المنشورات

التشبه بغير المسلمين:

التشبه لغة: يعني المثل، والجمع أشباه، وشابَهَهُ وأشبهَهُ: ماثَلَهُ (2).
أما في الاصطلاح: مماثلة الكفار بشيء من خصائصهم التي لا يشاركهم فيها أحد.
مفهوم التشبه: "أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعًا بين الكفار والمسلمين فليس تشبهًا، لكن إذا كان لباسًا خاصًا بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر، بناء على لباسه، فهذا حرام.
وهل يشترط قصد التشبه أو لا؟
الجواب: قد يقول قائل: إنه يشترط قصد التشبه؛ لأنه قال: "من تشبه" وتفعل تقضي فعلًا وقصدًا، ولكن من نظر إلى العلة عرف أنه متى حصل التشابه ثبت الحكم، ولهذا نص شيخ الإسلام -رحمه الله- على أنه متى حصلت المشابهة، ولو بغير قصد، ثبت الحكم، وذلك لأن العلة لا تختلف بالقصد وعدمه، فالعلة أن من رأى هذا الرجل قال: هذا كافر، وهذا لا يشترط فيه القصد.
لكن لو فرض أن الإنسان في بلد ليس فيه من الكفار من يلبس هذا اللباس، وهو لا يعرف عن لباس الكفار في بلادهم، وليس لباساً يشبه لباس الكفار في بلادهم، وهو لم يقصد، فهنا قد نقول: إنه لا تشبه؛ لأن العلة قد زالت تماماً.
فإن قال قائل:
على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذي يركبها كفار؟
فالجواب:
أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه آلة يركبها الكفار، ويركبها المسلمون، والصحابة -رضي الله عنهم- لما فتحوا البلاد ركبوا السفن التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا متشبهين" (1).

من أدلة تحريم التشبه بالكفار:
قال سبحانه {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].
وقال سبحانه: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49].
قال شيخ الإسلام: "ومتابعتهم في هديهم هي من اتباع ما يهوونه، أو مظنة لاتباع ما يهوونه، وتركها معونة على ترك ذلك، وحسم لمادة متابعتهم فيما يهوونه.
واعلم أن في كتاب الله من النهي عن مشابهة الأمم الكافرة وقصصهم التي فيها عبرة لنا بترك ما فعلوه كثير" (1).
وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18)} [الجاثية: 18].
وعن أَبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَتَتبِعُن سَنَنَ مَن كَانَ قَبلَكُم شِبرًا شِبرًا وَذرَاعًا بِذراع، حتى لو دَخَلُوا جُحرَ ضَب تبِعتُمُوهُم". قُلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودُ وَالنصَارَى؟ قال: "فَمَن" (2).
وعن أَبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُومُ الساعَةُ حتى تَأخُدَ أُمَّتى بِأخذ القُرُونِ قَبلَهَا شِبراً بِشِبرِ وَذرَاعاً بِذراع" فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَفَارِسَ وَالرومِ؟ فَقَالَ: "وَمَن النَّاسُ إِلا أُولَئِكَ" (3).
قال شيخ الإسلام: "وهذا كله خرج منه مخرج الخبر عن وقوع ذلك، والذم لمن يفعله، كما كان يُخبر عما يفعله الناس بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمات، فعلم أن مشابهتها اليهود والنصارى وفارس والروم مما ذَمّه الله ورسوله، وهو المطلوب" (1).
وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَشَبَّهَ بِقَومٍ فَهُوَ مِنهُم" (2).
وقد بين شيخ الإسلام الحكمة من النهي عن مشابهة الكفار، وما يترتب على ذلك من المفاسد، فقال -كما في "اقتضاء الصراط المستقيم"-: "فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي، وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين هم أقل كفرا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى هم أقل إيمانا من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضاً مناسبة وائتلافا، وإن بعد المكان والزمان فهذا أيضاً أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم ولو بالقليل هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه، فنقول: مشابهتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في عين الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات، وتأثير ذلك لا يظهر ولا ينضبط، ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر ولا ينضبط، وقد يتعسر أو يتعذر زواله بعد حصوله لو تفطن له، وكل ما كان سببًا إلى مثل هذا الفساد فإن الشارع يحرمه، كما دلت عليه الأصول المقررة".
قلت: وقد عدد شيخ الإسلام في كتابه النفيس "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم" المفاسد التي تترتب على مشابهة الكفار من الأمور الظاهرة والباطنة، فقال:
"إن المشاركة في الهدي الظاهر تورث تناسبًا وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس، فإن اللابس لثياب أهل العلم مثلًا يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس لثياب الجند المقاتلة مثلًا يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه مقتضيًا لذلك, إلا أن يَمنعه من ذلك مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان، وتُحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلبُ أتمَّ حياةً، وأعرفَ بالإسلام الذي هو الإسلام -لستُ أعني مُجرد التوسُّم به ظاهرًا أو باطنًا بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة- كان إحساسُه بمفارقة اليهود والنصارى باطنًا أو ظاهرًا أتمَّ، وبُعدُه عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.

ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر، حتى يرتفع التمييز ظاهرًا بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والضالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً، لو تَجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ فإنه يكون شعبة من شعب الكفر، فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له والله أعلم" (1).












 مصادر و المراجع :

١- مَوْسُوعَةُ الأَخْلَاقِ

المؤلف: خالد بن جمعة بن عثمان الخراز

الناشر: مكتبة أهل الأثر للنشر والتوزيع، الكويت

الطبعة: الأولى، 1430 هـ - 2009 م 

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد

المزید

فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع

المزید

حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا

المزید

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

المزید

إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها

المزید