المنشورات

وفاؤكما كالربع أشجاه طاسمه ... بأن تسعدا والدمع أشفاه ساجمه

وزنها من ثاني الطويل.
يقال: طسم الربع وطمس إذا درس. وقوله: بأن تسعدا متعلق بقوله: وفاؤكما؛ إلا أنه فصل بينه وبين الكلام الأول بقوله: كالربع أشجاه طاسمه. وينبغي أن يكون أضمر قوله: وفاؤكما بعد تمام النصف الأول ليكون الموصول متعلقًا بالصلة. وذكر أبو الفتح ابن جني رحمه الله أنه ذكر لأبي الطيب هذا الفصل بين وفاؤكما وبين الباء فأنشده قول الأعشي: [الكامل]
لسنا كمن جعلت إيادٍ دارها ... تكريت تمنع حبها أن يحصدا
أراد: كمن جعلت تكريت دارها, وقدم إيادًا فوضعها في غير موضعها, وهم يقدمون ويؤخرون إذا كان المعنى مفهومًا عند السامع. وأنشد أبو عبيدة: [الطويل]
أتجزع أن نفسًا أتاها حمامها ... فهلا التي عن بين جنبيك تدفع
أراد: فهلا تدفع عن التي بين جنبيك. وقوله: والدمع أشفاه ساجمه: الشعراء وغيرهم يقولون: إن البكاء يجلو بعض الهم عن المكروب والمحزون. قال الفرزدق: [الطويل]
ألم تر أني يوم جو سويقةٍ ... بكيت فنادتني هنيدة ماليا
فقلت لها إن البكاء لراحة ... به يشتفي من ظن ألا تلاقيا
وقال ذو الرمة: [الطويل]
لعل انحدار الدمع يعقب راحةً ... من الوجد أو يشفي نجي البلابل
وفي حكاية معناها أن بعض المتقدمين قال: ما أصابني هم قط إلا خلوت بنفسي فبكيت فاسترحت.
وشبه وفاء صاحبيه بالربع أشجى ما يكون إذا درس, وكأنه لامهما على أنهما لم يسعداه. وبعض الناس يذهب إلى أنه أراد بقوله: وفاؤكما مخاطبةً لعينيه, وكلامه يدل على غير ذلك, والمراد أنه بكى ولم يبك صاحباه, ولو بكيا معه لكان ذلك زائدًا في بكائه.
وأشجاه هاهنا اسم فيه معنى التفضيل كقولك: هذا الربع أشجى من غيره.
وقوله:
وما أنا إلا عاشق, كل عاشقٍ ... أعق خليله الصفيين لائمه
تم الكلام عند قوله: وما أنا إلا عاشق, ولو استقام له إدخال الواو على قوله: كل عاشق لكان ذلك أبين؛ لأن السامع ربما ظن أن قوله: كل عاشق متعلق بعاشقٍ الأول. وإنما يقولون: فلان كريم كل الكريم؛ فيجيئون بالألف واللام ولا يحذفونهما في هذا الموضع؛ لأن القائل إذا قال: ما فلان إلا كريم كل كريم جاز أن يكون قوله: كل كريم ابتداء كلام ثانٍ, فأراد بيان ذلك بدخول الألف واللام. وقوله: أعق خليله دليل على أنه أراد الصاحبين لا العينين.
وأعقهما: أي أشدهما عقوقًا.
وقوله:
وقد يتزيا بالهوى غير أهله ... ويستصحب الإنسان من لا يلائمه
يقال: تزيا فلان بكذا, وهو مأخوذ من الزي وهو حسن اللباس. قال الراجز: [الرجز]
ما أنا في البصرة بالبصري ... ولا شبيه زيهم بزيي
وكان أبو الفتح بن جني رحمه الله يومئ إلى أن القياس يوجب: يتزوا لأنه يأخذ الزي من زويت الشيء إذا أملته إلى نفسك أو إلى غيرك. وزوى الرجل ما بين عينيه إذا أمال بعضه إلى بعض. والعرب إذا أظهرت التاء في كلمةٍ وأصلها من ذوات الواو, فربما جاؤوا بالياء لأنهم يستأنسون باللفظ المسموع كما قالو: تديرت المكان حملوه على لفظ الدار, وأصل الدار الواو لأنهم يقولون في جمع الدار: أدور. ولما قالوا: الزي فجاؤوا بياء مشددةٍ - وقالوا: زوى وجهه عني زيًا إذا قبضه آثروا - (181/أ) أن يقولوا: تزيا بكذا. وأنشد ابن الأعرابي: [المتقارب]
أتيت خثيمًا ولم آته ... أريد نداه ولا طالبا
فلما رآني زوى وجهه ... ونكت عن حاجبٍ حاجبا
فلا برح الزي من وجهه ... ولا زال رائده جادبا
وقوله:
بليت بلى الأطلال إن لم أقف بها ... وقوف شحيحٍ ضاع في الترب خاتمه
بليت معناه الدعاء, يقول: إن لم أقف بهذه الأطلال فبليت بلاءها. ووصف نفسه بطول الوقوف, وشبه وقوفها بوقوف شحيح ضاع خاتمه فهو يطلبه وينظر إلى الأرض لعله يظهر له, وقد جاء نحو من هذا في وصف الإبل. قال الراجز: [الرجز]
إذا قطعن علمًا بدا علم ... يبحثن بحثًا كمضلات الخدم
حتى توافين بنا إلى حكم الخدم: الخلاخيل. ولا يجوز إلا كسر التاء في قوله: خاتمه إذا كان في القافية, لأنه إن فتح التاء صار في القصيدة عيب وهو السناد, وكان أبو الطيب يختار فتح التاء في قوله:
وأنكر خاتماي الخنصرا
وقوله:
كئيبًا توقاني العواذل في الهوى ... كما يتوقى ريض الخيل حازمه
نصب كئيبًا على الحال كأنه قال: إن لم أقف كئيبًا. وريض الخيل هو الذي لم تكمل رياضته, وهم يذكرون الريض في الأضداد, وكأن الريض الذي قد ريض فهو غني عن الرياضة, ويقال: ريض للذي هو محتاج إليها. قال الراعي: [الكامل]
وكان ريضها إذا ياسرتها ... كانت معاودة الرحيل ذلولا
فأما قول الآخر: [الطويل]
وجدت أباها رائضيها وأمها ... فأعطيت فيها الحكم حتى حويتها
فإنه وصف هذه الناقة بأنها ذلول من نوقٍ ذللٍ وكأنها ورثت ذلك عن أبيها وأمها فلم تحتج إلى رائض يروضها. والمعنى: أني توقاني العواذل كما يتوقى ريض الخيل - أي الذي لم تكمل رياضته - من يريد أن يشد حزامه لأنه لا يأمن منه أن يضربه بيدٍ أو برجل].
وقوله:
قفي تغرم الأولى من اللحظ مهجتي ... بثانيةٍ والمتلف الشيء غارمه
الأولى رفع بفعلها. ومهجتي نصب لأن الغرامة واقعة عليها. والمراد: قفي يا محبوبة لتغرم اللحظة الأولى الذي لحظتك مهجتي؛ أي خالص نفسي؛ أي تغرمها بلحظةٍ ثانيةٍ, وذلك أنه أراد أن اللحظة الأولى أتلفت مهجته فوجب عليها الغرم, فإن لحظ ثانيةً - حيي من الحياة - فتكون اللحظة الأولى قد غرمت المهجة باللحظة الثانية, ثم ذكر الحجة الموجبةً له أن يطالب بالوقفة, فقال: والمتلف الشيء غارمه, وهي حكومة بحق.
وقوله:
سقاك وحيانا بك الله إنمنا ... على العيس نور والخدور كمائمه
دعا لها بالسقيا, ثم دعا لنفسه بأن تكون تحيةً له بعد سقياها, وجعل اللواتي في الخدور كالنور. والخدور مثل كمائم الزهر واحدتها كمامة, وهي التي تكون فيها لزهرة قبل أن تتفتح.
وقوله:
وما حاجة الأظعان حولك في الدجى ... إلى قمرٍ ما واجد لك عادمه
ما في أول البيت في معنى: أي شيء يحوج الأظعان اللواتي حولك إلى قمر ليس الذي يجدك بعادم له؛ أي إنك قد قمت مقامه في الضياء.
وقوله:
إذا ظفرت منك العيون بنظرةٍ ... أثاب بها معيي المطي ورازمه
الرازم من الإبل الذي إذا سقط إلى الأرض لم يقدر على القيام؛ فأما قول الراجز: [الرجز]
أيا بني عبد مناة الرزام ... أنتم حماة وأبوكم حام
لا تسلموني لا يحل إسلام
فرزام هاهنا: جمع رازم من قولهم: أسد رازم إذا جثم على الفريسة. وأثاب في معنى أعطى ثوابًا. يقول: إذا نظرت إليك الإبل المعيية جعلت ثواب ذلك أن تنهض وتسير. وقد فسر بعض الناس أثاب هاهنا بمعنى ثاب؛ أي رجعت إليه قوته؛ ولكن المعروف في هذا: ثاب بغير همزة لأنهم يقولون: ثاب الماء إلى البئر أي رجع, وثاب الرجل إلى قومه (181/ب) إذا رجع إليهم, وقلما يقولون أثاب في هذا المعنى.
وقوله:
تحول رماح الخط دون سبائه ... وتسبى له من كل حي كرائمه
يقول: هذا الحبيب عزيز لا تصل رماح الخط إلى سبائه, وتسبى له الكرائم من الأحياء فتكون له خدمًا.
وقوله:
ويضحي غبار الخيل أدنى ستوره ... وآخرها نشر الكباء الملازمه
يقول: غبار الخيل أدنى ستوره إلينا لأن بيننا وبينه ستورًا كثيرة, أقربها إلينا الغبار, وآخرها - وهو أقربها إليه - نشر الكباء أي رائحته. والكباء: العود الذي يتبخر به. والملازمه: نعت لنشر.
وقوله:
وما استغربت عيني فراقًا رأيته ... ولا علمتني غير ما القلب عالمه
أراد أنه عالم بالأشياء مجرب فما يستغرب شيئًا يشاهده. وهذه دعوى غير صحيحة ولكنها تستحسن فيما عند الشعراء.
وقوله:
فلا يتهمني الكاشحون فإنني ... رعيت الردى حتى حلت لي علاقمه
يقول: لا يتهمني الأعداء فيما أقول, ويظنون أني أتزيد, فإن رعيت الردى؛ أي جعلته لي مرعى؛ حتى استحليت علقمه؛ أي ألفته فكأنه ليس بمر.
وقوله:
مشب الذي يبكي الشباب مشيبه ... فكيف توقيه وبانيه هادمه
يقول: الذي أشب من يبكي الشباب؛ أي الذي جعله شابًا؛ هو الذي يشيبه فكيف توقيه, والذي بناه هو الذي هدمه. والهاء في توقيه راجعة إلى الذي يبكي الشباب, والهاء في بانيه كذلك. ويجوز أن تكون راجعةً إلى الشباب نفسه, وحال الهاء في قوله: هادمه كحالها في بانيه.
وقوله:
وتكملة العيش الصبى وعقيبه ... وغائب لون العارضين وقادمه
جعل العيش أربعة أقسام: الصبى وما يعقبه من الزمان الذي هو قريب منه. وغائب لون العارضين يجوز أن يعني سوادهما مرةً وبياضهما أخرى, وكذلك القادم من لونهما يحتمل وجهين: أن الغائب والقادم كلاهما غاب, وكلاهما قدم؛ ألا ترى أن لون الشعر الذي ينبت في وجه الأمرد يكون غائبًا عنه دهرًا ثم يقدم بعد ذلك. والبياض جار مجرى السواد لأن المشيب يقدم بعد غيبةٍ.
وقوله:
وما خضب الناس البياض لأنه ... قبيح ولكن أحسن الشعر فاحمه
ذكر في هذا البيت أن الشيب لم يخضب لأنه قبيح, ولكن سواد الشعر أحسن. والشيب الذي أوجب الخضاب أن الإنسان إذا شاب علم أنه طاعن في السن فزهد فيه, لأن الشيب يطمع الشاب في الشيخ. وجاء في بعض الحديث: «عليكم بالخضاب فإنه زينة لنسائكم وهيبة لعدوكم»؛ أي يظنون أنكم شباب. والخضاب قديم.
وسئل بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان يخضب؟ فقال: لم يكن به من الشيب ما يخضب. وروي أن عليًا عليه السلام خضب مرة ثم لم يعد إلى ذلك. وفي حديث يحكى عن عبيد الله بن الحر الجعفي أنه دخل على الحسين عليه السلام فرأى لحيته كأنها جناح غرابٍ فقال: أشباب ما أرى يا ابن بنت رسول الله, فقال: يابن الحر عجل علي الشيب. قال ابن الحر: فعلمت أنه خضاب. ويقال إن عبد المطلب بن هاشم نزل ببعض الملوك وهو أشيب فأمر الملك بخضابه, فقال عبد المطلب بن هاشم: [الكامل]
لو دام لي هذا الشباب رضيته ... وكان بديلًا من شبابٍ قد انصرم
أنست إليه والحياة حبيبة ... فلابد من موتٍ, نتيلة, أو هرم
نتيلة: امرأة من النمر بن قاسط كانت عند عبد المطلب فولدت له العباس وضرارًا, وإياها عنى البحتري بقول: [الكامل]
نمرية ولدت لكم أسد الشرى ... والنمر - بعد - ووائل أخوان
وقوله (182/أ):
وأحسن من ماء الشبيبة كله ... حيا بارقٍ في فازةٍ أنا شائمه
الفازة: الخيمة, والحياء: المطر العام, وكأنه جعل سيف الدولة حيا بارقٍ.
وقوله:
عليها رياض لم تحكها سحابة ... وأغصان دوحٍ لم تغن حمائمه
يريد أن في الخيمة تصاوير وفيها رياض لم ينسجها السحاب, وإنما صنعها الآدميون, وقد صورت فيها أغصان دوحٍ. والدوح شجر عظام, ومن شأن الأغصان أن يغني بها الحمام. وهذا الدوح لم تغن حمائمه لأنها لا يمكنها أن تقف عليه إذ كان ليس بدوحٍ في الحقيقة. يقال: استداحت الشجرة الصغيرة إذا عظمت. قال الشاعر: [الطويل]
عريفجة الحسل استداحت بأرضنا ... فيا لعباد الله للأشر المردي
هذا مثل قولهم: «إن البغاث بأرضنا يستنسر»؛ أي إن الحقير عندنا يتعظم. والبغاث: ما لا يصيد من الطير.
وقوله:
ترى حيوان البر مصطلحًا بها ... يحارب ضد ضده ويسالمه
يقول: هذه الخيمة قد اصطلح في تصاويرها حيوان البر, فكأن بعضه لا يريب بعضًا, فالأسد لا يروع الشاة ولا غيرها من الفرائس. والنصف الثاني من البيت شرح للأول لأنه قال: يحارب ضد ضده, وهذه صفة حيوان البر, ثم قال: ويسالمه؛ أي هذا الحيوان الذي في الخيمة يسالم بعضه بعضًا لا يروعه.
وقوله:
إذا ضربته الريح ماج كأنه ... تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
يقول: إذا ضربت هذا الحيوان الريح ماج فكأنه تجول مذاكيه أي خيله المسان. وتدأى ضراغمه أي تختل. أداه ودآه إذا ختله, فمضارع أدا: يأدو, ومضارع دأى: يدأى, ومن أمثالهم: «الذئب يأدو للغزال يختله» , وبعض الناس يروي: يذأى بالذال معجمة, يأخذه من: ذأى الفرس إذا عدا, والوجه الأول هو الصواب.
وقوله:
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة ... لأبلج لا تيجان إلا عمائمه
كان ملك الروم مصورًا في الخيمة وقد صور معه سيف الدولة, وقد اعتمد المصور أن يذلل الرومي لصورة سيف الدولة. ومن كلامهم القديم: «العمائم تيجان العرب والسيوف أرديتها والحبى جدرانها».
وقوله:
تقبل أفواه الملوك بساطه ... ويكبر عنها كمه وبراجمه
البراجم: عقد الأصابع الأواخر وهي التي تليها الأشاجع, وقيل: هي عروق ظاهر الكف, وقيل: بل هي عظامها, ويقال: إن البرجمة غلظ الكلام. والبراجم أحياء من تميم, ومن أمثالهم: «إن الشقي وافد البراجم»؛ وذلك أن عمرو بن هند اللخمي لما قتل أخوه أسعد, وكان مسترضعًا في بني دارم, آلى أن يقتل منهم مئةً؛ فلما قتلهم يوم أوارة بقي واحد لم يقتله ولم يجد دارميًا يتم به المئة. واجتاز بهم رجل من البراجم فاشتم رائحة القتار فظن أن ثم طعامًا فجاء يلتمس ذلك, فلما جاء سئل عن نسبه فذكر أنه من البراجم؛ وهم من تميم؛ فيقال: إن عمرو بن هند, أو غيره قال: إن الشقي وافد البراجم وأمر بطرحه في النار.
وقوله:
قيامًا لمن يشفي من الداء كيه ... ومن بين أذني كل قرمٍ مواسمه
قيامًا نصب على الحال من الملوك. وقوله: يشفي من الداء كيه مثلًا لما يعلم من الأمور وليس ثم كي. يريد أنه إذا خرج خارجي أو اختلت ناحية من الأرض أزال ما بها؛ إما بالسيف وإما بالرأي. وقد استعملت العرب ذلك في القديم وكنوا بالكي عن الأمر العظيم, ولا كي هنالك. قال جرير: [الوافر]
وأشفي من تخلج كل جن ... وأكوي الناظرين من الخنان
وقال آخر: [الكامل]
أرجأته عني فأبصر قصده ... وكويته فوق النواظر من عل
والقرم: أصله الفحل من الإبل ثم استعمل للإنس. والمواسم: جمع ميسم وهو الذي يوسم به (182/ب) النعم. قال المتلمس: [الطويل]
ولو غير إخواني أرادوا نقيصتي ... جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وقوله:
قبائعها تحت المرافق هيبةً ... وأنفذ مما في الجفون عزائمه
أراد بالقبائع: قبائع السيوف, وحذف المضاف إليه لأنه أراد قبائع سيوف الملوك.
وقوله:
له عسكرًا خيلٍ وطيرٍ إذا رمى ... به عسكرا لم تبق إلا جماجمه
هذا المعنى قد استوفاه النابغة في مدحه غسان وقد مر ذكره. يقول: لهذا الممدوح عسكرًا خيلٍ وطيرٍ؛ أي تتبع عسكره الطير لتأكل من القتلى, وهي تأكل اللحم وتدع الجماجم لأنها عظام.
وقوله:
أجلتها من كل طاغٍ ثيابه ... وموطئها من كل باغٍ ملاغمه
يقول: ثياب أعدائه تصير أجلةً لخيله وموطئها من الطغاة ملاغمهم. والملاغم ما حول الفم والأنف. يقال: تلغم فلان بالطيب إذا وضعه في ذلك الموضع. قال أبو حية النميري: [الطويل]
ولكنه والله ما طل مسلمًا ... كغر الثنايا واضحات الملاغم
وقوله:
فقد مل ضوء الصبح مما تغيره ... ومل سواد الليل مما تزاحمه
أراد: تغير فيه. وأكثر ما تكون الغارة في الصبح؛ ولذلك قالوا في كلامهم: يا صباحاه, لأن الغارة تجيئهم في ذلك الوقت, فإن استعاروا الغارة لليل فإنما ذلك نادر, وإنما قيل لها غارة من قولهم: أغار إذا عدا عدوًا شديدًا. قال عبيد الله بن قيس الرقيات في صفة الخيل: [الخفيف]
بدلت بالشعير والقت والمـ ... ـحض ومسح الغلام تحت الجلال
غارة الليل والنهار فما تصـ ... ـبح إلا معدةً للقتال
وقوله:
ومل القنا مما تدق صدوره ... ومل حديد الهند مما تلاطمه
هذه كلها استعارات تستحسن في الشعر ولا حقيقة لها في الأصل, لأن الصبح لا يمل الغارة والليل لا يمل سراها فيه, ولا حس للرماح فتمل حطمها في الطعان, وحديد الهند غير عالمٍ بالضراب.
وقوله:
سحاب من العقبان يزحف تحتها ... سحاب إذا استسقت سقتها صوارمه
شبه العقبان بسحابٍ يظل العسكر. ويزحف تحتها سحاب يعني سيف الدولة. إذا استسقت يعني العقبان؛ وإنما يعني استسقاء الدم. سقتها صوارمه؛ أي يقتل بها الأعداء فتشرب دماءها العقبان.
وقوله:
سلكت صروف الدهر حتى لقيته ... على ظهر عزمٍ مؤيداتٍ قوائمه
مؤيداتٍ في معنى مؤيداتٍ أي قويات. والأيد: القوة, وكأنهم قالوا: آد الرجل إذا قوي؛ فلما عدوه بالهمزة - كما قالوا: قام وأقمته - اجتمعت همزتان فرأوا تصحيح الياء أخف من الإتيان بالهمزتين, وقرأ بعضهم: {وأيدناه بروح القدس} ولذلك قالوا: فلان مؤيد؛ أي قوي. قال المثقب العبدي: [السريع]
ينبي تجاليدي وأقتادها ... ناوٍ كرأس الفدن المؤيد
وقوله:
مهالك لم تصحب بها الذئب نفسه ... ولا حملت فيها الغراب قوادمه
البيت يحتمل وجهين:
أحدهما: أن الذئب إذا سلك بها فارقته نفسه, وكذلك الغراب إذا طار فيها لم تحمله قوادمه فيهلك.
والآخر: أن يكون الذئب لا يقدر أن يصل إليها فهو لم يسلكها قط, وكذلك الغراب لم يطر في هذه الأرض فتخونه القوادم, وهذا كقول الأفوه: [السريع]
لا يذعر البهمة سرحانها ... ولا رواياها حياض الأنيس
أي ليس فيها بهمة يذعرها السرحان.
وقوله:
فأبصرت بدرًا لا يرى البدر مثله ... وخاطبت بحرًا لا يرى العبر عائمه
أي إذا طلع القمر المبدر لم يكن تحته مثل هذا الممدوح, واستعار الرؤية للقمر, ولو رويت: لا يرى البدر مثله على أن يجعل مثله فاعله لكان المعنى صحيحًا. والعبر: شاطئ البحر الذي يعبر إليه, وكذلك شاطئ النهر, والعائم: السابح.
وقوله (183/أ):
غضبت له لما رأيت صفاته ... بلا واصفٍ والشعر تهذي طماطمه
الطماطم: جمع طمطم وهو الذي لا يفهم كلامه. قال عنترة: [الكامل]
تأوي له حزق النعام كما أوت ... حزق يمانية لأعجم طمطم
يقول: غضبت للممدوح لما رأيت الشعراء مقصرين في المدح فجئت ليعلم مكاني في المديح.
وقوله:
على عاتق الملك الأغر نجاده ... وفي يد جبار السماوات قائمه
العاتق: موضع النجاد على كتف الرجل. قال دريد بن الصمة: [الوافر]
أعاذل إنما أفنى شبابي ... ركوبي في الصريخ إلى المنادي
مع الفتيان حتى سل جسمي ... وأقرح عاتقي حمل النجاد
والعاتق: يذكر ويؤنث, والتذكير أغلب عليه. قال الشاعر: [السريع]
لا صلح بيني فاعلموه ولا ... بينكم ما حملت عاتقي
سيفي وما دمنا بنجدٍ وما ... قرقر قمر الواد بالشاهق
ويروى: الملك الأغر بفتح الميم وضمها, فإذا فتحت الميم فالمراد الخليفة صاحب الملك, وإذا ضمت فالمراد المملكة, والمعنيان متقاربان.
وقوله:
ويستكبرون الدهر والدهر دونه ... ويستعظمون الموت والموت خادمه
هذه مبالغة لا يجوز أن يكون من يقولها صادقًا, لأنه ادعى له أنه أكبر من الدهر, وزعم أن الموت خادمه؛ والموت إنما هو خادم لرب العالم تباركت عزته, ولو كان الموت خادمه كما ذكر لامتنع من أن يموت.
وقوله:
وإن الذي سمى عليًا لمنصف ... وإن الذي سماه سيفًا لظالمه
وما كل سيفٍ يقطع الهام حده ... وتقطع لزبات الزمان مكارمه
رضي له أن يكون اسمه عليًا لأنه من العلو مشتق. وقد وصف الله سبحانه وبهذا الوصف. وذكر أن من سماه سيفًا ظالم له لأنه إنسي يقدر على أشياء لا يقدر عليها الحديد وما جرى مجراه؛ إذ كانت الجوامد لا توصف بحس ولا معقولٍ؛ وإنما هي شخوص مرئية ليس عندها نطق ولا سواه. واللزبات: جمع لزبة وهي الشدة التي تدوم, وسكن الزاي من اللزبات والفتح أجود, وقد مضت أشباه لذلك. وقافيتها من المتدارك.









مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید