المنشورات

إن يكن صبر ذي الرزية فضلا ... تكن الأفضل الأعز الأجلا

وزنها من أول الخفيف.
قوله:
أنت يا فوق أن تعزى عن الأحـ ... ـباب فوق الذي يعزيك عقلا
قوله: يا فوق يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون قد حذف المنادى لعلم السامع بما يريد؛ كأنه قال: أنت يا سيف الدولة, أو يا ملك, أو يا أمير, أو نحو ذلك. وحذف المنادى يكثر في شعر العرب, قال الشاعر: [الطويل]
ألا يا اسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحياتٍ وإن لم تكلمي
والآخر: أن يكون جعل فوق نعتًا لسيف الدولة؛ فكأنه أخرجه من باب الظروف إلى باب الأسماء, وهذا القول أحسن في نقد الشعر, لأن فوق الأولى والثانية في الوجه الأول: ظرفان, وفي الوجه الآخر: الأول منهما اسم, والثاني ظرف. ولو كان فوق في موضع رفع على هذا الوجه لرفع فقيل: أنت فوق أن تعزى, وقد أدخلوا الباء على فوق وأنشدوا بيتًا ينسبونه إلى سحيمٍ عبد بني الحسحاس وليس في ديوانه: [الطويل]
لقيت النساء الحارثيات غدوةً ... بوجه براه الله غير جميل
فشبهنني كلبًا ولست بفوقه ... ولا دونه إن كان غير بخيل
وقوله:
وبألفاظك اهتدى فإذا عز ... زاك قد الذي له قلت قبلا
العرب تستعمل قبل مضافةً, فإذا فعلوا ذلك نصبوها على الظرف, فإذا حذفوا المضاف إليه فأكثر ما يستعملونها مضمومةً يجعلونها غايةً, وفي الكتاب العزيز: {لله الأمر من قبل ومن بعد} , وقل ما يستعملونها غير ظرف إذا انفكت من الإضافة, قال الشاعر: [الوافر]
فلذ لي الشراب وكنت قبلًا ... أكاد أغص بالماء الحميم
أراد بالحميم هاهنا: البارد, وإنما شبهه بحميم الإنسان الذي يحتم له أي يهتم, والاحتمام مثل الاهتمام, وقيل: إنه يكون مع سهرٍ, وقد جاؤوا ببعد مضمومة منونة وذلك قليل شاذ, وأنشد الفراء: [الطويل]
ونحن قتلنا الأزد أزد شنوءةٍ ... فما شربت بعد على لذاةٍ خمرا
وقوله:
وقتلت الزمان علما فما يغـ ... رب قولًا ولا يجدد فعلا
(153/أ) ادعى للممدوح أنه قد قتل الزمان علمًا, فالزمان لا يغرب عليه قولًا, ولا يجدد فعلًا لم يمرر به, وهذه الدعوى توجب الاستغفار, ولا يحل أن يوصف بها مخلوق, ولكن الشعراء مصطلحون علي هذه المبالغات.
وقوله:
إن خير الدموع عينًا لدمع ... بعثته رعاية فاستهلا
يقال: استهل الدمع إذا تهيأ لأن ينهل, وانهلاله انصبابه بالمطر, واستفعل يستعمل على هذا الوجه, يقال: استسر الهلال إذا حصل في السرار, واستجد الرجل صديقًا إذا أخذه جديدًا, وربما قال المفسرون: الاستهلال رفع الصوت؛ وإنما قالوا ذلك لأن السحاب إذا استهل طال ما سمع معه رعد, وقالوا: أهل الرجل إذا رفع صوته بدعاءٍ أو تسبيح, قال ابن أحمر: [السريع]
يهل بالفرقد ركبانها ... كما يهل الراكب المعتمر
وإنما قيل لرافع الصوت مهل؛ لأن الهلال إذا طلع فمن شأن من رآه أن يذكر الله؛ فيرفع لسانه بذلك, وقالوا: استهل الصبي إذا بكى بعد ولاده, وأصله ما تقدم. وقال الشاعر: [الطويل]
أهل به لما استهل بصوته ... حسان الوجوه ناعمات الأنامل
وقوله:
قاسمتك المنون شخصين جورًا ... جعل القسم نفسه فيه عدلا
كان لسيف الدولة أختان؛ إحداهما التي رثاها أبو الطيب بالقصيدة التي أولها:
يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أب
وكانت الكبرى من أختيه فماتت الصغرى قبلها, وهي المرثية بهذه القصيدة, وفضل أبو الطيب الباقية على الذاهبة في هذه القصيدة وفي الأخرى فقال:
قد كان قاسمك الشخصين دهرهما ... وعاش درهما المفدي بالذهب
وقوله:
فإذا قست ما أخذن بما أغـ ... ـدرن سرى عن الفؤاد وسلى
يقال: أغدر بالشيء وغادره إذا تركه. ويقال: أخذ فلان كذا وترك منه غدارة, قال الأفوه الأودي: [السريع]
في مضر الحمراء لم يترك ... غدارةً غير النساء الجلوس
وقال الراجز: [الرجز]
هل لك والعائض منك عائض ... في مائةٍ يغدر منها القابض
وقوله:
وكم انتشت بالسيوف من الدهـ ... ـر أسيرًا وبالنوال مقلا
يقال: انتشت الشيء أنوشه إذا تناولته, وربما قيل: نوش الشيء أخذه بعد طلبٍ, قال الراجز: [الرجز]
فهي تنوش الحوض نوشًا من علا ... نوشًا به تقطع أجواز الفلا
والسباع تنوش القتيل؛ أي تأخذ لحمه, قال عنترة: [الكامل]
فتركته جزر السباع ينشنه ... مما بين قلة رأسه والمعصم
ويقال: انتاش فلان الرجل من الهلكة إذا خلصه منها, قال القطامي: [البسيط]
فانتاشني لك من غبراء مظلمةٍ ... حبل تضمن إصداري وإيرادي
وقوله:
عدها نصرةً عليه فلما ... صال ختلًا رآه أدرك تبلا
في عدها ضمير يعود على الدهر, والهاء والألف في عدها عائدة على أفعال سيف الدولة التي هي تخليص الأسرى بالسيوف, وإراحة المقلين من العدم بالنوال؛ فكأن الدهر رأى ذلك نصرةً عليه, فلما ختل الممدوح, فأخذ بعض أهله, ظن أنه قد أدرك ثأرًا.
وقوله:
قارعت رمحك الرماح ولكن ... ترك الرامحين رمحك عزلا
يقول: قارعت الرماح رمحك فترك الرامحين عزلًا؛ أي لا سلاح معهم, والواحد أعزل, وإنما قيل له ذلك لأنه إذا فقد السلاح انعزل عن الحرب, وأكثر ما يستعمل فيمن فقد الرمح, [و] يقال له: أجم, والأجم الذي لا قرن له, والرماح يقال لها: قرون الخيل, قال عنترة: [الوافر]
ألم تعلم لحاك الله أني ... أجم إذا لقيت ذوي الرماح
ويقال: فرس جماء إذا لم يكن مع فارسها رمح, وكذلك خيل جم, قال الأعشى: [المتقارب]
متى تدعهم للقاء الصباح ... تأتك خيل لهم غير جم
ويقال في جمع الأعزل: عزل, وكذلك في المصدر, وهو مثل قولهم: أحمق للواحد, والجمع: حمق, وقالوا: هو بين الحمق, قال الهذلي: [الطويل]
فما هو إلا بزه وسلاحه ... وما بكم فقر إليه ولا عزل
والعزل هاهنا مصدر أعزل, قال النابغة في الجمع: [الوافر]
فوارس من منولة غير ميلٍ ... ولا عزل إذا هفت العقاب
وقوله (153/ب):
لو يكون الذي وردت من الفجـ ... ـعة طعنًا أوردته الخيل قبلا
توصف الخيل بالقبل؛ فيقول قوم: القبل حول خفي. وقال آخرون: القبل ضد الحول, لأن الحول أن تخالف إحدى العينين الأخرى, والقبل أن تقبل إحداهما على الأخرى, وقيل: القبل أن يقبل أعلى العين على أسفلها. قال الهذلي: [الطويل]
فلو سمعوا منه دعاءً يروعهم ... إذًا لأتته الخيل أعينها قبل
وقوله:
خطبة للحمام ليس لها رد ... وإن كانت المسماة ثكلا
ذكر أن خطبة الحمام نفوس بني آدم وغيرها لا يمكن ردها؛ إذ كانت الخطبة طال ما ردها المخطوب إليه. وأصل الخطبة في التزوج, ويجوز أن يقال لكل من طلب شيئًا قد خطبه. قال الراجز: [الرجز]
قد خطب النوم إلي نفسي ... همسًا وأدنى من خفي الهمس
وما بأن أطلبه من بأس
وحسن ذكر الخطبة هاهنا لأن المرثاة امرأة, وبين ذلك الشاعر بقوله:
وإذا لم تجد من الناس كفوًا ... ذات خدرٍ أرادت الموت بعلا
أبدًا تسترد ما تهب الدنـ .. ـيا فياليت جودها كان بخلا
فكفت كون فرحةٍ تورث الغمـ ... ـم وخل يغادر الوجد خلا
وهذ يشبه قول أبي الطيب في موضعٍ آخر:
ولولا أيادي الدهر في الجمع بيننا ... غفلنا فلم نشعر له بذنوب
وللترك للإحسان خير لمحسنٍ ... إذا جعل الإحسان غير ربيب
يقول: لولا أيادي الدهر, أي نعمه, في الجمع بيننا لم ن شعر بذنوبه التي هي فراق وغيره من حوادث الدهر, ثم قال: ترك الإحسان أجمل بالمحسن إذا جعل إحسانه غير مربوبٍ؛ أي غير مرهون, بما ينقضه؛ فإنما مثل الدهر فيما فعل مثل رجلٍ وهب لآخر شيئًا فرح به, ثم أخذه منه, فكان أسفه عليه أضعاف فرحه به إذ أعطي.
وقوله:
وهو الضارب الكتيبة والطعـ ... ـنة تغلو والضرب أغلى وأغلى
يقول: الطعن وإن كان صعبًا على الطاعن فهو أيسر من الضرب؛ لأن بعد الطاعن من عدوه أكثر من بعد الضارب منه, كما أن الرامي أبعد من الطاعن, وقد رتب هذا الغرض زهير في قوله: [البسيط]
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ... ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا
وقافية هذه القصيدة من المتواتر, ولو لم يكن للمتنبي غير هذه القصيدة في سيف الدولة لكان كثيرًا, وأين منها قصيدة البحتري التي أولها: [الخفيف]
إن سير الخليط لما استقلا










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید