المنشورات

أفاضل الناس أغراض لذا الزمن ... يخلو من الهم أخلاهم من الفطن

الوزن من أول البسيط.
إذا قيل: هذا أفضل من فلانٍ فجاءت «من» بعد «أفعل» لم يثن, ولم يجمع, ولم يؤنث, فإذا حف حرف الخفض قيل: هذا أفضل القوم, ويجوز حينئذ أن يجمع فيقال: هؤلاء أفاضل الناس. وإذا (230/أ) قلت: هذا الأفضل فقلما تدخل عليه التثنية, والقياس يوجب دخولها عليه.
والناس: أصلهم أناس؛ فحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال, وإنما يحذفون الهمزة إذا جاءت الألف واللام كقوله تعالى: {قل أعوذ برب الناس} , وغير ذلك من تردد هذه الكلمة في الكتاب العزيز. ووزن أناسٍ: فعال, ووزن ناسٍ: عال لأن الهمزة فاء الفعل, قال القطامي: [البسيط]
والناس من يلق خيرًا قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
وقوله:
وإنما نحن في جيلٍ سواسيةٍ ... شر على الحر من سقمٍ على بدن
يقال: قوم سواسية؛ أي مستوون في الضعة. وحكي: سواسوة. ومن أمثالهم: «سواسية كأسنان الحمار» , وقال الشاعر: [الطويل]
سواسية سود الوجوه كأنما ... بطونهم من كثرة الزاد أوطب
وقال آخر: [الطويل]
لهم مجلس سود الوجوه أذلة ... سواسية أحرارها وعبيدها
وقوله:
حولي بكل مكانٍ منهم خلق ... تخطي إذا جئت في استفهامها بمن خفف همزة تخطئ, وقد فعل ذلك في غير موضع. والمعنى يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون تخطئ فيه ضمير عائد على الخلق. يريد أنهم إذا قيل للرجل منهم: من أنت؟ لم يهتد للبيان في الجواب بل يخطئ فيه, وهذه مبالغة في الصفة بالجهل.
والآخر: أن يكون المعنى: تخطئ أيها الرجل إذا قلت لبعضهم: من أنت؟ لأن من إنما تكون لمن يعقل, وهذه الخلق ليست لها عقول.
وقوله:
لا أقتري بلدًا إلا على غررٍ ... ولا أمر بخلقٍ غير مضطغن
أقتري من قروت الشيء إذا تتبعته على غررٍ؛ أي إني أغرر بنفسي في المسير بين هؤلاء العالم.
والمضطعن: المفتعل من الضغن, وهذه الطاء تاء في الأصل. وقد مضى القول في أن تاء الافتعال وما تصرف منه إذا وقعت بعد طاءٍ أو ظاءٍ أو ضادٍ قلبت طاءً؛ فلو صغر مضطغن لقيل مضيغن.
وقوله:
ولا أعاشر من أملاكهم أحدًا ... إلا أحق بضرب الرأس من وثن
الوثن: الصنم, وهو معروف؛ يقال إنه من: وثن بالمكان إذا أقام به.
وقوله:
إني لأعذرهم مما أعنفهم ... حتى أعنف نفسي فيهم وأني
أني من قولهم: ونى الرجل يني إذا قصر في الأمر, والرجل وانٍ. قال الشاعر: [الطويل]
أناةً وحلمًا وانتظاراً بهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر
يقال: ونى يني ونياً. وزعم قوم أن الونا يمد ويقصر, وهو مقصور في قول امرئ القيس: [الطويل]
مسح إذا ما السابحات على الونى ... أثرن غباراً بالكديد المركل
وقوله:
ومدقعين بسبروتٍ صحبتهم ... عارين من حللٍ كاسين من درن
المدقعون: جمع مدقع وهو الذي قد افتقر حتى لحق بالدقع وهو التراب, ونحوه قولهم للفقير: مرمل أي قد افتقر حتى لصق بالرمل كأنه ينام عليه من غير وطاءٍ. والسبروت: الأرض المقفرة التي لا شيء بها. قال الأعشى: [الطويل]
سباريت أمراتاً قطعت بجسرةٍ ... إذا الجبس أعيا أن يروم المسالكا
سباريت: جمع سبروت, ويقال للفقير: سبروت, وقيل لأعرابي: ما السبروت فقال: كأنا الغداة. ويقال: ما له سبروت أي ما له شيء. قال الراجز: [الرجز]
يا بنت شيخٍ ما له سبروت
وقوله: عارين من حلل, أي لا لباس عليهم. والحلة عندهم ثوبان. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه اشترى حلة ذي جدنٍ بثلثمائة دينارٍ فلبسها ساعةً ثم خلعها على أسامة بن زيد, وقال: «خشيت أن تفتنني». ويقال في جمع الحلة: حلل وحلال, كما يقال: جلة وجلل (230/ب) وجلال لقوصرة التمر. قال ذو الرمة: [الوافر]
نعوضه المئين مكملاتٍ ... مع البيض الكواعب والحلالا
والدرن: الوسخ. يريد أن هؤلاء القوم لا ثياب عليهم وهم كاسون من الدرن. قال أبو الأخزر الحماني: [الرجز]
يعبق داري الإناب الأدكن ... منه بجلدٍ طيبٍ لم يدرن
الإناب: المسك, وقيل: هو ضرب من الطيب.
وقوله:
خراب باديةٍ غرثى بطونهم ... مكن الضباب لهم زاد بلا ثمن
الخراب: جمع خاربٍ, وأصله الذي يسرق الإبل خاصة, ثم قيل لكل لص: خارب. قال الشاعر: [الرجز]
والخارب اللص يحب الخاربا ... وتلك قربى مثل أن تناسبا
أن تشبه الضرائب الضرائبا
وقال آخر: [الرجز]
إن بها أكتل أو رزاما ... خويربين ينقفان الهاما
لم يدعا لمسلمٍ طعاما
ومكن الضباب: بيضها؛ يقال: ضبة مكون إذا كان في بطنها بيض. وفي حديث أبي وائل شقيق بن سلمة: «ضبة أحب إلي من دجاجةٍ سمينة».
وقوله:
يستخبرون فلا أعطيهم خبري ... وما يطيش لهم سهم من الظنن
يقول: إذا سألوني عن خبري كتمته لأني أريد حاجةً لا ينبغي لي أن أظهرها. ومن كلام النبوة: «استعينوا على أموركم بالكتمام». وذكر أن هؤلاء القوم لهم ظنون صحيحة, فإذا رموا بسهام ظنونهم أصابوا.
وقوله:
وخلةٍ في جليسٍ أتقية بها ... كيما يرى أننا مثلان في الوهن
يقال: وهن ووهن أي ضعف, والخلة: الخصلة تكون المحمودة وتكون المذمومة, وهي هاهنا الذميمة.
والمعنى: أنه إذا رأى رجلًا فيه عيب أراه أن ذلك العيب فيه يتقرب إليه بذلك. وهذا يتفق كثيرًا للناس؛ ومنه أن الرجل العالم بالكلام والإعراب إذا جالس العامة لم يعرب في كلامه مخافة أن ينكروا عليه ذلك, وهو مثل قد سار في العامة: «إن زربت أرضاً إهلها كلهم عور فغمض عينك الواحدة».
وقوله:
وكلمة في طريقٍ خفت أعربها ... فيهتدى لي فلم أقدر على اللحن
يقال: كلمة وكلمة؛ إلا أن فتح الكاف وكسر اللام هي اللغة الفصيحة. ويقال: كلمة بكسر الكاف وسكون اللام وهو مجانس لقولهم: كتف في: كتفٍ, وكبد في: كبدٍ. وأراد: خفت أن أعربها فحذف أن, وقد أكثر من ذلك في ديوانه.
ووصف الشاعر نفسه بالفصاحة, وزعم أنه لا يقدر أن ينقل طبعه عن الإصابة, وأنه ربما احتاج إلى إخفاء نفسه بترك الإعراب في كلامه فلم يقدر على ذلك.
واللحن الذي هو خطأ في الإعراب: المعروف فيه سكون الحاء, واللحن بفتحها: الفطنة. والكوفيون يرون أن الحرف الثلاثي إذا كان ساكن الأوسط, وهو مع سكونه حرف من حروف الحلق؛ جاز فيه السكون والفتح, ويجعلون ذلك مطرداً.
والبصريون يردونه إلى السماع.
وقوله:
كم مخلصٍ وعلاً في خوض مهلكةً ... وقتلةٍ قرنت بالذم في الجبن
يقول: كم خلاصٍ كان سببه خوض مهلكةٍ. إذا فتحت الميم فهي اسم لموضع الهلاك؛ فإذا ضمت الميم فهي الهلك بعينه. يقول: إن الإنسان إذا صبر على الشدائد جاز أن يصل إلى ما يؤثر وهو محمود, والجبان طال ما قتل وذم فجمع له جنسان من الشر: قتله وذمه.
وقوله:
لا يعجبن مضيماً حسن بزته ... وهل يروق دفيناً جودة الكفن (231/أ)
المضم الذي يقع به الضيم وهو الظلم والإذلال. يقول: لا يعجبن من هو ذليل حسن بزته - والبزة يراد بها ما يلبس من الثياب - فهو مثل الميت الذي دفن, والميت لا يروقه؛ أي لا يعجبه؛ حسن الكفن.
وقوله:
مدحت قوماً وإن عشنا نظمت لهم ... قصائداً من إناث الخيل والحصن
أظهر الندم على مدح رجالٍ, وزعم أنه إن عاش نظم لهم قصائد من الخيل؛ أي إنه يجمعها كما يجمع القصائد من الكلام. والحصن: جمع حصانٍ وهو الذكر من الخيل.
وقوله:
تحت العجاج قوافيها مضمرةً ... إذا تنوشدن لم يدخلن في أذن
لما شبه الخيل بالقصائد أتبع ذلك بما يشبهه من الكلام فجعل لها قوافي, والهاء والألف في قوافيها ترجع إلى القصائد. وزعم أنهن إذا تنوشدن لم يدخلن في أذنٍ؛ فكأنه ألغز تناشد الضالة عن تناشد الشعر. يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها, وأنشدتها إذا عرفتها. وقولهم: أنشدت الشعر مأخوذ من قولهم: أنشدت الضالة؛ لأن المنشد له يعزوه إلى قائلة, فكأنه الضالة يردها عليه. يقال: نشد الراعي الناقة نشيداً, وأنشد الرجل الشعر نشيدًا أيضًا.
قال الشاعر: [الوافر]
وأنا نعم أحلاس القوافي ... إذا استعر التنافر والنشيد
وقال بعد يغوث الحارثي: [الطويل]
نشيد الرعاء المصدرين المتاليا
يقول: هذه الخيل ليست كالقصائد إذا تنوشدت تدخل في الآذان.
وقوله:
فلا أحارب مدفوعاً على حذرٍ ... ولا أصالح مغروراً على دخن
يقول: لا أمتنع من عدوي بحذارٍ, ولا أصالح, وفي قلبي حقد. والدخن ما يجده الرجل في قلبه من العداوة. وفي الحديث المأثور: «هدنة على دخنٍ وجماعة على أقذاء». وأصل الدخن تغير اللون, وأن يكون يضرب إلى لون الدخان, وإنما يعني تغير القلب بالعداوة.
وقوله:
مخيم الجمع بالبيداء يصهره ... حر الهواجر في صم عن الفتن
المخيم: المقيم, وأصل ذلك من نصب الخيام. ويجوز نصب مخيمٍ ورفعه؛ الرفع على إضمار المبتدأ والنصب على الحال. ويصهره؛ أي يذيبه, والصهارة ما أذيب من الشحم. قال الراجز: [الرجز]
لا تعدمن ضيفنا والحاره ... من القدير ومن الصهاره
ويقال: فتنة صماء إذا وصفت بالشدة.
وقوله:
ألقى الكرام الأولى بادوا مكارمهم ... على الخصيبي عند الفرض والسنن
فهن في الحجر منه كلما عرضت ... له اليتامة بدا بالمجد والمنن
يقول: اعتمد الكرام الذين ذهبوا في حفظ المكارم على الخصيبي؛ فجعلوا أمرها إليه فهن في حجره يكفلهن كما يكفل أيتام الناس, وإذا عرضت اليتامى له ليحسن إليه بدأ بالمجد والمنن. خفف همزة بدأ للضرورة.
يقول: هذا الحاكم يرى المكارم عنده كالأيتام فيبدأ بالإحسان إليها قبل إحسانه إلى بني آدم.
وقوله:
غض الشباب بعيد فجر ليلته ... مجانب العين للفحشاء والوسن
يريد أنه شاب وهو مع ذلك ناسك يبعد فجر ليلته لأنه يتهجد ويقوم للصلاة فيطول عليه الليل؛ لأن الراقد لا يحس بأن الليل طويل.
وقوله:
شرابه النشح لا للري يطلبه ... وطعمه لقوام الجسم لا السمن
النشح أن يشرب الإنسان دون الري. قال ذو الرمة: [البسيط]
وقد نشحن فلا ري ولا هيم
وصفه بقلة الشرب والطعام؛ لأن العرب تذم ملء البطن من المأكول. قال عروة بن الورد: [الطويل] (231/ب)
أقسم جسمي في جسومٍ كثيرةٍ ... وأحسو قراح الماء والماء بارد
يعني أنه يقتنع بالشيء القليل ويقسم قوته بين من هو أحود إليه منه؛ ولو أكله لزاد في جسمه ولكنه يفرقه؛ وكأنه يجعل ما نقص من لحم جسم نفسه زيادةً في جسوم المحتاجين.
وقال أبو خراش الهذلي: [الطويل]
أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غير من عيالك بالطعم
وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم
وقوله:
القائل الصدق فيه ما يضر به ... والواحد الحالتين السر والعلن
يقول: هذا الرجل يقول الصدق وإن كان مضرًا به, لا يمنعه خوف الضرر من قول الحق, وسره كعلنه, وذلك نهاية في وصف الإنسان؛ ونحو من ذلك قول القائل: [الطويل]
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسر كما جهر
أي إنه أسر الإحسان إلي وأظهره لي.
وقوله:
الفاصل الحكم عي الأولون به ... ومظهر الحق للساهلي على الذهن
عي الأولون أي عيوا؛ يقال: عيي الرجل بيائين, وعي على الادغام. يقول: هذا الحاكم يهتدي من فصل الأحكام إلى ما عجز عنه الأولون, والساهي: الذي به غفلة لا يدري كيف يناظر خصمه. والذهن: الفطن الجيد اللب.
وقوله:
أفعاله نسب لو لم يقل معها ... جدي الخصيب عرفنا العرق بالغصن
يقول: أفعاله نسب تدل على أن أصله كريم فلو لم ينتسب إلى الخصيب لعلمنا أنه ولده؛ كما أنا إذا رأينا الغصن من الشجرة أخبرنا ذلك عن عرقها الذي هو متوارٍ في الأرض.
وقوله:
العارض الهتن ابن العارض الهتن ... ابن العارض الهتن ابن العارض الهتن
يقال: هتن الغيم وهتل إذا جاء بالمطر, والعارض: السحاب الذي يعرض, وفي الكتاب العزيز: {هذا عارض ممطرنا} , وبعض الناس يعيب هذا البيت على أبي الطيب فينبغي أن يقال له ما قال أبو عبادة: [البسيط]
إذا محاسني اللاتي أدل بها ... كانت ذنوبي فقولي كيف أعتذر
وهذا البيت قلما يوجد مثله لأنه وصف الممدوح بوصفين, ثم وصف ثلاثةً من آبائه بمثل ما وصفه به؛ وقلما يتفق مثل هذا النظام؛ وهو يشابه قوله: [الطويل]
وحمدان حمدون وحمدون حارث ... وحارث لقمان ولقمان راشد
وقوله:
قد صيرت أول الدنيا وآخرها ... آباؤه من مغار العلم في قرن
يقول: آباؤه قد أغارت حبلًا في العلم قرنت به أول الدنيا وآخرها فجعلها معلومة الأمور. والقرن: الحبل الذي يقرن به البعير إلى غيره, وكل ما قرن به شيئان فهو قرن. قال الشاعر: [الطويل]
فلو عند غسان السليطي عرست ... رغا قرن منها وكاس عقير
يعني بالقرن: البعير المقرون بالحبل. وقال جرير: [البسيط]
وقطعوا من حبال الوصل أقرانا
أي حبالًا كثيرةً.
وقوله:
كأنهم ولدوا من قبل أن ولدوا ... وكان فهمهم أيام لم يكن
يقول: كأن هؤلاء القوم علموا بالأشياء فكأنهم داروا في الدهر الأقدم قبل أن تولد شخوصهم, وكأن علمهم كان قبل كونه. وكان ها هنا في معنى حدث تكتفي باسمٍ واحد.
وقوله:
الخاطرين على أعدائهم أبداً ... من المحامد في أوقى من الجنن
(232/أ) الجنن: جمع جنة, وهي ما تتقى به الحرب من درعٍ وغيرها. والخاطرين: جمع خاطرٍ من قولهم: خطر الرجل في مشيته إذا ظهر فيها بعض الاختيال؛ وذلك مما يحمل الصديق على أن يتكلم في الإنسان. وهؤلاء القوم يمرون بأعدائهم وهم خاطرون؛ فلا يقدر عدو أن يعيبهم بكلمةٍ؛ فالمحامد لهم أوقى من الدروع والترسة وغيرها من العدد.
وقوله:
للناظرين إلى إقباله فرح ... يزيل ما بجباه القوم من غضن
يقول: هذا الممدوح يفرح الناظرون إلى إقباله حتى تنبسط أبشارهم فيزول ما بجباههم من الغضن, وهو تكسر في الجلد. والإقبال ها هنا يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من أقبل شخص الرجل ضد أدبر.
و: من أقبل إذا أريد به إقبال السعود.
وقوله:
كأن مال ابن عبدالله مغترف ... من راحتيه بأرض الروم واليمن
يقول: مال هذا الرجل مفرق على الناس فكأن البعيد منه قريب؛ فأهل اليمن ومن بأرض الروم كأنهم يغترفون ماله من راحتيه.
وقوله:
لم نفتقد بك من مزنٍ سوى لثقٍ ... ولا من البحر غير الريح والسفن
المزن: جمع مزنةٍ, وهو من الجمع الذي ليس بينه وبين واحده إلا الهاء, كقولك: برة وبر, ويقال: إن المزنة السحابة البيضاء, وربما قالوا: المزنة السحاب مرسلًا. ومن قال: المزن فسكن الزاي جاز له أن يضم الزاي كما يقال: شغل وشغل؛ لأن هذا الجمع يجري مجرى الواحد؛ فيجوز أن يقال في الجمع: مزن, مثل: ظلمة وظلم, ويقال للهلال: ابن مزنةٍ. قال ابن قميئة: [المتقارب]
كأن ابن مزنته ماثلًا ... فسيط لدى الأفق من خنصر
واللثق: ما يحدث عن المطر من طينٍ ليس بكثيرٍ. وقيل: لا يكون اللثق إلا مع سكون ريح. زعم أن الممدوح لا يفتقد معه من الغيث إلا لثقه, ولا من البحر إلا ريحه وسفنه.
وقوله:
ولا من الليث إلا قبح منظره ... ومن سواه سوى ما ليس بالحسن
جمع في هذا البيت كل الأشياء المستحسنة, وادعى أنه لا يفتقد مع هذا الممدوح شيئًا يستحسن من جميع الأشياء.
وقوله:
منذ احتبيت بأنطاكية اعتدلت ... حتى كأن ذوي الأوتار في هدن
الاحتباء: مصدر احتبى الرجل إذا شد حبوته, وقد مر ذكرها. يقول: منذ أقمت بأنطاكية اعتدلت؛ أي تعادل أمرها وتساوى في الخير؛ حتى كأن ذوي الأوتار - أي الحقود - في هدنٍ: جمع هدنةٍ وهي الموادعة والسكون.
وقوله:
ومذ مررت على أطوادها قرعت ... من السجود فلا نبت على القنن
الأطواد: الجبال, وجبل أنطاكية يقال له: الأقرع. ادعى الشاعر أن هذا الرجل مذ مر بأجبال هذا البلد قرعت من السجود لله سبحانه؛ لأنها استعظمت ما شاهدته, فليس في رؤوسها نبت. والقنن: جمع قنةٍ وهو أعلى الجبل. قال الراجز: [الرجز]
إن لنا لكنه ... سمعنه نظرنه
كالريح حول القنه ... إلا تره تظنه
وقوله:
أخلت مواهبك الأسواق من صنعٍ ... أغنى نداك عن الأعمال والمهن
الصنع: كل من يباشر صناعةً كالحديد والصياغة وجميع الأشياء. فادعى الشاعر أن مواهب الممدوح قد أغنت الصناع عن الصنائع وأن يخدم بعض الناس بعضاً. والمهن: جمع مهنةٍ وهي الخدمة, وقال بعض أهل العلم: المهنة (232/ب) بفتح الميم أفصح, وأما المهن فجمع مهنةٍ بكسر الميم.
وقوله:
فمر وأوم تطع قدست من جبلٍ ... تبارك الله مجري الروح في حضن
مر: أمر من أمر يأمر, وهو أحد الحروف التي جاءت شاذةً لأن الأصل أن يقال: أومر؛ فاستثقلوا ذلك فحذفوا الهمزة الأصلية والزائدة, وردوها مع الواو والفاء؛ فقالوا: قل وأمر بما شئت, وفي الكتاب العزيز: {وأمر أهلك بالصلاة} , وقالوا: خذ وكل فلم يردوا الهمزتين إذا اتصل بهما كلام.
وقدست من جبل: أصل القدس الطهارة, وهذا اللفظ يحتمل أن يكون دعاءً زخبراً, ومذهب الشاعر أن يجعله إخباراً لأن الدعاء بالشيء إنما يكون قبل كونه, والإخبار يكون مع الوقوع والحضور. فقوله: قدست من جبلٍ إنما هو في معنى: قد كان ذلك. وإذا دخلت «قد» في الكلام الذي يحتمل أن يكون دعاءً وخبراً صيرته للخبر لا غير.
وحضن: اسم جبل بنجد. ومن أمثالهم: «أنجد من رأى حضناً»؛ أي: من رأى هذا الجبل فقد حصل بنجدٍ, ويقال ذلك للرجل الذي قد بلغ حاجته, وإن كان ليس في بلاد نجد ولا قريباً من حضن. وقافيتها من المتراكب.












مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید