المنشورات

التصور النظري

إذا كانت الليبرالية تقوم على أسس خمسة هي: الفرد، والعقل، والحرية، والتسامح، والعدالة، فإن الاشتراكية العلمية، مع كارل ماركس وإنجلز، قد تجاوت الاشتراكية الطوباوية بأحلامها المثالية الموغلة في التجريد، كما يبدو ذلك جليا عند سان سيمون (Saint -Simon)،  وشارل فورييه (Charles Fourier)،  وإتيان كابيه (Etienne Cabet).
ومن ثم، ترتكز الاشتراكية العلمية على مجموعة من المبادئ والمقومات الأساسية، كنقد المجتمع القائم؛ والدعوة إلى مجتمع جديد أفضل؛ والدعوة إلى الثورة ونشرها عالميا؛ وإلغاء الملكية الخاصة؛ وتحقيق المساواة بين الأفراد؛ وتدخل الدولة في تنظيم الحياة الاقتصادية؛ وسيطرة البروليتاريا (العمال والفلاحون) على مقاليد الأمور والحكم؛ وتقييد حرية الأفراد في التملك والكسب والتصرف؛ والتوسع في الخدمات الاجتماعية والصحية (1)؛ والانتقال من مجتمع اشتراكي إلى مجتمع شيوعي بدون طبقات أو دولة، يشيع فيه المال والملكية الخاصة والنساء. وفي هذا، يقول لينين:"فما بقيت الدولة لاوجود للحرية وعندما توجد الحرية تنعدم الدولة ... إن الأساس الاقتصادي لاضمحلال الدولة اضمحلالا تاما هو تطور الشيوعية تطورا كبيرا، يزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي، عندئذ يمكن للدولة أن تضمحل تماما عندما يعتاد الناس تماما مراعاة القواعد الأساسية للحياة في المجتمع، وعندما يصبح عملهم لدرجة تجعلهم يعملون طوعا حسب طاقتهم. (1) "
ويضيف:" نحن لسنا بخياليين، ونحن لاننكر ضرورة قمع مثل هذه المخالفات، ولكن هذا لا يحتاج إلى ماكينة خاصة للقمع؛ إلى جهاز خاص للقمع؛ فالشعب المسلح نفسه يقوم به ببساطة كما تقوم جماعة من الناس المتمدنين حتى في المجتمع الراهن بتفريق متشاجرين، أو الحيلولة دون الاعتداء على امرأة. وثانيا، نحن نعلم أن السبب الاجتماعي الأساسي للمخالفات التي تتجلى في الإخلال بقواعد الحياة في المجتمع هو استثمار الجماهير وبؤسها، عندما يزول هذا السبب الرئيسي، تأخذ المخالفات لامحالة في الاضمحلال. نحن لانعلم بأية سرعة وبأي تدرج، ولكننا نعلم أنها ستضمحل حتما، ومع هذا الاضمحلال تضمحل الدولة أيضا. (2) "
بيد أننا في حاجة ماسة، اليوم، إلى التمسك بتلابيب الدولة وتقويتها مؤسساتيا، وخاصة مع كثرة الاضطرابات والفتن والقلاقل والحروب والصراعات بين العشائر والقبائل والطوائف والإثنيات والدول ... لذا، فتصور ماركس أو لينين بانتهاء الدولة مع الشيوعية مجرد خيال طوباوي حالم، لا أساس له من الصحة المنطقية أو الواقعية أو السياسية.
وعليه، ينبني التصور السوسيولوجي، عند ماركس وأنجلز معا، على المنظور المادي التاريخي والجدلي، بإقامة مجتمع اشتراكي تسيطر فيه الطبقة البروليتارية على وسائل الإنتاج، ريثما يتحقق الانتقال إلى المجتمع الشيوعي الذي تنعدم فيه الدولة والطبقات، وتشيع فيه الأموال والنساء. وينبني هذا التصور الماركسي على مراحل تاريخية متعاقبة هي: مرحلة انتصار الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي؛ ومرحلة التكوين الاشتراكي العالمي؛ ومرحلة الشيوعية، وتحول الدول الرأسمالية إلى دول اشتراكية، ثم الانتقال إلى دول شيوعية.
بيد أن هذه المراحل والتصورات الماركسية عبارة عن أحلام يوطوبية بمفهوم كارل مانهايم (Karl Mannheim)  لليوطوبيا التي تعني عدم تطابق الحالة العقلية مع الواقع. وهذا ما جعل بوتومور يقول:" إن الذي يتعذر غفرانه هو أن ماركس قد عمد إلى التضحية بالعلم الوضعي على مذبح الميتافيزيقا، وإنه لم يبد في البحث إلا ذلك الدليل الذي يؤيد الرؤية للعالم والتاريخ يبدعها خيال شعري وفلسفي لايرقى إليه شك بعدئذ. وباختصار، إنه ماركسي فج، وكان المبشر والداعي إلى عقيدته. (1) "
ويعني هذا أن الماركسية عبارة عن فكر ميتافيزيقي لايمت بصلة إلى الواقع العلمي والوضعي. وبالتالي، فالسوسيولوجيا الماركسية عبارة عن سوسيولوجيا ثورية راديكالية انتقادية وتقويضية، لايهما سوى خوض الصراع الجدلي لتقويض الفكر الليبرالي البورجوازي.
وهكذا، فقد " ارتدى الإسهام العلمي لماركس وأنجلز ثوبا إيديولوجيا راديكاليا، لأنه لم يقف عند حدود الكشف عن الطابع الاستغلالي للنظام الرأسمالي من خلال التفسير العلمي الموضوعي، ولكنه تجاوزه إلى الدعوة إلى إقامة مجتمع بديل يقوم على رؤية ايديولوجية اشتراكية. ومن هنا، صنفت أعمال ماركس وإنجلز ومن نحا نحوهما ضمن ما يسمى بعلم الاجتماع الراديكالي، وكان من الطبيعي أن يدخل هذا الأخير في صراع إيديولوجي مع علم الاجتماع اليبرالي، على غرار الصراع الإيديولوجي القائم بين الليبرالية والاشتراكية." (1)
وأكثر من هذا، يغيب الطابع العلمي في السوسيولوجيا الماركسية، وتتحول إلى عقيدة إيديولوجية ضحلة تعيق التقدم والتطور والازدهار. وفي هذا، يقول محمد محمد أمزيان:" إن هذه الدعوة العقائدية التي تميزت بها النظرية الماركسية لم تكن خاصة بها، فهي خاصية من خصائص المنهج الوضعي على العموم، وهي نفسها التي وجهت الوضعية في بحوثها. وهذه الدعوة العقائدية، نظرا لما تنطوي عليه من ضحالة فكرية تقف في وجه التفكير العلمي الصحيح، وتعرقل مسيرته نحو النمو، وتنتهي به إلى كثير من الضلال المنهجي، ويتحول العلم معها إلى الاعتقاد في العلم يتحول معه هذا الأخير إلى عقائدية ميتافيزيقية لها طابع فلسفي ينأى بالفكر العلمي عن بلوغ أهدافه، ويتيه في مثاليات يؤمن بها الباحث المتعصب لمذهبه، ويظل حبيسا للنزعات الذاتية والآراء الشخصية والافتراضات القبلية .... ". (2)
وهكذا، يمكن القول: إن سوسيولوجيا ماركس هي سوسيولوجيا ثورية راديكالية، تنقد الواقع الكائن، بتغييره نحو الأحسن، باستشراف واقع ممكن أفضل، يسود فيه الوعي الواقعي الحقيقي، وهو وعي الطبقات العمالية المبني على تغيير الظروف المستلبة، بالسيطرة على وسائل الإنتاج، وخلق أساليب إنتاجية جديدة.











مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید