المنشورات

بم التعلل لا أهل ولا وطن ... ولا نديم ولا كأس ولا سكن

الوزن من أول البسيط.
قوله:
أريد من زمني ذا أن يبلغني ... ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
جرى في هذا البيت على عادته من المبالغة, وجعل الزمان كأنه عاقل يريد لنفسه الخير.
وذهب أبو الفتح ابن جني رحمه الله إلى معنى حسنٍ, ويجوز أن يكون الشاعر لم يذهب إليه, وذلك أنه ذهب إلى أن الزمان كالذي يعقل, فيختار أن يكون كلها ربيعاً؛ لأنه زمان طيب يظهر فيه من الزهر والرياض والريا الأرجة ما لا يظهر في غيره من الأزمنة.
وقوله:
لا تلق دهرك إلا غير مكترثٍ ... ما دام يصحب فيه روحك البدن
اكثرت: افتعل من قولهم: كرثه الأمر إذا شق عليه. قال رجل من قريش: [الكامل]
منع الرقاد فما ينام الحارث ... سقم ألم به وهم كارث
وجاء في شعر الصنوبري: شهر كريث بالثاء في معنى كريتٍ؛ فيقال إنه صحفه, ويجوز أن يكون ذهب إلى أن كريثاً في معنى كارثٍ؛ كما قالوا: عالم وعليم, وراحم ورحيم, فزعم أن الشهر شديد شاق عليه.
وقوله:
تحملوا حملتكم كل ناجيةٍ ... فكل بين علي اليوم مؤتمن
كأنه دعا لنفسه بأن يتحملوا عنه وتحملهم النواجي من الإبل؛ أي السراع, وهذا ضد ما ذكره في قوله: [الكامل]
ليت الذي خلق النوى جعل الحصى ... لخفافهن مفاصلي وعظامي
وذكر أن البين مؤتمن عليه, لأنه سالٍ لا يلحقه من البين ضرر, ثم شرح ما ادعاه في هذا البيت بقوله:
ما في هوادجكم من مهجتي عوض ... إن مت شوقاً ولا فيها لها ثمن
يقول: سلوت عنكم كأن هوادجكم ليس لي فيها عوض من نفسي وإن هلكت شوقاً, وليس في الهوداج ثمن لها. والهودج كلمة قد تكلمت بها العرب قديماً؛ ويجوز أن يكون اشتقاقها من الهدجان والهداج وهو مشي متقارب الخطو. قال الشاعر: [الوافر]
ويأخذه الهداج إذا هداه ... وليد الحي في يده الرداء
فكأنهم أرادوا بالهودج أنه إذا حمل على البعير وركبت فيه المرأة ثقلت عليه فهدج تحتها.
وقوله:
قد كان شاهد دفني قبل قولهم ... جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
هذا البيت فيه تهزؤ بالناعين له. يقول: زعموا أني دفنت ثم ماتوا قبلي. وقوله: دفنوا إنما يريد أنهم قالوا ذلك لأن المعنى يصح على هذا التأويل, وإذا قال الرجل: قتل فلان ثم علم أنه حي جاز أن يقال له: لم قتلته؛ أي لم قلت ذلك اللفظ.
وقوله: (233/ب)
رأيتكم لا يصون العرض جاركم ... ولا يدر على مرعاكم اللبن
قالوا: يدر ويدر إذا غزر وكثر, وهذا مثل ضربه بدر اللبن؛ وإنما جعله كناية عن الخير؛ أي مرعاكم لا يدر عليه اللبن؛ أي: إذا أصيب منكم خير لم تكن له عاقبة تحمد.
وقوله:
جزاء كل قريبٍ منكم ملل ... وحظ كل محب منكم ضغن
أي: إذا قرب الإنسان منكم مللتموه, وتجازون محبكم بأن تضطغنوا عليه. والضغن والضغن واحد.
وقوله:
وتغضبون على من نال رفدكم ... حتى يعاقبه التنغيص والمنن
أي: حتى يكون في عاقبته تنغيص بالمنن على أخذه. ويجوز أن يكون يعاقبه من تعاقب الراكبين على الدابة. يريد أن رفدكم والتنغيص لا يجتمعان فيسهل أحدهما الآخر؛ ولكن التنغيص يجيء ولا رفد معه.
وقوله:
فغادر الهجر ما بيني وبينكم ... يهماء تكذب فيها العين والأذن
اليهماء: الأرض التي لا يهتدى لها؛ كأنه يخبر الذين يخاطبهم أنه قد بعد عن بلادهم, فصار بينه وبينهم يهماء تكذب فيها العين والأذن لأنها بعيدة الأرجاء, والعين لا تتبين فيها الشخص على حقيقته, وكذلك الأذن ليس سمعها في هذه المقفرة بالصحيح.
وقوله:
تحبو الرواسم من بعد الرسيم بها ... وتسأل الأرض عن أخفافها الثفن
يقال: حبا البعير حبواً إذا عجز عن القيام فحبا وهو بارك. قال الراجز: [الرجز]
يا حكم الوارث عن عبدالملك ... هلكت إن لم تحب حبو المعتنك
يقال: اعتنك البعير إذا وقع في عانكٍ من الرمل, وهو رمل كثير يصعب المشي فيه.
والرواسم: نوق تسير الرسيم, وهو ضرب من السير سريع. قال حميد بن ثور: [الطويل]
أرسما: أي حملا البعيرين على الرسيم. يريد أن النوق حبت في هذه الأرض لأنها عجزت عن السير. والثفن: جمع ثفنةٍ وهو ما يصيب الأرض من البعير إذا برك. يقول: قد ذهبت أخفاف هذه الإبل لطول السفر؛ فثفناتها تقول للأرض: ما فعلت أخفافي؟ أي إن ثفناتها قد باشرت الأرض لأنها تحبو للضعف.
وقوله:
سهرت بعد رحيلي وحشةً لكم ... ثم استمر مريري وارعوى الوسن
أصل قولهم: استمر مريري أن يقال في الحبل الذي يفتل. والمرير: جمع مريرة وهي القوة من قوى الحبل. قال توبة بن الحمير: [الطويل]
لعلك يا تيساً نزا في مريرةٍ ... معذب ليلى أن تراني أزورها
فالإنسان يقول: استمر مريري أي استقام أمري. وارعوى الوسن؛ أي رجع النعاس إلى عيني.
وقوله:
وإن بليت بود مثل ودكم ... فإنني بفراقٍ مثله قمن
يقول: بليت بقوم ليس ودهم بالصحيح, وهو مثل: ودكم خؤون؛ فإني بفراقٍ مثل هذا الفراق جدير. ولو رويت: بفراقٍ مثله بنصبها لكان ذلك وجهًا قويا, وتكون الهاء راجعة إلى الود. يقال: فلان قمن وقمين بهذا الأمر, ويثنى هذا اللفظ ويجمع. فإذا قيل: قمن بفتح الميم لم تدخله التثنية ولا الجمع. قال الشاعر: [البسيط]
من كان يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن
وقوله:
أبلى الأجلة مهري عند غيركم ... وبدل العذر بالفسطاط والرسن
المهر: كلمة تقع على ولد الفرس منوقت نتاجه إلى أن يركب, وبعد الركوب. قال الشاعر: [الكامل]
يقذفن بالمهرات والأمهار
يريد أن الخيل تلقي أولادها في شدة الحرب والسير. وقال زيد الخيل (234/أ) وذكر فرساً أخذ منه: [الرمل]
عودوا مهري كما عودته ... دلج الليل وإيطاء القتيل
لا تذيلوه فإني لم أكن ... يا بني الصيداء مهري بالمذيل
والعذر: جمع عذار الفرس. وقال: بدل العذر ولو أمكنه المجيء بالتاء لكان أحسن.
والأجلة: جمع جلالٍ وهو ما يجلل به الفرس.
وقوله:
عند الهمام أبي المسك الذي غرقت ... في جوده مضر الحمراء واليمن
مضر: يقال إنه اشتق من اللبن الماضر وهو الحامض. ويقال: مضر مأخوذ من الشيء المضر وهو الشيء الحسن الرائق. ويقال: دنيا خضرة مضرة. وإنما قيل لمضر: الحمراء؛ لأن أباهم قسم ميراثه على أولاده: فأعطى مضر قبةً حمراء كانت له, وأعطى ربيعة فرساً, وأعطى إياداً شيئاً من بناءٍ كان يملكه. وإياد الشيء: ما حوله, ويقال للحائط: إياد.
وقوله:
وإن تأخر عني بعض موعده ... فما تأخر آمالي ولا تهن
تهن: من الوهن وهو الضعف, يقال: وهن يهن, ووهن يوهن. فالوهن بسكون الهاء مصدر وهن بفتحها, والوهن بفتح الهاء مصدر وهن بكسرها. يقول: آمالي قوية في إكرامه لي.
وقوله:
هو الوفي ولكني ذكرت له ... مودةً فهو يبلوها ويمتحن
يقال: فلان يمتحن فلاناً إذا كان يختبر ما عنده ويستخرجه, ومنه قوله تعالى: {فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن}. والقافية من المتراكب.

ومن أبيات أولها
صحب الناس قبلنا ذا الزمانا ... وعناهم من شأنه ما عنانا
الوزن من الخفيف الأول.
قوله:
وكأنا لم نرض فينا بريب الدهـ ... ـر حتى أعانه من أعانا
كلما أنبت الزمان قناةً ... ركب المرء في القناة سنانا
هذا البيتان من أحسن ما قيل في إقامة الحجة على العالم وأن طباعه الشر. يقول: كأنا لم نرض بما يفعله الزمان, وإنما فعل الزمان منسوب إلى القضاء والزمان لاي فعل شيئاً, وإنما يفعل فيه. وكذلك يقال: هذا يوم سعيد, واليوم لا يحس بسعدٍ ولا نحسٍ وإنما يحس من يشتمل عليه اليوم. وأنكر القائل ما يفعله الأنيس؛ لأن الزمان إذا نبتت فيه قناة - إنما ينبتها بالطبع ولا يشعر لأي شيء تصلح - تكلف بنو آدم أن يتخذوا سناناً لتلك القناة يتوصلون به إلى هلاك النفوس.
وقوله:
ومراد النفوس أصغر من ... أن نتعادى فيه وأن نتفانى
يقول: إنما يحصلون من دنياهم على الشيء التافه, فالذي يطلبون أصغر من أن يقع التفاني عليه, وأن تشب له العداوات المؤدية إلى الحروب.
وقد جمع هذا القائل ثلاث جملٍ في بيت يشتمل على آدابٍ ثلاثةٍ لو تأدب بها الناس لكانت المنفعة بها عظيمةً, ولكن الذاكر لها لم يأخذ بها فكيف يأخذ بها سواه؟ ! وذلك قوله: ذكر الفتى عمره الثاني
وقد وهب لأبي الطيب طول عمرٍ منع منه كثير من أهل الحكم. ثم قال:
وحاجته ما قاته
وقد يوجد خلق كثير عنده ما يقوته من المال لسنين كثيرةٍ لا يجوز أن يعيشها مثله, وهو شديد الحرص بين الرغبة في الازدياد, وقال بعد ذلك:
وفضول العيش أشغال
أي إن الإنسان إذا وصل إلى ما يكفيه ففضول عيشه أشغال يشغل بها نفسه وإنه عنها لغني.
وقوله:
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
ذكر أن النفوس يصغر مرادها عن إقامة الحرب وعظيم الكلف, ثم استثنى استثناءً كالاعتذار بطلبه ما لا يحتاج إليه, وزعم أن الذي يحمله على ذلك أنفته من الهوان؛ لأن لقاء المنية أخف من لقائه.
وقوله:
ولو أن الحياة تبقى لحي ... لعددنا أضلنا الشجعانا
يقول: لو أن الجبان يسلم من الحمام والشجاع يلقاه لكانت الشجاعة من الضلال. ثم أتبع هذا البيت بما هو له بيان فقال: (234/ب)
وإذا لم يكن من الموت بد ... فمن العجز أن تكون جبانا
حث بهذا البيت على الشجاعة ونهى عن الجبن؛ وإنما يكون الإنسان كما خلق؛ فإن جعل شجاعاً لم يكن موصوفاً بالجبن, وإن خلق جباناً فليس له إلى الشجاعة سبيل. وقد قال الأول: [البسيط]
لقد علمت فلا أنهاك عن خلقٍ ... ألا يكون امرؤ إلا كما خلقا
وقوله:
كل ما لم يكن من الصعب في الأنـ ... ـفس سهل فيها إذا هو كانا
هذا البيت حث على الصبر عند المصيبة, والعامة يقولون: الصبر ينزل مع البلية, وقد قال أوس بن حجرٍ يأمر نفسه بالصبر إذا وقع ما تكره من الأمور: [المنسرح]
أيتها النفس أجملي جزعا ... إن الذي تحذرين قد وقعا
وقافيتها من المتاتر.










مصادر و المراجع :

١- اللامع العزيزي شرح ديوان المتنبي

المؤلف: أبو العلاء أحمد بن عبد الله المعري (363 - 449 هـ)

المحقق: محمد سعيد المولوي

الناشر: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية

الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید