المنشورات

أحيا وأيسر ما قاسيت ما قتلا ... والبين جار على ضعفي وما عدلا

الوزن من أول البسيط.
أحيا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الشاعر أخبر عن نفسه فقال: أحيا أي أعيش وأيسر ما قاسيت ما قتل. والآخر: أن يكون أحيا في معنى أفعل الذي يراد به التفضيل؛ أي أشد ما يكون في إحياء الإنسان, وأيسر ما لاقيت شيء قاتل؛ فكأن الكلام على التقديم والتأخير, كأنه قال: ما قتل أي الشيء الذي يقتل أحيا وأيسر ما ألقاه. وإذا حمل على هذا الوجه فقد حذف المضاف إليه في قوله: أحيا؛ لأنه أراد أحيا ما لاقيت, وإنما يستعمل ذلك في الشعر, ولو قلت في الكلام المنثور: أكرم وأفضل الناس زيد, تريد: أكرم الناس زيد وأفضلهم, لقبح ذلك, وفيه شبه من قول الفرزدق: [المنسرح]
يا من رأى عارضًا أرقت له ز .. بين ذراعي وجبهة الأسد
أراد بين ذراعي الأسد وجبهته.
وقوله:
إلا يشب فلقد شابت له كبد ... شيبًا إذا خضبته سلوة نصلا
ادعى أن كبده قد شابت لأن عادتها ألا تبيض؛ وإنما جرت العادة أن يصفوا الرأس بالشيب, وكذلك يستعيرونه للفؤاد, وإنما استحسنوا ذلك لأنهم يقولون: سواد القلب وسويداؤه وسوداؤه؛ فلما وصفوه بالسواد كما يصفون الشباب وصفوه بالمشيب, قال الطائي: [الخفيف]
شاب رأسي وما رأيت مشيب الر ... رأس إلا من فضل شيب الفؤاد
وقال الشاعر: [الكامل]
نبئت سوداء القلوب مريضةً ... فأقبلت من ضر إليها أعودها
يريد بسوداء القلب (170/ب) امرأةً يشبهها بسواد القلب. وإذا وصفوا العدو بشدة العداوة قالوا: هو أسود الكبد, قال الشاعر: [البسيط]
لقد طرقت سليمى في منازلها ... وكم عدو لديها أسود الكبد
فلما وصفت الكبد بالسواد لم يبعد أن يدعى لها الشيب.
وقوله:
قيل بمنبج مثواه ونائله ... في الأفق يسأل عن من غيره سألا
منبج إن كان اسمًا عربيًا فهو مأخوذ من قولهم: نبج إذا رفع صوته. ويوم النباج يوم من أيام العرب, ويقال: إن النباج مواضع مرتفعة. والقيل: ملك دون الملك الأعظم. وقوله: يسأل عن من غيره سألا؛ كأنه يسأل عنه ليغنيه عن سؤال غيره, أو ليعاتبه إذا لم يسأل هذا الممدوح.
وقوله:
ترابه في كلابٍ كحل أعينها ... وسيفه في جنابٍ يسبق العذلا
كلاب بن ربيعة من بني عامر بن صعصعة, وهم من قيس عيلان. وبنو جنابٍ من كلب ابنوبرة ومرجعهم إلى قضاعة.
ويقال: «سبق السيف العذل» يضرب ذلك مثلًا للأمر إذا فات. ويزعمون أن أصل ذلك أن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر كان له ولدان يقال لهما: سعد وسعيد؛ فأما سعد فإليه انتهى نسب ضبة, وأما سعيد فسافر ولم يعد. وعمر ضبة إلى أن كبر فكان كلما رأى شخصًا مقبلًا قال: أسعد أم سعيد؛ فصار ذلك مثلًا للخير والشر؛ لأن سعيدًا سافر ولم يعد, وسعدًا أعقب وكثر ولده وكان فيهم سادة.
ويقال: إن ضبة بن أد حج فصحب رجلًا في الطريق, وهو - فيما زعموا - الحارث بن كعب, فتحدثا وهما سائران, فمرا بموضع, فقال الحارث بن كعب: لقيت في هذا الموضع غلامًا فقتلته وأخذت سيفه, وهذا هو معي, فقال له ضبة: أرنيه؛ فلما أراه إياه عرفه وقال: الحديث ذو شجون وضرب بالسيف الحارث فقتله, فقيل له: أقتلت رجلًا في الحرم؟ فقال: سبق السيف العذل فصارت مثلًا.
وقد روى النسابون ما هو لهذا نقيض والله العالم بيقين الأمور.
وقوله:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم ... إذا رأى غير شيءٍ ظنه رجلا
قد طافت الشعراء حول هذا المعنى إلا أنهم جعلوا المرئي شيئًا, قال الشاعر: [الكامل]
مازلت تحسب كل شيءٍ بعدهم ... خيلًا تكر عليهم ورجالا
وقال آخر: [الطويل]
ولو أنها عصفورة لحسبتها ... مسومةً تدعو عبيدًا وأزنما
فجعل أبو الطيب خيال الشيء شيئًا.
وقوله:
كم مهمهٍ قذفٍ قلب الدليل به ... قلب المحب قضاني بعدما مطلا
يقول: كم مهمهٍ بعيدٍ لا يأمن السائر فيه؛ فقلب دليل القوم يخفق مثل قلب المحب. قضاني فيه ضمير عائد إلى المهمه. يقول: هذا المهمه قضاني ما وعدني بعد أن مطل لبعده.
وقوله:
عقدت بالنجم طرفي في مفاوزه ... وحر وجهي بحر الشمس إذ أفلا
يريد: أنه لم يزل ينظر إلى النجم حتى كأنه قد عقد طرفه به, وقال قال ابن المعتز: [الكامل]
فعقدت ناظره مع النجم
يقول: عقدت حر وجهي بحر الشمس إذ أفل النجم؛ يريد: أنه سرى ليلًا وسار نهارًا حتى بلغ ما يريد.
وقوله:
أنكحت صم حصاها خف يعملةٍ ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
الهاء في حصاها عائدة إلى المفاوز. وقوله: أنكحت صم حصاها خف يعملةٍ, من قوله في الأخرى:
أنساعها ممغوطة وخفافها ... منكوحة وطريقها عذراء
وتغشمرت الناقة وغيرها إذا ركبت رأسها في السير. واليعملة: الناقة التي تعمل في السير, وقلما يخرجون هذا اللفظ عن التأنيث, وقد جاء في بعض الشعر: يعمل في صفة الظليم؛ يريدون أنه يعمل نفسه في البيداء.
وقوله:
لو كنت حشو قميصي فوق نمرقها ... سمعت للجن في غيطانها زجلا
(171/أ) النمرق: الوسادة. يقال: نمرقة ونمرقة. والغيطان: جمع غائط وهو المطمئن من الأرض. وقافيتها من المتراكب.











مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید