المنشورات
النظرية الوظيفية الكلاسيكية
تنبني المقاربة الوظيفية على تشبيه المجتمع بالكائن العضوي الحي. بمعنى أن المجتمع يتكون من مجموعة من العناصر والبنيات والأنظمة. ويؤدي كل عنصر من هذه العناصر وظيفة ما داخل هذا الجهاز المجتمعي. وبهذا، يترابط كل عنصر في النسق بوظيفة ما. ومن ثم، فالمجتمع نظام متكامل ومترابط ومتماسك، يهدف إلى تحقيق التوازن والحفاظ على المكتسبات المجتمعية. ومن ثم، يقوم الدين والتربية - مثلا- بالحفاظ على توازن المجتمع.
وخير من يمثل هذه المقاربة الفرنسي إميل دوركايم، والأمريكيان تلكوت بارسونز (Talcott Parsons) (1) وروبرت ميرتون (R.Merton) (2) على سبيل التمثيل. وقد كان لهذه النظرية إشعاع كبير في سنوات الخمسين من القرن الماضي.
ويعني هذا أن النظرية الوظيفية تعتبر " المجتمع نظاما معقدا تعمل شتى أجزاؤه سويا لتحقيق الاستقرار والتضامن بين مكوناته. ووفقا لهذه المقاربة، فإن على علم الاجتماع استقصاء علاقة مكونات المجتمع بعضها ببعض وصلتها بالمجتمع برمته. ويمكننا على هذا الأساس أن نحلل، على سبيل المثال، المعتقدات الدينية والعادات الاجتماعية، بإظهار صلتها بغيرها من مؤسسات المجتمع؛ لأن أجزاء المجتمع المختلفة تنمو بصورة متقاربة بعضها مع بعض.
ولدراسة الوظيفة التي تؤديها إحدى الممارسات أو المؤسسات الاجتماعية، فإن علينا أن نحلل ما تقدمه المساهمة أو الممارسة لضمان ديمومة المجتمع. وطالما استخدم الوظيفيون، ومنهم كونت ودركايم، مبدأ المشابهة العضوية للمقارنة بين عمل المجتمع بما يناظره في الكائنات العضوية. ويرى هؤلاء أن أجزاء المجتمع وأطرافه تعمل سويا، وبصورة متناسقة، كما تعمل أعضاء الجسم البشري، لما فيه نفع المجتمع بمجمله. وليتسنى لنا دراسة أحد أعضاء الجسم، كالقلب على سبيل المثال، فإن علينا أن نبين كيفية ارتباطه بأعضاء الجسم الأخرى ووظائفه. وعند ضخ الدم في سائر أجزاء الجسم، يؤدي القلب دورا حيويا في استمرار الحياة في الكائن الحي. وبالمثل، فإن تحليل الوظائف التي يقوم بها أحد تكوينات المجتمع يتطلب منا أن نبين الدور الذي تلعبه في استمرار وجود المجتمع، ودوام عافيته." (1)
ومن هنا، تنبني النظرية الوظيفية على مجموعة من المبادئ والمفاهيم الأساسية، مثل: العنصر، والوظيفة، والنسق، والعلاقات المختلفة، والبناء الاجتماعي، والمشابهة العضوية، والدور، والمكانة الاجتماعية، والمتطلبات الوظيفية، والبدائل الوظيفية، والمعوقات الوظيفية، والوظائف الظاهرة، والوظائف الكامنة، والجزء في خدمة الكل، والتضامن العضوي، والمحافظة والاستقرار، والنظام والتوازن، والأدوار الحيوية، والاتساق والانسجام، والتماسك الاجتماعي مقابل مبدإ التجزئة والصراع ..
وإذا أخذنا المجال التربوي على سبيل المثال، فإن " المدرسة الوظيفية تشدد على أهمية الاجتماع الأخلاقي في الحفاظ على النظام والاستقرار في المجتمع. ويتجلى الإجماع الأخلاقي هذا عندما يشترك أغلب الناس في المجتمع في القيم نفسها. ويرى الوظيفيون أن النظام والتوازن يمثلان الحالة الاعتيادية للمجتمع، ويرتكز التوازن الاجتماعي على وجود إجماع أخلاقي بين أعضاء المجتمع. إن دوركايم، على سبيل المثال، كان يعتقد أن الدين يؤكد تمسك الناس بالقيم الاجتماعية الجوهرية، ويسهم بالتالي في صياغة التماسك الاجتماعي.
وربما كان التفكير الوظيفي يحتل مكانة الصدارة بين التقاليد النظرية في علم الاجتماع لوقت طويل، ولاسيما في الولايات المتحدة. وكان تلكوت بارسونز وروبرت ميرتون، وقد نهل كلاهما من أفكار دوركايم، أبرز الداعين إلى هذا التيار، غير أن الشعبية التي كانت تتمتع بها المدرسة الوظيفية قد مالت إلى الأفول في الآونة الأخيرة، بعد أن اتضح ماتعانيه من أوجه القصور والثغرات. ومن جملة ما يوجه لها من انتقادات أنها تغالي في التشديد على العوامل المؤدية إلى التماسك الاجتماعي على حساب العوامل الأخرى التي تفضي إلى التجزئة والصراع. إن التركيز على نواحي الاستقرار والنظام يعني التقليل من أهمية التقسيمات والتفاوتات التي تنشأ في المجتمع على أساس الطبقة والعرق والجنس. كما أن الوظيفيين يميلون إلى التقليل من دور الفعل الاجتماعي الخلاق في المجتمع. ويرى كثير من النقاد أن التحليل الوظيفي يسبغ على بعض المجتمعات صفات اجتماعية لاتوجد فيها. ذلك أن الوظيفيين كثيرا ما يقولون: إن للمجتمع حاجات، وإن له أهدافا على الرغم من أن هذه المفاهيم لاتصدق إلا على الأفراد من البشر. (1) "
ومن جهة أخرى، يستند الاتجاه الوظيفي إلى التجربة العقلية، واستخدام المنهج المقارن كما وكيفا، وملاحظة النتائج المترتبة على حدوث الاضطرابات في المجتمع وتحليلها.
ومن أهم الانتقادات الموجهة إلى هذا الاتجاه أنه تيار إيديولوجي محافظ، يهدف إلى خلق مجتمع منظم ومتناسق ومتماسك ومستقر اجتماعيا، يخلو من الصراع والتناقضات الجدلية. لذا، يعتبر النظام أو التوازن أو الاستقرار الهدف المنشود الذي يسعى إليه هذا الاتجاه السوسيولوجي. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:" يجمع النقاد على الطابع الإيديولوجي المحافظ للاتجاه البنائي الوظيفي، والذي يتضح بجلاء في قيامه على مسلمة أساسية تتمثل في وحدة وترابط أجزاء النسق ووظائفه، وفي تأكيده المبالغ فيه لأهمية التكامل والتوازن والاستقرار داخل المجتمع، هذا فضلا عن اعتماده الكبير على تشبيه المجتمع الإنساني بالكائن الحي، حتى أصبحت صحة المجتمع مرادفة للنظام، ومرضه مرادفا للصراع. لقد حاول الاتجاه البنائي الوظيفي بكل جهة أن يلغي فكرة وجود تناقضات داخل الأنساق الاجتماعية، ولما بات ذلك من المستحيل وغير المقنع، نظرا إلى عدم القدرة على إغفاله في واقع الحياة، تبنى الكثير من أصحاب هذا الاتجاه مبدأ وجوده على أنه حالة استثنائية تعبر عن مرض اجتماعي، مع التأكيد أن التوازن والتكامل هما الحالة الطبيعية التي تمثل النموذج الأمثل للنظام." (1)
ومن هنا، يدافع هذا الاتجاه عن القيم البورجوازية وتوجهات الرأسمالية المحافظة. وفي هذا، يقول رايت ميلز:" لقد حول بارسونز المجتمع بأسره إلى مجرد قيم ومعايير، أو إلى رموز مجردة توجد مستقلة عن البشر، وتفرض عليهم سلطانها، وأغفل تماما الأساس الاقتصادي والسياسي للمجتمع، وعبر بوضوح عن انحيازه الإيديولوجي للطبقة الحاكمة. والإنسان عنده غير قادر على تغيير هذه الأنساق القيمية، ولكن عليه أن يخضع لها ويتكيف معها." (2)
ويضيف: " إن تأكيد بارسونز على فكرة التوازن عن طريق الخضوع للمعايير السائدة والمشتركة بين الناس، إنما هو تحذير من أي تمرد أو محاولة لتغيير الأوضاع القائمة" (3).
ومن ثم، فبارسونز مفكر اجتماعي محافظ، يبحث عن استقرار مجتمعي مفوض ومبارك من الله. وفي هذا، يقول بوبوف:" يقرر بارسونز أن بواعث وأهداف الأفعال الاجتماعية لاتحددها الأسباب المادية، بل تحددها سيكولوجية الأفراد بوصفهم ممثلين يقومون بأدوار محددة لهم من قبل، تحددها القيم التي يعتبرونها مطلقة وأبدية، لأن مصدرها هو مجال غير حسي أو تجريبي. أي: إنه الله. وهنا، يتفق بارسونز مع كل من يبررون للسلطة حكمها في كل زمان بادعاء أنها ممثلة لإرادة الله. (1) "
ومن هنا، يحمل بارسونز، ضمن آرائه النظرية، تصورا محافظا للوجود. وفي هذا الصدد، يقول خضر زكريا:" إن مشكلة بارسونز تكمن في أنه يدعي تأسيس نظرية عامة للفعل، تنطبق على جميع الناس في جميع البلدان، ومختلف الأزمان، بينما هو في الواقع يدعو للحفاظ على النظام الرأسمالي القائم في بلده (أمريكا)، ويبرر علاقاته ومؤسساته وأنظمة القوة فيه، بوصفها الأسس التي تقوم عليها جميع المجتمعات، أو على الأقل المجتمعات المرغوبة (المستقرة، المتكاملة، التي تسودها القيم المشتركة).وتعبر بحوثه في نظم القرابة، والطبقات الاجتماعية، وتنظيمات القوة، وغيرها من البحوث التي تتناول البيانات الواقعية لبعض المجتمعات، تعبيرا واضحا عن النزعة المذكورة ...
إنه يرى - مثلا- أن التدريج وعدم المساواة بين الناس يعود إلى أنهم يؤدون أعمالهم إما بشكل جيد أو رديء، كما أن مهارتهم وكفاءتهم يجري تقويمهما وترتيبهما في درجات ومراتب. أين نظام الملكية؟ وأين تأثير القوى المهيمنة؟ ألا يتحكم رأس المال الاحتكاري بكثير من آليات التفاوت؟ هل مقياس الكفاءة والفعالية وحدهما هما اللذان يحددان مكان الفرد أو الجماعة في المجتمع الرأسمالي المعاصر؟ " (2)
ويتميز هذا الاتجاه بانفصام النظرية عن الواقع، فأصحابه يتبنون فكرة النظام والاستقرار. في حين، يتسم الواقع بالأزمة والتناقضات الجدية البارزة والحادة. وفي هذا السياق، يقول أحمد مجدي حجازي:" لقد رأى أصحاب الفكر المحافظ أن الفجوة قد أصبحت أكثر اتساعا بين الشواهد الواقعية، والفكر السسويولوجي السائد، نظرا إلى أن شواهد الواقع لاتشير إلى تأصيل الاستقرار كهدف سعى إليه رجال هذا الفكر. وإزاء هذا الموقف المأزوم، أصبح هدف علم الاجتماع، من وجهة نظر علماء القرن العشرين، يتمثل في كيفية التوصل إلى الحبكة المنهجية والصياغة النظرية المقنعة لمفهوم الأزمة، أو محاولة تخطيها من جانب، ومواجهة الفكر الراديكالي من جانب آخر." (1)
وهكذا، نخلص إلى أن الاتجاه الوظيفي هو تيار سوسيولوجي يركز على البنية والوظيفة. ومن ثم، فهو تصور بنيوي نسقي يربط كل عنصر في المجتمع بوظيفة ما. ويكون الهدف من ذلك كله هو تحقيق النظام والاستقرار والتوازن والتضامن. بيد أن هذا الاتجاه يغلب عليه الطابع الإيديولوجي المحافظ من جهة. ومن جهة أخرى، يدافع عن التواجد الليبرالي البورجوازي، باعتباره النظام الاقتصادي البديل الذي يؤدي إلى الحفاظ على ثوابت المجتمع، ومراعاة تماسكه اجتماعيا وطبقيا واقتصاديا ونفسانيا.
مصادر و المراجع :
١- نظريات علم الاجتماع
المؤلف: د. جميل
حمداوي
الطبعة: الأولى
2015 م
حقوق الطبع
محفوظة للمؤلف
27 أبريل 2024
تعليقات (0)