهم بها حشو العجاجة والقنا ... سنابكها تحشو بطون الحمالق
واحد الحمالق: حملاق وقد حكي بالضم, والكسر أجود. والأحسن فيما ثبتت الألف قبل آخر حرفٍ فيه أو الواو أو الياء أن تجيء الياء في جمعه, فيقال: حملاق وحماليق, وعصفور وعصافير, وقنديل وقناديل, إلا أنهم تهاونوا بهذه الياء؛ لأنها زائدة, ولأنها في اسمٍ طال, فقالوا: مصابح في جمع مصباحٍ. قال الشاعر: [الطويل]
فقد أدخل البيت المحجب تحته ... فتاة كأن الحلي منها المصابح
أراد: المصابيح, وقالوا: مسمار, ومسامر, قال قيس بن الخطيم: [الطويل]
فلا تجعلوا حرباتكم في صدوركم ... كما شد في عرض الرتاج المسامر
وقوله: (122/ب)
عوابس حلى يابس الماء حزمها ... فهن على أوساطها كالمناطق
يعني بيابس الماء: العرق, وعرق الخيل يوصف بالبياض, فأما قول بشر بن أبي خازمٍ: [الوافر]
تراها من يبيس الماء شهبًا ... مخالط درةٍ منها غرار
فإنه عنى بيبيس الماء: الصقيع الذي يقع بالليل. وبيت أبي الطيب في غاية الصنعة؛ لأنه جعل حزم الخيل كالمناطق لها, وجعل العرق محليًا لها, وهو أبيض, فكأن الحزق مناطق حلبت بفضةٍ.
وقوله:
فليت أبا الهيجا يرى خلف تدمرٍ ... طوال العوالي في طوال السمالق
السمالق: جمع سملقٍ, وهي الأرض البعيدة الواسعة. قال الأعشى: [الطويل]
وإن امرأً أسرى إليك ودونه ... من الأرض أعلام وبيداء سملق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
وأبو الهيجاء: هو عبد الله بن حمدان والد سيف الدولة, تمنى له أن يكون حيًا فيرى ما فعل ولده بهذه القبائل وغلبه إياها.
وقوله:
قشير وبلعجلان فيها خفية ... كراءين في ألفاظ ألثغ ناطق
البصريون يخفضون بلعجلان, وكذلك يوجب القياس, إلا أن المراد بنو العجلان, فحذفت النون, كما حذفت نون من في قول الشاعر: [المنسرح]
أبلغ أبا دختنوس مألكةً ... غير الذي قد يقال ملكذب
ويقال: إن أهل الكوفة يجيزون رفع العجلان في مثل هذا الموضع, يجعلونه مع ما قبله كالشيء الواحد, والراءان إذا اجتمعتا في ألفاظ من يلثغ بالراء كانتا خفيتين.
وقوله:
تخليهم النسوان غير فواركٍ ... وهم خلوا النسوان غير طوالق
يقال: امرأة فارك إذا أبغضت زوجها, قال ذو الرمة: [الطويل]
إذا الليل عن نشزٍ تجلى رمينه ... بأمثال أبصار النساء الفوارك
ويقال: فركت المرأة زوجها إذا لم ترضه, وصلف الرجل امرأته إذا لم تحظ عنده, قال الشاعر: [الوافر]
وقد خبرت أنك تفركيني ... وأصلفك الغداة ولا أبالي
وقد جاء الفارك في صفات الرجل شاذًا, قال الراجز: [الرجز]
إن العجوز فارك ضجيعها ... تنهل من غير أسى دموعها
والمعنى أن نساءهم فارقنهم وهن رواغب فيهم. وخلوهن غير طوالق؛ لأنهم لم يزهدوا في صحبتهن, وهذا المعنى متردد في الشعر القديم, قال الشاعر: [الطويل]
وأرملةٍ تسعى بنعلين طلقت ... وأرماحنا آذنها بطلاق
يريد أنهم فرقوا بينها وبين زوجها فكأن أرماحهم حكمت عليها بطلاقٍ.
وقال آخر: [الطويل]
وكلبيةٍ قط طلقتها رماحنا ... تلفت كالصيداء أودى جنينها
وقوله:
أتى الظعن حتى ما يطير رشاشه ... من الخيل إلا في نحور العواتق
يقال: ظعن وظعن, بضم الظاء وفتحها؛ فإذا قيل: ظعن فهو جمع ظعينةٍ, مثل: سفينةٍ وسفنٍ, وإذا قيل للنساء الظاعنات: ظعن, فهو مصدر نعت به, والمعنى: ذوات ظعنٍ, كما يقال: نسوة زور؛ أي ذوات زيارةٍ, قال الراجز: [الرجز]
كأنهن فتيات زور ... أو بقرات بينهن ثور
والهاء في رشاشه عائدة على الظعن, ورشاشه ما تطاير منه, شبه برشاش المطر, وهذا نحو قوله في الأخرى:
ظعائن طال ما سارت هوادجها ... منيعةً بين مطعونٍ ومضروب
وهذا, وإن شابه المعنى الأول, فهو ضد له, لأن الأول ذم, وهذا مدح. والعاتق: جمع عاتقٍ وهي الجارية قد آن أن تزوج, شبهت بالفرخ العاتق الذي قد نبت ريشه, وآن له أن يطير, وقيل: العاتق: التي تقيم في بيت أبيها بعد بلوغها, أخذت من عتق الشيء إذا تقدم, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
علي ألية عتقت قديمًا ... فليس لها وإن سلفت غرام
وقوله:
بكل فلاةٍ تنكر الإنس أرضها ... ظعائن حمر الحلي حمر الأيانق
هذا مثل قوله:
حمر الحلى والمطايا والجلابيب
وأيانق: جمع؛ لأنهم قالوا: ناقة وأنوق, فكان الواجب أن يقولوا: أناوق فمالوا إلى الياء؛ لأنها أخف, وقال قوم: قلبوا أنوقًا فقالوا: أنقٍ؛ لأن الواو وقعت طرفًا وكان الأصل (أنقو) فقلبت إلى الياء, كما قالوا في جمع دلو: أدلٍ, والأصل أدلو, ثم قدموا الياء التي في آخر الكلمة إلى أولها فجعلوها بعد الهمزة؛ فوزن (123/أ) أيانق على هذا القياس: أعافل.
وظعائن: مرفوعة بالابتداء على رأي البصريين, والخبر مقدم, كأنه قال: ظعائن في كل أرضٍ, ومذهب سعيد بن مسعدة أن ظعائن مرفوع بفعل مضمرٍ؛ لأنه كذلك يقول في مثل قولهم: عندك رجل, فالمعنى: عندك حل رجل أو استقر أو نحو ذلك, والكوفيون يسمون هذا الفن خبر الصفة؛ لأنهم يسمون حروف الخفض الصفات.
وقوله:
وملمومة سيفية ربعية ... تصيح الحصى فيها صياح اللقالق
ملمومة: أي: كتيبة قد لم بعضها إلى بعض, وسيفية: نسبها إلى سيف الدولة, وربعية منسبوبة إلى ربيعة الفرس, وسيف الدولة من تغلب ابنة وائلٍ, وهي ترجع إلى ربيعة. واللقالق: جمع لقلقٍ, وهو طائر. وقيل: إنه الذي يقال له: أبو حديجٍ. واللقلقة: كل صوتٍ رفع. وفي الحديث: «من وقي شر لقلقه وقبقبه وذبذبه فقد وقي». يعني باللقلق اللسان, وبالقبقب البطن, وبالذبذب الفرج, وقيل: إن أعرابية قالت لبعلها: [مجزوء الرجز]
يا حبذا ذباذبك ... إذ الشباب غالبك
فقال:
يا حبذا مقرنفطك ... إذ أنا لا أفرطك
والمقرنفط: المجتمع المتقبض.
وقوله:
بعيدة أطراف القنا من أصوله ... قريبة بين البيض غبر اليلامق
اليلامق: جمع يلمقٍ, وأصله فارسي معرب, وهو القباء المحشو, وقيل: أصله بالفارسية يلمه, وقد استعملته العرب, قال جرير: [الكامل]
سائل بني بكرٍ إذا لاقيتهم ... والأسد إذ ندبوا لنا مسعودا
فأتاهم عشرون ألف مدججٍ ... متسربلين يلامقًا وسرودا
وقوله: قريبة بين البيض: يعني بيضة الحديد أي: الفوارس تتقارب رؤوسهم لعظم الكتيبة وضيق ما تسلك فيه, وإن كان فضاءً رحبًا.
ووصف القنا بالطول وتباعد أطرافه من أسافله؛ لأن الفارس إذا طالت قناته كان حملها أصعب من حمل ما قصر من الرماح, وهم يفتخرون بالرمح الطويل, قال الشاعر: [الوافر]
لعمرك ما رماح بني قشيرٍ ... بطائشة الصدور ولا قصار
والأجود خفض بين بإضافة قريبة إليه, ويجوز النصب على تقدير ما, والآية تقرأ على وجهين: {لقد تقطع بينكم} , بالرفع, و «بينكم» بالنصب, فإذانصبت فهي ظرف, ويجب أن يكون ما على هذا الوجه نكرةً كثر استعمالهم في هذا الموضع. وهذا البيت ينشد رفعًا ونصبًا: [الطويل]
يديرونني عن سالمٍ وأديرهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وإنما قيل لبيضة الحديد: بيضة؛ لأنها شبهت ببيضة النعامة, قال أوس بن حجرٍ: [الطويل]
كأن نعام السي باض عليهم ... وقد جعجعوا بين الإناخة والحبس
وقال النابغة: [الوافر]
فصبحهم بها صهباء صرفًا ... كأن رؤوسهم بيض النعام
وقوله:
نهاها وأعناها عن النهب جوده ... فما تبتغي إلا حماة الحقائق
الحقائق: جمع حقيقةٍ, وهي ما يحق على الرجل أن يحميه من الأشياء, وقال قوم: الحقائق: جمع حقيقةٍ, وهي الراية؛ لأنها إذا لم تحم فالجيش هزيم. وفي هذا شبه من قول عنترة: [الكامل]
يخبرك من شهد الوقائع أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
إلا أن العبسي وصف نفسه بالقتال, ونزهها عن الرغبة في الغنيمة, وأبو الطيب لم يصف الجنود بالعفة عن المغنم, وإنما ذكر أن صاحب الجيش أغناهم بالجود عن النهاب.
وقوله:
توهمها الأعراب سورة مترفٍ ... تذكره البيداء ظل السرادق
السورة: الوثبة. والمترف: المتنعم. أراد أنهم ظنوا أن سيف الدولة إذا سار في البيداء, وظهر للشمس تذكر ظل السرادق, والسرادق: ما حول الفسطاط, ويقال لما حول البناء: سرادق. وليس أصله بعربي, وقد يقال للغبار: سرادق, وإذا قيل للغبار ذلك جاز أن يجعل السرادق الدخان في قوله تعالى: {أحاط بهم سرادقها} ومن أبيات المعاني: [الطويل]
ولما ركبنا صعبها وذلولها ... إلى أن توارت تحت ظل السرادق
رمتنا بفلذٍ من سرارة قلبها ... فطفنا به من بين حاسٍ وذائق
توارت: يعني الشمس, وذكروا أن السرادق هاهنا: الغبار. والهاء في صعبها وذلولها (123/ب) راجعة على أرض سلكوها. وعنى بالفلذ شيئًا من ماءٍ قليلًا. والسرارة أكرم موضعٍ في الوادي, فطافوا بهذا الماء القليل؛ فمنهم من حسا حسوةً, ومنهم من لم يصل إلى الحسوة فذاقه باللسان.
وقوله:
فذكرتهم بالماء ساعة غبرت ... سماوة كلبٍ في أنوف الحزائق
يعني أنه ذكر البادية بالماء؛ وذلك أنه طردهم حتى حصلوا بالسماوة, وهي قليلة الماء فاشتد بهم الظمأ. والحزائق: جمع حزيقةٍ, وهي الجماعة من الناس.
وقوله:
وكانوا يروعون الملوك بأن بدوا ... وأن نبتت في الماء نبت الغلافق
الغلافق: جمع غلفقٍ, وربما عبروا عنه بأنه الطحلب, وقيل: الغلفق: ما سقط في الماء من ورق الشجر, ومنه قول أبي كبيرٍ الهذلي: [الكامل]
فصدت عنه ظامئًا وتركته ... يهتز غلفقه كأن لم يكشف
وقوله:
فهاجوك أهدى في الفلا من نجومه ... وأبدى بيوتًا من أداحي النقانق
هاجوك: أي: حملوك على أن طردتهم, فوجدوك أهدى في الفلا من النجوم؛ لأن الذين يسرون بالليل إنما يهتدون بالنجم في المفاوز البعيدة, ويذكرون الهداية بالفرقد والجدي وسهيلٍ وغيرهن من النجوم, قال الراجز: [الرجز]
قلت له والجدي تحت الفرقد ... إنك إن لم تزجها بالفدفد
لا ترد الأمواه إلا من غد
وقال آخر: [الرجز]
لوح خليك الأداوى والنجم ... وطول تخويد المطي والسعم
أراد أنهم يهتدون بالنجم فقد غير جسومهم ذلك. والسعم: ضرب من سير الإبل, وهذا الرجز ينشد على وجهين: منهم من يسكن الجيم في النجم, والعين في السعم, ومنهم من يحرك الحرفين. وأبدى: أفعل من قولهم: بدا القوم إذا صاروا باديةً, والأداحي: جمع أدحي, وهو حيث يبيض النعام. وإذا كانت هذه الياء مشددةً في الجمع كقولك: أمنية وأماني, وأوقية وأواقي, ولا اختلاف في أن التخفيف جائز في الشعر, قال مالك بن الريب: [الطويل]
فيا زيد عللنا بمن يسكن الغضا ... وإن لم يكن يا زيد إلا أمانيا
ويقال: إن يزيد بن القعقاع قرأ: {ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني} , بتخفيف الياء, قال كثير: [الطويل]
فمازلت أبغي الظعن حتى كأنهم ... أواقي سدى تغتالهن الحوائك
فخفف ياء الأواقي. والبصريون يروون بيت زهير بتخفيف ياء الأثافي: [الطويل]
أثافي سفعًا في معرس مرجلٍ ... ونؤيًا كجذم الحوض لم يتثلم
والكوفيون يروونها بالتشديد. وبيت عدي بن زيدٍ ينشد على وجهين: [الخفيف]
لم يعبه إلا الأداحي وقد وبـ ... بر بعض الرئال في الأفلاق
ومنهم من يروى: إلا الأداحي قد وبر. والنقانق: جمع نقنقٍ ونقنقةٍ, وهو الظليم, والنعامة, وإنما قيل لهما ذلك؛ لأن النقنقة من أصواتهما. ولا يبيض النعام إلا في بلد بعيدٍ من الأنيس؛ فجعل بيوت هذا الممدوح أبدى من أداحي النعام, التي تختار لبيضعها ورئالها ما أقفر من البلاد.
وقوله:
وأصبر عن أمواهه من ضبابه ... وآلف منها مقلةً للودائق
الضب: يوصف بأنه لا يشرب الماء. ومما تذكره العرب على معنى الأمثال أنهم يقولون: «قال النون للضب: رد, فقال الضب: [مجزوء الرجز]
أصبح قلبي صردا ... لا يشتهي أن يردا
إلا عرادًا عردا ... وصليانًا بردا
وعنكثًا ملتبدا»
الصرد: البارد, والعراد: ضرب من الحمض, والصليان نبت تأكله الإبل وحمير الوحش. ومن أمثالهم في اليمين يحلفها الرجل مسارعًا: «جذها جذ العير الصليانة» والعنكث: قيل: هو عروق نبتٍ؛ ولذلك وصفوا الضب بأنه يألف قفار الأرض إذ كان غنيًا عن الماء, وحكى بعض من يصيد الضباب أنهم يجدون في بطن الضب شيئًا على نحو الشكية لا يزال فيه شيء مثل الماء, وقال الشاعر: [البسيط]
وليس يألف شكلي شكلها أبدًا ... حتى يؤلف بين الضب والحوت
الحوت في اللجة الخضراء مسكنه ... والضب يسكن في البيد الأماليت
(24/أ) والودائق: جمع وديقةٍ, وهي حين تدنو الشمس من الأرض, يقال: ودق الشيء من الشيء إذا دنا, قال ذو الرمة: [البسيط]
كانت إذا ودقت أمثالهن لها ... فبعضهن عن الألاف مشتعب
ويجوز أن يكون سمي المطر ودقًا؛ لأن قطره يدنو من الأرض؛ لأن الاشتقاق يدل على ذلك.
وقوله:
وكان هديرًا من فحولٍ تركتها ... مهلبة الأذناب خرس الشقاشق
قوله: وكان هديرًا؛ أي: كان العصيان الذي أجروا إليه هديرًا من فحول إبلٍ. والفحل إنما يهدر إذا صال أو أراد الصيال, ومن شأنه إذا هم بذلك أن يرفع ذنبه ويظهر شقشقته. فهذا الممدوح قد جعل الأذناب مهلبةً؛ أي: قد أخذ هلب أذنابها, وهو شعرها, وأخرس شقاشقها, والشقاشق: جمع شقشقةٍ, وهي شيء يخرجه البعير العربي من فمه, قال الراجز: [الرجز]
وهو إذا جرجر بعد الهب ... جرجر في شقشقةٍ كالحب
وهامةٍ كالمرجل المنكب
وقال الآخر: [الرجز]
أرسل فيها قطمًا لم يقفر ... يخرج بين مشفرٍ ومشفر
شقشقةً مثل الجراب الأوفر ... في جنبها وهي كعين الأعور
وقوله:
فما حرموا بالركض خيلك راحةً ... ولكن كفاها البر قطع الشواهق
يقول: هؤلاء القوم لم يحرموا بالركض خيلك راحةً؛ لأنك ركضتها في السهول, وكنت إذا غزوت الروم ركضتها في الجبال الشاهقة, وركضها فيما سهل من الأرض أقل مشقةً من ذلك, ويقال: جبل شاهق؛ أي مرتفع في السماء, ومنه شهيق الإنسان؛ لأنه نفس متعالٍ.
وقوله:
ولاشغلوا صم القنا بقلوبهم ... عن الذكر لكن عن قلوب الدماسق
الدماسق: جمع دمستقٍ, وقد مضى القول: إنه لا مثال له في العربية, ولما قال النحويون في تصغير فرزدقٍ: فريزد, وأجازوا فريزقًا بحذف الدال, واحتجوا بأن حذفها حسن؛ لأن الدال تشبه التاء, والتاء من حروف الزوائد, كان حذف التاء في دمستقٍ واجبًا لا يجوز غيره.
وقوله:
ألم يحذروا مسخ الذي يمسخ العدى ... ويجعل أيدي الأسد أيدي الخرانق
يقول: ألم يخش هؤلاء العرب مسخ هذا الممدوح؛ الذي إذا حارب مسخ الأسد خرانق, وهي جمع خرنقٍ, وهي الصغيرة من أولاد الأرانب. والأرنب توصف بلين المس, وفي كلام بعض النساء المذكورات في حديث أم زرعٍ: [الرجز]
المس مس أرنب ... والريح ريح زرنب
أغلبه والناس يغب
تصف زوجها بذلك. والزرنب: طيب من طيب البادية, وينشد لأعرابي يخاطب ابنه: [الرجز]
يا بأبي أنت وفوك الأشنب ... كأنما ذر عليه زرنب
أو زنجبيل عاتق مطيب
وسكن أبو الطيب ياء أيدي في موضعين, وذلك جائز في الضرورة, وقلما يجتمع تسكين هذه الياء مرتين في بيتٍ واحدٍ, قال الراجز: [الرجز]
كأن أيديهن بالقاع القرق ... أيدي جوارٍ يتعاطين الورق
يريد أن هؤلاء الجواري بنات قومٍ أغنياء, فهن يلعبن بالفضة وأيديهن مخضبات؛ يريد أن أيدي العيس قد دميت من السير فشبه أيديها بأيدي جوارٍ مختضباتٍ.
وقوله:
تعود ألا تقضم الحب خيله ... إذا الهام لم ترفع جنوب العلائق
زعم أن هذا الممدوح لا تقضم خيله الحب؛ أي: الشعير - والقضم أكل الشيء اليابس -إلا أن ترفع الهام جنوب العلائق: جمع عليقةٍ وعليقٍ, وهو ما يعلق على الفرس من العلف.
وذكر أنه يجعل الهام كالمعالف؛ لأن المعالف يكون فوقه عليق الفرس. ويجوز: يرفع وترفع, وقد مضى القول في الجمع الذي بينه وبين واحده الهاء, وأن تذكيره وتأنيثه جائزان, وفي التنزيل: {أعجاز نخلٍ خاويةٍ} , {أعجاز نخلٍ منقعرٍ}.
وقوله:
ولا ترد الغدران إلا وماؤها ... من الدم كالريحن تحت الشقائق
الماء يوصف بالسواد, ومن أسمائه: سويد, وبالزرقة. وإنما يوصف بالخضرة ماء البحر, فيقال: البحر الأخضر.
والناس يخصون بالريحان ضربًا من النبت, وهو معروف؛ فأما أهل العلم فيجيزون أن يقع الريحان على كل نبتٍ طيب الرائحة, حتى اجازوا أني قال لولد الرجل: ريحان, وكذلك لامرأته, والحسن والحسين - صلى الله عليهما - ريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي كلام لخالد بن صفوان, يقوله للسفاح: عندك ريحانة من ريحان بني مخزومٍ, يعني امرأته. وينبغي أنيحمل بيت أبي الطيب على أنه أراد بالريحان أزهارًا بيضًا تشابه الماء في بعض الأحوال. وقد يجوز أن يقال للورد (124/ب) الأبيض: ريحان.
وقوله:
لوفد نميرٍ كان أرشد منهم ... وقد طردوا الأظعان طرد الوسائق
يعني بالأظعان: النساء في الهوادج, والوسائق: جمع وسيقةٍ, وهي الطريدة, قال عوف ابن الأحوص: [الوافر]
ألم أظلف عن الشعراء عرضي ... كما ظلف الوسيقة بالكراع
الوسيقة: ما طرد, ويقال: إن الطريد من الوحش يختار السلوك في الغلظ من الأرض لئلا يؤخذ أثره. وأصل الظعينة: الهودج, وبه سميت المرأة ظعينةً لركوبها فيه. وقد سمى طفيل الغنوي سرير الميت ظعنًا, فقال: [البسيط]
حتى يقال وقد عوليت في ظعنٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول
وقوله:
تصيب المجانيق العظام بكفه ... دقائق قد أعيت قسي البنادق
المجانيق: جمع منجنيقٍ, قال جرير في استعمال العرب المنجنيق: [البسيط]
يلقى الزلازل أقوام دلفت لهم ... بالمنجنيق وصكًا بالملاطيس
وعند قوم أن ميم منجنيق أصلية, وأن نونها زائدة, يدل على زيادتها حذفها في الجمع, والقياس لا يمنع أن تكون الميم زائدةً؛ لأنك إذا حذفت النون رجع الأصل إلى مجنقٍ, والميم كثيرة الزيادة في مفعلٍ حتى أوجب ذلك أن يحكم عليها بالزيادة كما يحكم على همزة أفعل, وقد روي في بعض كلام العرب ما يدل على أن الميم زائدة؛ لأن بعضهم قال:
«كانت بيننا حروب عون, تفقأ فيها العيون, تجنق تارةً, وترشق أخرى».
ووصف الشاعر الممدوح بأنه لطيف الحيلة يصيب بحجر المنجنيق, للطف رأيه, ما لا تصيبه البندقة التي تخرج من قوس البندق, وإنما سميت قوس البندق؛ لأن ما يرمى عنها في مقدار البندق من الثمر, وهو كلمة لا أصل لها في العربية, ولم ينطقوا بالبدق فيحكم على أن النون زائدة.
وحكى ابن سعدٍ, رواية أبي الطيب, أنه سئل عن أي القصيدتين أفضل: أهذه أم التي على الراء, وهي قوله في هذه الوقعة: [الوافر]
طوال قنًا تطاعنها قصار ... ......................
فقال - يعني القافية -: هذه اختياري, وتلك اختيار سيف الدولة.
وقافية هذه القصيدة من المتدارك, وهو حرفان متحركات بعدهما ساكن, كأنه رقي, من بارق, والقافية على رأي الخليل في هذا البيت, وفي القصيدة كلها من آخر ساكن في البيت إلى أول ساكنٍ يليه مع المتحرك قبل الساكن؛ فالقافية عنده: بارقي, وابقي, من السوابق؛ مرةً تكون الكلمة تامةً, ومرةً منقطعةً, وعند سعيد بن مسعدة أن القافية الكلمة بأسرها.












مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید