المنشورات
سان سيمون
يعد سان سيمون (Saint - Simon) (2) من أبرز رواد السوسيولوجيا الوضعية، مادام يؤمن بالعلم، والعلمانية، والتقدم، والازدهار، وإخضاع الإنسان للتجريب الوضعي. يقول سان سيمون:" إن أكبر وأشرف وسيلة لدفع العلم نحو التقدم هو جعل العالم في إطار التجربة، ولانقصد العالم الكبير وإنما هذا العالم الصغير يعني الإنسان الذي نستطيع إخضاعه للتجربة (3)."
ومن جهة أخرى، دعا إلى تطبيق المنهج الفيزيولوجي على علم الاجتماع، وسماه بالفيزيولوجيا الاجتماعية، إذ يقول:" تنظر الفيزيولوجيا الاجتماعية إلى الأفراد كعناصر في الهيئة الاجتماعية التي تعنى بدراسة وظائفه العضوية بالطريقة نفسها التي تدرس بها الفيزيولوجيا الخاصة وظائف الأفراد ... (ويجب أن نسترجع إلى ذاكرتنا الطريق الذي سلكه التفكير الإنساني؛ اتجه منذ هذا القرن إلى الاعتماد على الملاحظة، فأصبح الفلك والطبيعة والكيمياء من علوم الملاحظة)، نستخلص من هذا بالضرورة أن الفيزيولوجيا العامة التي يمثل علم الإنسان الجزء الرئيسي منها، سوف تعالج بالمنهج المتبع في العلوم الطبيعية الأخرى، وأنها سوف تدخل في التعليم العام عندما تصبح وضعية ... لكن ما العقبة التي تعترض- حتى اليوم- قيام معرفة فيزيولوجية للمجتمعات الإنسانية؟ (إن تلك العقبة تتجلى في الصراع الذي وجد دائما ... بين الطبقات الاجتماعية ... إلا أنه قد آن الأوان لإنشاء علم للإنسان، وأن نقطة البداية في إنشاء هذا العلم هي الفيزيولوجيا الاجتماعية." (1)
وهكذا، فقد تنبه سان سيمون إلى تأسيس علم جديد يدرس الإنسان في المجتمع، هو علم الاجتماع أو ما يسمى عند سان سيمون بالفيزيولوجيا الاجتماعية. وتسعى هذه السوسيولوجيا إلى دراسة الظواهر المجتمعية، مثل: العلوم الطبيعية، بالاعتماد على الملاحظة العلمية، ودراسة الوظائف العضوية التي تؤديها هذه الفيزيولوجيا الاجتماعية.
وفي سياق آخر، يقول سان سيمون:" إن القدرة العلمية الوضعية هي نفس ما يجب أن يحل محل السلطة الروحية، ففي العصر الذي كانت فيه كل معارفنا الشخصية حدسية وميتفايزيقية بصفة أساسية كان من الطبيعي أن تكون إدارة المجتمع فيما يخص شؤونه الروحية في يد السلطة اللاهوتية، مادام اللاهوتيون آنذاك هم الميتافيزيقيين الموسوعيين الوحيدين. وبالمقابل عندما تصبح كل أجزاء معارفنا قائمة على أساس الملاحظة، فإن إدارة الشؤون الروحية يجب أن تستند إلى القدرة العلمية باعتبارها طبعا متفوقة على اللاهوتية والميتافيزيقية." (1)
هذا، ويعد سان سيمون أول من قدم تصورات علمية حول الظواهر المجتمعية في بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وسماها بالفيزيولوجيا الاجتماعية (physiologie sociale). وقد كانت تعنى بدراسة الذوات المجتمعية في علاقة بتنظيماتها. وبعد ذلك، طور أوجست كونت تصورات سان سيمون، وعمقها في إطار تصور علمي ووضعي. ويعني هذا أن سان سيمون، في الحقيقة، هو المؤسس الأول لعلم الاجتماع في مفهومه الغربي. بينما يعد ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران في الثقافة العربية بلامنازع.
ويعده جان ديفينيو (Jean Duvignaud) المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع:" إن سان سيمون المعاصر لروبيسبيير وسان غوست (2) والأرستقراطي، والمراقب الشغوف لثورة يعيش بفضلها، يتمتع بالتفكير الصحيح كعالم اجتماع، وعلينا أن نعترف، أن الفضل يعود إليه، وليس إلى كونت كما نفعل دائما، بهذا الصدد." (1)
والدليل على منظوره الاجتماعي هذه القولة التي تشير إلى الجبرية الاجتماعية، وتبيان دورها في توجيه الأفراد:" من إحدى التجارب الأكثر أهمية التي أقيمت حول الإنسان، هي وضعه في علاقات اجتماعية جديدة، وعرضه على كافة الطبقات، ووضعه في أكبر عدد ممكن من الظروف الاجتماعية، وخلق علائق لم تكن قد وجدت بالنسبة له أو للآخرين" (2).
ويعني هذا أن ثمة اختلافا حقيقيا حول المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع، فهناك أكثر من ست شخصيات في هذا المجال: ابن خلدون، وسان سيمون، وأوجست كونت، وأليكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville) (3) ، وإميل دوركايم، وأدولف كوتليه (Adolphe Quetele) (4) ...
وعليه، يعد سان سيمون من رواد السوسيولوجيا الوضعية؛ عندما ثار على الفكر اللاهوتي، وتمسك بالعلم في دراسة علم الاجتماع على غرار العلوم الطبيعية. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" إن الوضعية بهذا المعنى المحدد تجد بذورها عند سان سيمون، وربما أمكن القول بأن الفكر الوضعي مع سان سيمون كان على درجة من الوضوح بحيث لانجد اختلافا في التحليل وأسلوب التفكير بينه وبين كونت، وإن كان هذا الأخير قد وسع دائرة الوضعية وجعل منها نظرية متكاملة ذات بعد فلسفي تستوعب كل التراث الإنساني في ماضيه وحاضره، وجعل منها منطلقا في التحليل يمتد إلى كل أطراف العلوم الطبيعية منها والاجتماعية والإنسانية. وتكمن العقدة التي وجهت الوضعية في هذه المعادلة البسيطة: أن التفكير الديني ساد في المجتمعات ماقبل العلمية، أما وقد بلغ المجتمع مرحلة الوضعية، فلامبرر للاحتفاظ بالتجريدات والبراهين الميتافيزيقية ...
فالتحول من التفكير اللاهوتي إلى التفكير العلمي الوضعي حسب سان سيمون هو أمر واقعي يتفق مع السير العام لتقدم العقل الإنساني. ولكن سان سيمون لايقف عند هذا الحد في تبرير قيام التفكير الوضعي، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فهذا التحول ليس ظاهرة تاريخية فحسب يعبر عن المراحل التي قطعها العقل الإنساني، بل إن الثورة العقلية تعتبر تحولا يستجيب للثورة المعاصرة. فهي ضرورة من ضروريات هذا العصر. وقد وضع سان سيمون بذرة المذهب الاجتماعي كما بلوره كونت، فعلم الإنسان حسب كونت سيكون موضوعه الأساسي هو إعادة النظر في التاريخ من الوجهة الوضعية ... والنظر في التنظيم الاجتماعي من وجهة علمية هو قبل كل شيء فهمه في سيرورته وإدراج كل عنصر من عناصره في التتابع الزمني. وعلى هذا الأساس، فإن وظيفة علم الإنسان ستكون متعارضة تماما مع الوظائف القديمة التي تؤديها المعرفة اللاهوتية أو الفلسفية. فهذا العلم لن يكون أبدا من وظيفته اضطهاد الفكر وإبعاده عن المشاكل الواقعية." (1)
وهكذا، يرسي سان سيمون علم الاجتماع على المبدإ العلمي الموضوعي والتجريبي، مع استلهام العلوم الطبيعية، وتجاوز الفكر اللاهوتي الكنسي.
مصادر و المراجع :
١- نظريات علم الاجتماع
المؤلف: د. جميل
حمداوي
الطبعة: الأولى
2015 م
حقوق الطبع
محفوظة للمؤلف
27 أبريل 2024
تعليقات (0)