المنشورات

أما في هذه الدنيا كريم ... تزول به عن القلب الهموم

سأل: هل يوجد كريم في الأرض تزول به هموم القلب؟ وهذا استفهام قد صح مع المستفهم؛ لأنه لا يجاب عنه مما هو له مرض؛ لأن البلاد خلت من الأكرمين. ثم استفهم سائلًا عن مكانٍ يكون أهله لجارهم سارين, فقال:
أما في هذه الدنيا مكان ... يسر بأهله الجار المقيم
وقوله:
تشابت البهائم والعبدى ... علينا والموالي والصميم
يقول: تشابهت العبيد والبهائم, وإن كان العبيد إنساً والبهائم ليست كذلك؛ وإنمنا يريد أنهم تشابهوا في الأخلاق لا في الخلق. والموالي تستعمل في مواضع كثيرة, وهي مأخوذة من: ولي الشيء, فاستعملوا الموالي في بني العم والحلفاء والجيران والعبيد المملوكين والمعتقين. والأصل في الاشتقاق واحد؛ فيقال للمعتق لأنه ولي أمر عبده, ويقال للعبد المعتق: مولى؛ لأن مولاه ولي أمره, وفي الحديث: «الولاء للكبر»؛ أي لأكبر أولاد الرجل. والمعنى: أنه إذا أعتق عبداً وله ولاء فالولاء لولده الذي من صلبه.
والصميم: الخالص من الشيء.
وقوله:
وما أدري: أذا داء حديث ... أصاب الناس أم داء قديم
يقول: ما أدري أهكذا كان الناس في أول الزمن أم هو فساد حدث في العالم؟ والذي يوجبه المعقول أن آخر العالم كأوله؛ فيه الكريم والبخيل والشجاع والجبان, وغير ذلك من الأضداد المختلفة.
وقوله:
كأن الأسود اللابي فيهم ... غراب حوله رخم وبوم
اللابي: منسوب إلى اللابة, وهي حرة يقال في جمعها: لاب ولوب. قال النابغة الذبياني: [البسيط]
فإن وقيت بحمد الله وقعته ... فانجي فزار إلى الأطواد فاللوب
وقال قيس بن الخطيم: [الطويل]
ترى اللابة السوداء يحمر لونها ... ويشرق منها كل ريعٍ وفدفد
وقوله:
أخذت بمدحه فرأيت لهواً ... مقالي للأحيمق يا حليم
أصل الحمق: الضعف والاسترخاء. يقال: حمقت السوق إذا كسدت, وانحمق الرجل إذا ضعف وسقط. قال الشاعر: [الكامل]
يا كعب إن أخاك منحمق ... فاشدد إزار أخيك يا كعب
والتصغير أصله للشخوص, مثل أن يقال في تصغير الحجر: حجير؛ فيدل ذلك على أنه ليس بكبير, ثم استعير ذلك لتقليل الشيء, وإن كان لا شخص له, مثل أن يقال لفلان: عليم؛ أي علم قليل, وربما صغروا الشيء وهم يريدون ضد ذلك. قال لبيد: [الطويل]
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويهية تصفر منها الأنامل
فقيل: التصغير ها هنا في معنى التعظيم, ولو قيل: إنه صغر الدويهية لأنه أراد الموت؛ ولا شخص يرى له؛ لكان ذلك وجهاً. وجاءت أشياء مصغرةً لا مكبر لها, كقوله للفضة: لجين, وللفرس: كميت.
وقوله:
ولما أن هجوت رأيت عياً ... مقالي لابن آوى يا لئيم
أراد أن من يقول لابن آوى: يا لئيم فإنه في كلامه هاذٍ؛ لأن ابن آوى قد علم صغر شأنه, وأنه يقتات الجيف, ويرضى بالحظ الخسيس؛ فالذام له غير صانعٍ شيئاً يحمد عليه. وآوى: اسم على أفعل فيجب أن لا ينصرف, فإن نكر صرف, فقيل: مررت بابن آوى وابن آوى آخر.
وقوله:
فهل من عاذرٍ في ذا وفي ذا ... فمدفوع إلى السقم السقيم
يقول: هل من عاذرٍ يعذرني في مدحي هذا المذكور وهجوي إياه, فكان مدحه من القضاء الذي لا يقدر الإنسان على دفعه, وهجوه مثل الهذيان؛ إلا أنه حملني عليه إساءته إلي؛ وقد بين ذلك بقوله:
إذا أتت الإساءة من وضيعٍ ... ولم ألم المسيء فمن ألوم
وقافيتها من المتواتر, والوزن من الوافر.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید