المنشورات

أبعد نأي المليحة البخل ... في البعد ما لا تكلف الإبل

وزنها من أول المنسرح.
يقول: أبعد نأي المليحة بخلها؛ لأنها إذا بخلت وهي الدانية فكأنها بعيدة الدار, وقد بين ذلك بقوله: في البعد ما لا تكلف الإبل؛ أي إن البعد قد يكون بالهجر كما يكون بالفراق.
وقوله:
كأنما قدها إذا انفتلت ... سكران من خمر طرفها ثمل
يجذبها تحت خصرها عجز ... كأنه من فراقها وجل
يقول: ردفها ثقيل فإذا انفتلت اضطرب قدها فكأنه سكران من خمر طرفها, وقد بان الغرض في البيت الثاني لأنه قال: يجذبها عجز, ووصفه بالاضطراب؛ لأن خصرها يضعف عن حمله؛ فكأنه وجل من فراقها فهو يرعد لشدة الوجل.
وقوله:
بصارمي مرتدٍ بمخبرتي ... مجتزيء بالظلام مشتمل
السيف عند العرب رداء وقد مر. قال الشاعر: [المتقارب]
وداهيةٍ جرها جارم ... جعلت رداءك فيها خمارا
أي ضربت به وجه قرنك فجعلته كالخمار له. ويقال: فلان جيد المخبرة إذا كان خبيرًا بالشيء. والاشتمال في هذا البيت هو من شمله الشيء إذا عمه. فأما الشملة فكساء صغير لا يعم الجسد والجمع شمال, قال الراعي النميري: [الوافر]
من يك شاتيًا ويكن أخاه ... أبو الضحاك يتسج الشمالا
وقوله:
في سعة الخافقين مضطرب ... وفي بلادٍ من أختها بدل
الخافقان جانبا الهواء سميا بذلك لأن الريح تخفق فيهما؛ فكل واحد منهما مخفوق فيه, وهو مثل قولهم: ليل نائم؛ أي ينام فيه. وإذا أظهرت النون في قوله: من أختها تبينت الغريزة شيئًا في وزن البيت؛ وهو ساكن في موضع نون من, وثبات هذا الساكن هو الأصل عند الخليل, وعند سعيد بن مسعدة أن سقوطه أصل وأن ثباته فرع.
وإذا ألقيت حركة الهمزة على النون ذهب ما في البيت مما ينكره الطبع, وكانت النون كأنها ساقطة؛ لأنك لو قلت: م أختها بدل؛ فحذفت النون لاستقام الوزن. ونقل حركة الهمزة إلى ما قبلها لغة فصيحة حجازية, وقد رواها روش عن نافعٍ في مواضع كثيرة من الكتاب العزيز.
وقوله:
وفي اعتماد الأمير بدر بن عما ... رٍ عن الشغل بالورى شغل
في هذا البيت حرف ساكن يذهب الخليل إلى أن ثباته هو الأصل, ويزعم سعيد بن مسعدة أن أصله السقوط, وهو الباء من ابن؛ فإذا حذفت كان حذفها أقوم لوزن البيت في الغريزة, ومثل هذا من شعر العرب قوله:
وفتيةٍ كالنجوم نادمتهم ... ما فيهم عاجز ولا وكل
وقولهك
أصبح مالًا كماله لذوي الـ ... حاجة لا يبتدي ولا يسل
خفف همزة يبتدي, وتخفيفها ضرورة عند قوم, وترك الهمز في مثل هذا الموضع عند آخرين قياس مطر. والمعنى: أن هذا الرجل أصبح مالًا للعفاة كما أن ماله لهم, فهم يأخذون ماله متى أرادوه لا يسألونه فيه ولا هو يبتدئهم بالعطاء؛ لأن أمره إليهم, وإذا عرضت لهم حاجة نهض فيها؛ فكأنه مال لهم يصرفونه على ما يريدون.
وقوله:
تعرف في عينه حقائقه ... كأنه بالذكاء مكتحل
يقول: هذا الممدوح إذا نظر الإنسان إلى عينه عرف حقائق أمره؛ فكأن الناظر إليه يستفيد الذكاء من عينه فيعرف خفيات أموره.
وقوله:
أشفق عند اتقاد فكرته ... عليه منها أخاف يشتعل
قد تكرر في شعر أبي الطيب مواضع تحذف فيها أن, ومنها قوله: أخاف يشتعل؛ أي أن يشتعل, وأكثر العرب يفتحون همزة أخاف, و "قيس" إذا كان الفعل الماضي على فعلت كسروا أول المضارع مع الهمزة والنون والتاء, وفتحوها مع الياء. وحكى الفراء أن بعض كلبٍ تكسر في الياء, فقيس تقول: إخاف ونخاف وتخاف ويفتحون يخاف, والكلبيون يكسرون في الحروف الأربعة. وقد قرئ بهذه اللغة في الكتاب العزيز, قرأ يحيى بن وثاب (161/ب): {إن تكونوا تيلمون فإنهم يألمون كما تيلمون} , وكذلك قرأ: {فتمسكم النار} , وإذا جاوز الفعل الأربعة كسروا أول مستقبل إلا في الياء, وقرأ بعضهم: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه}.
وقوله:
يقبلهم وجه كل سابحةٍ ... أربعها قبل طرفها تصل
هذا إسراف في المبالغة يخرج إلى الكذب الذي لا يجوز أن يكون مثله؛ ومع هذا فإن القوائم إذا وصلت قبل الطرف فقد وصف النظر بالضعف.
وقوله:
جرداء ملء الحزام مجفرةٍ ... تكون مثلي عسيبها الخصل
الجرداء: القليلة الشعر القصيرته, وذلك مما توصف به الخيل. ومجفرة: عظيمة الجنبين. والعسيب: أصل الذنب, ويحمد في الفرس قصير العسيب وطول شعر الذنب, فلذلك قال: تكون مثلي عسيبها الخصل؛ أي خصل الشعر. واستعملوا العسيب في الخيل والإبل وربما استعمل في الإنس.
وقوله:
إن أدبرت قلت لا تليل لها ... أو أقبلت قلت مالها كفل
هذا يحمد من صفات الخيل؛ لأن الفرس إذا أقبلت فرئيت مرتفعة العنق فذلك أحمد لها, وإذا ولت حمد كفلها أن يكون مشرفًا. وفي كلام ينسب إلى ابن أقيصر, وكان من أعرف العرب بالخيل, في صفة فرس: «إذا أقبل ربا وإذا أدبر حبى» , أي كأنه ينكب لارتفاع كفله.
وقوله:
سارٍ ولا قفر من مواكبه ... كأنما كل سبسبٍ جبل
يقول: قد ملأ الأرض بجيوشه فكأن السباسب جبال. والموكب: يقال للجماعة الركبان من الثلاثين إلى الأربعين ونحو ذلك, ويدل قول القطامي: [الطويل]
وقمت إلى مهريةٍ قد تعودت ... يداها ورجلاها خبيب المواكب
على أن الموكب يستعمل في ركبان الإبل. وزعم بعضهم أن الوكب كثرة الوسخ, ويجوز أن يكون الموكب من هذا؛ لأنه يثير الغبار فيؤدي ذلك إلى وسخ الجسد واللباس.
وقوله:
يا بدر يا بحر يا غمامة يا ... ليث الشرى يا حمام يا رجل
كان بعض أهل الأدب ينكر قوله: يا رجل في هذا البيت ويستضعفه, وليس كما زعم, وإنما وصف الشاعر أنه بدر وبحر وغمامة وليث شرى وجعله حمامًا, وهو مع ذلك كله, وهذه الخلائق المجتمعة فيه, رجل واحد. وكثير من العرب يخفف جيم الرجل فيقال: فلان نعم الرجل, وهذا قياس مطرد فيما ثانيه مضموم أو مكسور, قال الراجز: [الرجز]
رجلان من ضبة أخبرانا ... أنا رأينا رجلًا عريانا
وقوله:
قلوبهم في مضاء ما امتشقوا ... قاماتهم في تمام ما اعتقلوا
يقال: امتشق السيف إذا استله بسرعةٍ, والمشق: الطعن السريع, قال ذو الرمة: [البسيط]
فكر يطعن مشقًا في جواشنها ... كأنه الأجر في الأقتال يحتسب
ويروى: في الإقبال. وشبه قاماتهم بالرماح؛ لأن العرب تصف بالطول وتذم القصر, قال الشاعر: [الطويل]
تبين لي أن القماءة ذلة ... وأن أشداء الرجال طوالها
ويروى طيالها. وقال آخر: [المتقارب]
نشدتك بالله هل تعلميـ ... ـن أني طويل وأني حسن
وقال آخر في ذم القصر: [الوافر]
كأنهم كلى بقر الأضاحي ... إذا قاموا حسبتهم قعودا
وقوله:
أنت نقيض اسمه إذا اختلفت ... قواضب الهند والقنا الذبل
أنت لعمري البدر المنير ... ولكنك في حومة الوغى زحل
كأن البدر من شأنه أن يوصف بالنور ويهتدي به الناس في الأسفار؛ فزعم أن هذا الرجل في الحرب يصير نقيض اسمه؛ لأنه يقتل الناس ويثير الغبار بالخيل, فتظلم عليهم الأرض, ويكون فعله في الحرب نقيض فعل البدر في الظلم. ثم ذكر في البيت أنه البدر المنير, ولكنه زحل في موقف الحرب؛ لأنه زحل يزعم المنجمون أنه في صورة الأسود وهو بطيء السير؛ فكأن هذا الرجل الذي هو كالبدر المنير في الحرب زحل؛ لأنه لا يسير سيرًا سريعًا (162/أ) إذ كان القمر يوصف بسرعة السير. وهو كوكب نحسٍ يكثر الهلكة, وبعض الناس يذهب إلى أن زحل ملك الموت. وزحل مثل عمر لا ينصرف إلا عند ضرورة وقد مر ذكره.
وقوله:
قصدت من شرفها ومغربها ... حتى اشتكتك الركاب والسبل
في هذا البيت مبالغتان:
أحداهما: يجوز أن يكون مثلها, وهي ادعاؤه أن الركاب تشتكي الممدوح من كثرة ما تركب إليه؛ فهذا يجوز مثله؛ لأنها إذا صارت أنضاءً وأخذ منها السير فكأنها تشتكيه.
والأخرى: ادعاؤه أن السبل تشتكيه, أي الطرق, فهذا لا يمكن أن يكون.
وقوله:
لم تبق إلا قليل عافيةٍ ... قد وفدت تجتديكها العلل
عذر الملومين فيك أنهما ... آسٍ جبان ومبضع بطل
يقول: وهبت مالك وغيره حتى كأنك وهبت أكثر صحتك, فلم يبق إلا عافية قليلة, قد وردت تسألك أن تهبها لعل العلل. وقول الناس العافية من قولهم: عفا الشيء, إذا كثر, كأن الجسم يكثر بها, وتحسن حاله, ويجوز أن تكون من قولهم: أعطاه عطاءً عفوًا أي سهلًا؛ أي عيشها عيش سهل؛ فيكون المعنى أن هذه الحالة يسهل العيش فيها.
وكان بدر بن عمار احتاج إلى الفصد فأحضر آسيًا, أي طبيبًا, فلحق الطبيب جبن لهيبته الممدوح فغرق المبضع في اللحم؛ فأدى ذلك إلى شكاة بدر بن عمار. واعتذر أبو الطيب للآسي والمبضع؛ فذكر أن الآسي جبن لفرط الهيبة, وأن المبضع لما عجز الطبيب عن تدبيره كان كالبطل؛ أي الشجاع فوصل إلى موضعٍ لا يجب أن يصل إليه. والمبضع مأخوذ من قولك: بضع الشيء إذا شقه, ويجوز أن يكون مبضع الفصاد سمي مبضعًا لأنه يدخل في بضيع الإنسان أي لحمه.
وقوله:
خامره إذ مددتها جزع ... كأنه من حذاقةٍ عجل
خامره أي خالطه, وأصل الخمر في اللغة تغطية الشيء, ويقال للذي يساتر وينافق: مخامر؛ كأنه يساتر صاحبه. وقيل: خامره أي خالطه؛ لأن كل واحد من الخليطين يستتر بالآخر.
وقوله:
أبلغ ما يطلب النجاح به الطبع وعند التعمق الزلل
أصل التعمق من قولهم: بئر عميقة أي بعيدة القعر, وهي بينة العمق والعمق. وقيل: تعمق في الشيء إذا بالغ في طلبه؛ كأنه من اجتهاده نزل في بئرٍ عميقة.
وقافية هذه القصيدة من المتراكب.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید