المنشورات

لك يا منازل في الفؤاد منازل ... أقفرت أنت وهن منك أواهل

وزنها من أول الكامل.
قوله:
يعلمن ذاك وما علمت وإنما ... أولاكما ببكى عليه العاقل
يعلمن ذاك؛ أي منازلك التي في الفؤاد يعلمن بحالك وحالهن؛ فهن أواهل بذكرك وأنت مقفرة من ذكر أهلك, ولست تذكرين منازلك التي في الفؤاد. وأولاكما بأن يبكى عليه العاقل؛ يعني المنازل التي في الفؤاد.
وقوله:
تخلو الديار من الظباء وعنده ... من كل تابعةٍ خيال خاذل
الهاء في قوله: عنده عائدة على الذي, والذي وصلته مراد بها الشاعر. يقول: تخلو الديار من الظباء وعندي من كل ظبيةٍ, تابعةٍ من ظعن, خيال خاذل من قولهم: ظبية خاذلة إذا تخلفت عن صواحبها لأجل ولدٍ معها.
وقوله:
اللاء أفتكها الجبان بمهجتي ... وأحبها قربًا إلي الباخل
يقال: اللاء واللائي بإثبات الياء وحذفها, ويقال للرجال: اللاؤون, وأنشد الفراء: [الوافر]
هم اللاؤون فكوا الغل عني ... بمرو الشاهجان وهم جناحي
وقوله: اللاء يجوز أن يكون نعتًا للظباء, ولا يمتنع أن يكون محمولًا على قوله: من كل تابعةٍ؛ لأن كل قد دلت على معنى الجمع, فإذا حمله على الظباء فاللاء في موضع خفضٍ لأنه نعت, وإذا حمله على كل تابعةٍ؛ فهو بدل معرفةٍ من نكرةٍ. وقوله: أفتكها الجبان بمهجتي؛ أي أفتكها بمهجتي الجبان. يعني أنه مغرم بامرأة وليس للنساء شجاعة الرجال. ولو أمكنه أن يقدم الباء في بمهجتي على الجبان لكان ذلك أوجه؛ ولكنه لم يستقم له الوزن, وأفعل إذا كان للتضعيف لم يعمل. والباء متصلة بأفتك اتصالًا بينًا, وكذلك إذا قلت: مررت بالذين أحبهم فلان إلي؛ فالوجه تقديم إلي على فلان لئلا يفصل بينه وبين أحب.
وقوله:
الراميات لنا وهن نوافر ... والخاتلات لنا وهن غوافل
من عادة الرامي أن يرمي وهو مقابل للمرمي, وهؤلاء النوافر إذا نظرنا إليهن في حال النفار فهن كالرماة الذين يقصدوننا بالرمي وهن مع ذلك نوافر. ووصفهن بالختل وهن غوافل؛ وإنما يعني أنهن يكن سبب الختل ولا ذنب لهن في ذلك؛ وإنما الذنب للمختول الذي جاءه الختل من قبل نفسه.
وقوله:
كافأتنا عن شبههن من المها ... فلهن في غير التراب حبائل
كافأننا: فاعللنا من الكفء وهو من قولهم: فلان كفؤ لفلان وكفيء له, قال الشاعر: [الطويل]
أما كان عباد كفيئًا لدارمٍ؟ ... بلا ولأبياتٍ بها الحجرات
يقول: هؤلاء النساء المشبهات بالظباء كافأننا عن شبههن من بقر الوحش؛ لأن الصادة منا يقتنصوهن؛ فقد كافأننا عنهن؛ إلا أنهن لا ينصبن الحبائل للصيد كما يفعل القناص من بني آدم.
وقوله:
من طاعني ثغر الرجال جآذر ... ومن الرماح دمالج وخلاخل
الثغر جمع ثغرة النحر, وهي الهزمة التي فيه. يقول: من طاعني فيجيء بجمع طاعنٍ على قول من قال: طاعنون وطاعنين؛ لأنه جعل الجآذر من الطاعنين, وهو يريد مؤنثاتٍ؛ فغلب المذكر على المؤنث, وما يعقل على ما لا يعقل. ثم قال: ومن الرماح دمالج وخلاخل؛ أي هن يطعننا بحليهن كما تطعن الفوارس برماحها.
وقوله:
ولذا اسم أغطية العيون جفونها ... من أنها عمل السيوف عوامل
(159/ب) قوله: ولذا يشير به؛ أي لذا الشأن ولذا الأمر سميت أغطية العيون جفونًا, لأنها تعمل عمل السيوف؛ وإنما قيل لغمد السيف: جفن من قولهم: جفن نفسه عن كذا إذا منعها منه, قال الراجز: [الرجز]
جمع مال الله فينا وجفن ... نفسًا عن الدنيا وللدين فطن
وإنما قيل: جفنة الطعام لأنها تجمعه, قال الشاعر: [الطويل]
نجا سالم والنفس منه بشدقه ... ولم ينج إلا جفن سيفٍ ومئزراً
وقال الفرزدق: [الطويل]
وغمد سلاحٍ قد رزئت فلم أبل ... لذاك ولم أبعث عليه البواكيا
وفي جفنه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو ان المنايا أنسأته لياليا
وكانت امرأة له ماتت وهي حامل.
وقوله:
كم وقفةٍ سجرتك شوقًا بعدما ... غري الرقيب بنا ولج العاذل
سجرتك: أي ملأتك من قولهم: بحر مسجور, وذهب إلى حرارة الشوق تشبيهًا بسجار التنور.
وقوله:
دون التعانق ناحلين كشكلتي ... نصب أدقهما وضم الشاكل
نصب ناحلين على الحال من النون والألف في قوله: بنا؛ لأنه يعني نفسه والتي ذكرها في النسيب. والشكلة الواقعة في الإعراب هي من: شكلت الدابة بالشكال لأنه يضبط الدابة, وكذلك الشكلة تضبط الحرف وتبين حاله. وضم هاهنا لا يريد به الضم الذي هو شكل؛ وإنما أراد ضم شكلة النصب إلى مثلها. يريد أنه والمذكورة قد دنا أحدهما من الآخر؛ إلا أنهما دون التعانق لم يصلا إليه.
وقوله:
جمح الزمان فما لذيذ خالص ... مما يشوب ولا سرور كامل
جمح الفرس إذا غلب فارسه على رأسه, وفي الكتاب العزيز: {وهم يجمحون} , فسروه: يسرعون, وهو راجع إلى المعنى الأول, فكأن الجماح إسراع في عصيانٍ لما يريده الراكب أو غيره.
وقوله:
حتى أبو الفضل بن عبد الله رؤ ... يته المنى وهي المقام الهائل
كان بعض أهل العلم يجعل تمام نصف البيت الأول قبل أن تتم الكلمة كالعيب في المنظوم, وإنما يقل ذلك في الأوزان الطوال؛ فأما في الأوزان الخفيفة فهو كثير كقول الأعشى: [الخفيف]
حل أهلي ما بين درنا فبادو ... لى وحلت علويةً بالسخال
وكقوله: [الخفيف]
إن يعاقب يكن غرامًا وإن يعـ ... ـط جزيلًا فإنه لا يبالي
وقد تقدم ذكر هذا في أول الكتاب. والمعنى: أن الزمان جمح فما تخلص اللذة من أذى يشوبها به الدهر, ولا يكمل للإنسان سرور. وزعم أن ذلك في كل الأشياء حتى أبو الفضل, وهو الممدوح, رؤيته أماني الناس, وإذا وصلوا إليها نغصتها عليهم الهيبة, وما يشاهدون من هول المنظر.
وقوله:
ممطورة طرقي إليها دونها ... من جوده في كل فج وابل
الهاء في إليها راجعة إلى رؤيته, وكذلك الهاء في قوله: دونها, والفج: الطريق الواسع.
وقوله:
ولديه ملعقيان والأدب المفا ... د وملحياة وملممات مناهل
ما علمت بيتًا حذفت منه نون مع لام المعرفة ثلاث مرات إلا في هذا البيت. والعقيان: الذهب الخاص, ويقال: هو الذهب الذي يخرج من المعدن, قال الشاعر: [الرمل]
كل قومٍ خلقوا من آنكٍ ... وبنو العباس عقيان الذهب
وقوله:
لو لم يهب لجب الوفود حواله ... لسرى إليه قطا الفلاة الناهل
يقال: هم حوله وحوليه وحواليه, وهم أحواله, ونصب ذلك كله على الظرف, والعامل فيه فعل مضمر كأنه قال: حضروا حواله أو نحو ذلك, والعرب تنشد رجزًا تنسبه إلى الضب, وقد أنشده سيبويه في كتابه وهو: [الرجز]
أهدموا دارك لا أبا لكا
وزعموا أنك لا أخا لكا
وأنا أمشي الدألى حوالكا
الدألى: مشي سريع, وقال كعب بن زهير في تثنية حوالٍ: [البسيط]
يسعى الوشاة حواليها وقيلهم ... إنك يا بن أبي سلمى لمقتول
وقال امرؤ القيس في جمع حول: [الطويل]
فقالت سباك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
وقال النابغة: [الكامل]
حولي بنو دودان لا يعصونني ... وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري
وليس في الظروف الجارية مجرى حول مثل: أمام وفوق وتحت ما جاء مثنى ومجموعًا في الشعر الفصيح إلا حولك وحوال. ويعني بلجب الوفود ارتفاع أصواتهم واختلاطها؛ يقول: لو لم يفزع القطا الناهل؛ أي العطشان؛ لجب الوفود فيذعره لسرى إلى جود الممدوح لكي يرده.
وقوله: (160/أ)
يدري بما بك قبل تظهره له ... من ذهنه ويجيب قبل تسائل
حذف أن في قوله: قبل تظهره وقبل تسائل, وحذفها رديء, وهو في الشعر جائز.
وقوله:
وتراه معترضًا لها وموليًا ... أحداقنا وتحار حين يقابل
معنى البيت أن الممدوح إذا اعترض لعيوننا أو كان موليًا عنها رأته, فإذا قابلها مواجهةً حارت من نوره فلم تره.
وقوله:
كلماته قضب وهن فواصل ... كل الضرائب تحتهن مفاصل
فواصل أي يفصلن الضريبة, وهن في معنى فواصل؛ أي قواطع, والمفاصل جمع مفصلٍ, وكل موصل عظمين في بدن الإنسان فهو مفصل, فأما المفاصل في قول الهذلي: [الطويل]
وإن حديثًا منك لو تعلمينه ... جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل
مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها ... تشاب بماءٍ مثل ماء المفاصل
فالمفاصل هاهنا: مواضع تفصل بين الصخور, فيكون فيها ماء بارد. وإذا صادف السيف مفصلًا كان أمضى منه إذا لم يصادفه؛ فإذا أصاب المفصل قيل: طبق, وإذا أصاب العظم قيل: صمم.
وقوله:
هزمت مكارمه المكارم كلها ... حتى كأن المكرمات قبائل
وقتلن دفرًا والدهيم فما ترى ... أم الدهيم وأم دفرٍ هابل
يقول: مكارم الممدوح هزمت مكارم الناس؛ فكأنها قبيلة غلبت القبائل. وقتلن دفرًا؛ يعني: قتلن دفرًا الذي تكنى به الدنيا؛ فيقال لها: أم دفرٍ, وهو يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من الدفر الذي هو كراهة الرائحة.
والآخر: أن يكون من الدفر الذي هو دفع؛ يقال: دفرت الرجل إذا دفعته, أي هي تدفع الناس فتخرجهم منها.
والدهيم من أسماء الداهية, ويقال: إن أصل ذلك من أن ناقةً كانت تسمى الدهيم, وهي ناقة عمرو بن الزبان, وكان له بنون جماعةً فقتلوا وحملت رؤوسهم على الدهيم, وخليت الناقة فذهبت إلى البيت الذي كانت قد اعتادت الرواح إليه, وعمرو بن الزبان جالس فيه, فرأت الناقة أمه له, وجست الرؤوس من ظاهرٍ وهي لا تعلم ما هي, فقالت: لقد جنى بنوك الليلة بيض نعام, فضربت العرب بها المثل في النكد والشؤم؛ فقالوا: صبحتهم الدهيم وصبحهم حمل الدهيم قال الكميت: [الطويل]
أهمدان مهلًا لا يصبح بيوتكم ... بأفعالكم حمل الدهيم وما تزبي
تزبي: أي تحمل؛ يقال: زباه إذا حمله. وكان أبو الفتح بن جني, رحمه الله, يذهب إلى أن نصف البيت الأول يتم فيه الكلام, ويجعل قوله: أم الدهيم ابتداءً, ويجعل هابلًا خبرًا لأم دفر أو لأم الدهيم؛ فكأنه قال: أم الدهيم هابل وأم دفرٍ كذلك, فاكتفي بأحد الخبرين.
وأوجه من هذا, والله أعلم, أن يكون النصف الآخر متعلقًا بالنصف الأول, وترفع أم الدهيم لأنها اسم ما لم يسم فاعله, وتكون الواو في قوله: وأم دفرٍ عاطفةً جملةً على جملةٍ, وأم دفرٍ مرفوعة بالابتداء. وهابل أي ثاكل, ومعروف في كلام العرب أنهم يسمون الداهية: الدهيم مرةً وأم الدهيم أخرى.
وقوله:
علامة العلماء واللج الذي ... لا ينتهي ولكل لج ساحل
يقال: رجل علامة ونسابة أدخلوا الهاء للمبالغة, وليس قولهم العلامة كقولهم: شفرة هذامة؛ لأن الشفرة مونثة, قال الراجز: [الرجز]
ويل لأحمال بني نعامه ... منك ومن شفرتك الهذامه
أي القاطعة.
إذا ابتركت وحفرت قامه ... ثمطرحت الفرث والعظامه
أدخل الهاء في العظام كما قالوا: بكارة في جمع بكرٍ.
يقول الشاعر: علامة العلماء أي هو أعلمهم, وكأنه في الجود لج, واللج معظم الماء, ولا ساحل لهذا اللج؛ أي ليس له منتهى, ولكل لج ساحل ينتهي إليه.
وقوله:
لو طاب مولد كل حي مثله ... ولد النساء وما لهن قوابل
نصب مثله على تقدير قوله: لو طاب مولد كل حي مثل طيب مولد هذا الرجل؛ لولد النساء ولا قوابل لهن, لأن أمرهن كان يتيسر. وهذا الكلام يؤدي إلى أن الممدوح ادعى له الشاعر أنه لما ولد لم يحتج إلى قابلةٍ, وهي التي تقبل المرأة عند الولادة أي تكون قدامها, قال الشاعر وهو حاتم الطائي: [الطويل]
هلموا إلى العزى فإن كنت ربكم ... أنبتم وإلا لم يقل فيك قائل
وإن كانت الأخرى فبوؤوا بصرخةٍ ... كصرخة حبلى أسلمتها القوابل
وقوله: (160/ب):
أو بان بالكرم الجنين بيانه ... لدرت به ذكر أم انثى الحامل
الجنين هاهنا الذي في بطن أمه, وهو فعيل بمعنى مفعولٍ؛ لأنه من جننت الشيء إذا سترته, فأما قول عمرو بن كلثوم: [الوافر]
ولا شمطاء لم يترك شقاها ... لها من تسعةٍ إلا جنينا
فالجنين يحتمل أن يكون الدفين والذي في بطن أمه. وقوله: ذكر: أراد همزة الاستفهام فحذفها للضرورة؛ كأنه قال: أذكر أم أنثى. وألقى حركة أنثى على ميم أم فحذف همزة الاستفهام ضرورةً وهمزة أنثى؛ لأنه نقل حركتها إلى ميم وليس ذلك بضرورةٍ؛ لأن بعض القراء قد استعمل ذلك في الكتاب العزيز استعمالًا كثر؛ إلا أن ترك النقل أكثر في الشعر.
وقوله:
ليزد بنو الحسن الشراف تواضعًا ... هيهات تكتم في الظلام مشاعل
كان لهذا الممدوح, فيما قيل, نسب في ولد الحسن بن علي عليهما السلام, فقال الشاعر: ليزد بنو الحسن الشراف تواضعًا؛ يأمرهم بالزيادة في التواضع؛ لأنهم كلما زادوا فيه ظهر شرفهم؛ فهم يتواضعون لإخفاء نسبهم وهو لاينكتم, كما أن المشاعل لا تنكتم في الظلام. وحذف أن في قوله: تكتم, ولو أن الكلام غير منظومٍ لكان الوجه أن يقول: هيهات أن تكتم.
وقوله:
ستروا الندى ستر الغراب سفاده ... فبدا وهل يخفى الرباب الهاطل
فتح السين في «سترٍ» الوجه, لأنه المصدر وهو أولى بالعمل فيما بعده, وإن كسرت السين لم يكن إلى النصب سبيل إلا بإضمار فعلٍ يدل عليه لفظ الستر. وفتح السين أيسر وأسهل. ويقال: إن الغراب يكتم سفاده. وحدث رجل يوثق به في مثل هذا الحديث, أنه رآه يسفد, وأن الأنثى تنفرش له على ظهرها, ولا يسفد كما تسفد الطير.
وقوله:
جفخت وهم لا يجفخون بها بهم ... شيم على الحسب الأغر دلائل
جخفت: أي تكبرت وفخرت, وفي الكلام تقديم وتأخير؛ كأنه قال: جفخت بهم شيم وهم لا يجفخون بها. وذكر الصاحب ابن عبادٍ هذه الكلمة في الرسالة التي عاب فيها أبا الطيب, وإنما أنكر لفظ الكلمة.
وقوله:
يا افخر فإن الناس فيك ثلاثة ... مستعظم أو حاسد أو جاهل
يا افخر أراد: يا ممدوح افخر, والعرب تحذف المنادى بعد يا كثيرًا, قال العجاج: [الرجز]
يا دار سلمى يا اسلمي ثم اسلمي ... بسمسمٍ وعن يمين سمسم
والنحويون ينشدون هذا البيت: [البسيط]
يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والطيبين على سمعان من جار
أراد: يا قوم لعنة الله.
وقوله:
أثني عليك ولو تشاء لقلت لي ... قصرت فالإمساك عني نائل
بالغ أبو الطيب في هذه القصيدة وأكثر من تفضيل الممدوح, ولو أن الموصوف قال لأبي الطيب: قصرت لكان مبطلًا لا محالة. وادعى الشاعر أن إمساك الممدوح عن قوله: قصرت نائل على سبيل المبالغة.
وقوله:
ما نال أهل الجاهلية كلهم ... شعري ولا سمعت بسحري بابل
ذكر أن الجاهلية لم ينالوا مثل شعره, وادعى السحر وأن بابل لم تسمع بمثل سحره. ولما ذكر هاروت وماروت في الكتاب العزيز وذكرت معهما بابل, صارت يضرب بها المثل في السحر. وليس لبابل اشتقاق في العربية لأنها من البيل وهو مهمل.
وأصحاب الكتب القديمة كاليهود ومن ابتعهم يذكرون أن قومًا اجتمعوا البناء صرحٍ يبلغون به إلى السماء؛ فأصبحوا وقد تبلبلت ألسنتهم؛ أي افترقت, وكانوا قبل ذلك يتكلمون بلسانٍ واحد, وأن سبب اختلاف الأسن هو هذا الحديث. والمعقول يشهد بأنه كذب, وبابل ليس من لفظه البلبلة فيشتق منه.
وقوله:
من لي بفهم أهيل عصرٍ يدعي ... أن يحسب الهندي فيهم باقل
تردد في شعر أبي الطيب لفظ التصغير, ولم يكثر ذلك في شعر غيره مثل كثرته في ديوانه. وحديث باقل مشهور ويجب أن يذكر هاهنا. ويقال: إنه اشترى ظبيًا فقيل له: بكم اشتريته, وكان حاملًا للظبي, فبسط يديه للسائل وأخرج لسانه؛ أراد أن يعلمه أنه اشتراه بعشرة دراهم بعدد أنامله وبدرهمٍ دل عليه بإخراج لسانه, وكان يغنيه عن ذلك أن يقول: بأحد عشر درهمًا. وزعموا أن الظبي انفلت منه. وقد عاب بعض الناس أبا الطيب لما جعل باقلًا ينسب إلى حساب الهند؛ لأنه لا يوصف بذلك؛ وإنما يوصف بالعي, وقد ذكرت ذلك الشعراء. وكان حميد الأرقط الراجز معروفًا بهجاء الأضياف, رويت له هذه الأبيات في صفة ضيفٍ: [الطويل]
أتى يخبط الأطناب والليل دامس ... يسائل عن غير الذي هو آمل
فقلت لها قومي إليه فيسري ... طعامًا فإن الضيف لا بد نازل
يقول وقد ألقى المراسي للقرى ... أبن لي ما الحجاج بالناس فاعل
فقلت لعمري ما لهذا طرقتني ... فكل ودع الحجاج ما أنت آكل
أتانا وما داناه سحبان وائلٍ ... بيانًا وعلمًا بالذي هو قائل
فما زال عنه اللقم حتى كأنه ... من العي لما أن تكلم باقل
(161/أ) وقوله:
الطيب أنت إذا أصابك طيبه ... والماء أنت إذا اغتسلت الغاسل
الطيب مبتدأ, وأنت مبتدأ ثانٍ, وطيبه خبر أنت, والتقدير: الطيب أنت طيبه إذا أصابك, والماء معطوف على الطيب, وأنت مبتدأ والغاسل خبر أنت, وهو على تقدير الهاء كأنه قال: والماء أنت الغاسله إذا اغتسلت. والقافية من المتدارك.













مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید