المنشورات

التصور المنهجي

تستند النظرية الماركسية إلى المادية الجدلية القائمة على فكرة الصراع الكمي والكيفي، والإيمان بالجدل الثلاثي: الأطروحة، ونقيض الأطروحة، والتركيب، والاعتماد على المادية التاريخية في تفسير تطور المجتمعات البشرية. وقد تأثر ماركس تأثرا كبيرا بأفكار هيجل (Hegel).  إلا أن مثالية هيجل المطلقة لم تعجب كارل ماركس، مادامت تؤمن بأهمية الفكر في تغيير الواقعي بشكل ديالكتيكي. في حين، قلب ماركس هذه المعادلة الجدلية المثالية ليصبح الواقع المادي هو أساس الفكر، له الأسبقية والتأسيس والتوجيه. وفي هذا، يقول ماركس في كتابه (رأس المال):"إن منهجي الديالكتيكي لايختلف عن المنهج الجدلي الهيجيلي من حيث الأساس وحسب، بل إنه الضد المقابل له مباشرة. فالبنسبة لهيجل: إن عملية تطور الفكر ونموه، هذه العملية التي يشخصها ويعتبرها مستقلة، ويطلق عليها اسم الفكرة، هي في نظره خالقة الواقع. فما الواقع في نظره إلا المظهر الخارجي للفكر. أما بالنسبة لي، فإن عالم الأفكار ليس إلا العالم المادي منقولا إلى الذهن البشري ومترجما فيه." (1)
ومن ثم، فالديالكتيك عند هيجل" يسير على رأسه. وتكفي إعادته على قدميه لكي نرى له هيئة معقولة تماما. (2) "
وكان كارل ماركس قد كتب رسالة إلى أحد أصدقائه يقول فيها:" إن منهجي في التحليل ليس هو منهج هيجل، لأنني مادي، وهيجل مثالي. إن ديالكتيك هيجل هو الشكل الأساسي لكل ديالكتيك، ولكن بعد أن يتعرى من صورته الصوفية. وهذا بعينه ما يميز منهجي. (1) "
ومن هنا، تتجاوز مادية كارل ماركس الجدلية الماديات السابقة كالمادية الأرسطية؛ والمادية الذرية مع ديمقريطيس؛ والمادية التجريبية الإنجليزية مع جون لوك، ودافيد هيوم، واستيوارت ميل؛ والمادية الميكانيكية مع فيورباخ. وهنا، تعطى الأسبقية لما هو مادي واقتصادي على ماهو فكري وإيديولوجي. كما أن البنية التحتية ذات الطبيعة المادية هي التي تتحكم في البنية الفوقية القائمة على الفكر والدين والتصوف والأدب والفن والإيديولوجيا ... وفي هذا، يقول ماركس:" ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل على العكس من ذلك، إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم" (2).
ويعني هذا أن ما هو اقتصادي ومادي ومجتمعي هو الذي يحدد فكر الناس ووعيهم ووجودهم. ولايعني هذا أن الفكر سلبي، لادور له في تغيير المجتمع أو التأثير فيه، بل يؤمن بفعاليته وخصوبته، وتأثيره في المجتمع المادي المحسوس. وفي هذا، يقول ماركس:" إن العيب الرئيس للمادية السابقة كلها، بما فيها مادية فيورباخ، هو أن الشيء، الواقع، العالم المحسوس، لاينظر إليه فيها إلا على شكل موضوع تأمل وليس كفاعلية إنسانية مشخصة، ليس كممارسة، وليس ذاتيا ... إن المذهب المادي القائل إن الناس هم نتاج الظروف والتربية، وأن الناس الذين تغيروا هم بالتالي نتاج ظروف أخرى وتربية تغيرت، أن هذا المذهب المادي ينسى أن الناس هم بالضبط الذين يغيرون الظروف، وأن المربي نفسه هو في حاجة إلى أن يربى (1)."
وعليه، فثمة علاقة جدلية أو علاقة تأثر وتأثير بين الفكر والواقع، بين الوعي والمادة، بين البنى الفوقية والبنى التحتية.
أضف إلى ذلك أن المادة عند ماركس ليست ساكنة، بل متحركة وديناميكية، وفي حركة دائمة. وهذه الحركات أنواع: حركة ميكانيكية (في المكان)، وحركة فيزيائية (داخل المادة نفسها)، وحركة كيماوية (تفاعلات)، وحركة بيولوجية (حركة الأعضاء)، وحركة اجتماعية (العلاقات الاجتماعية وتطور المجتمع والتاريخ) ... وتنتج هذه الحركات عن التناقضات الجدلية الداخلية والخارجية، والتناقضات الكمية والكيفية.
وعليه، فقد تبنى ماركس المادية التاريخية ذات الأساس الجدلي. وهي نظرية وفلسفة ومنهجية وممارسة علمية وعملية. ومن ثم، ترفض الماركسية الجدلية ميكانيكية فيورباخ، ومثالية هيجل، والفلسفة الوضعية التي تبوئ العلم مكانة كبرى. في حين، ترى العالم قائما على الصراع الجدلي، أساسه التناقضات الداخلية والخارجية، والتناقضات الكمية والكيفية. ويعني هذا إذا كانت الوضعية تقول بالنظام والتوازن والتكامل، فإن جدلية ماركس تقول بالصراع والتناقض الديالكتيكي. ومن ثم، فالحقائق ليست مطلقة أو نهائية، بل هي تحليل ملموس لموقف ملموس. علاوة على ذلك، فالماركسية، إلى جانب كونها فلسفة ومنهجية، فهي عمل وممارسة، أو كما يقول لينين دليل للعمل. وبهذا، يكون الباركسيس أو العمل أو الممارسة أفضل بكثير من النظريات المجردة. إذاً، فالعملي أكثر أهمية من النظري. ويؤكد ماوتسي تونغ هذه الفكرة بقوله:" إن ممارسة الإنسان هي وحدها مقياس الحقيقة. لأن المعرفة الإنسانية لاتثبت صحتها إلا حين يتوصل الإنسان إلى النتائج المقدرة سلفا بواسطة عملية الممارسة، إن عملية المعرفة تبدأ بالممارسة وتبلغ المستوى النظري بواسطة الممارسة، ومن ثمة ينبغي لها أن ترجع إلى الممارسة ... إن مشكلة معرفة ما إذا كانت النظرية صحيحة، متفقة مع الحقائق الموضوعية، لاتحل تماما إلا بإعادة توجيه المعرفة العقلية إلى الممارسة الاجتماعية، وتطبيق النظرية على الممارسة للتحقق مما إذا كانت تستطيع أن تحقق النتائج المرتقبة ... (1) "
ومن جهة أخرى، أهم شيء في المادية التاريخية هو منهجها الدياليكتيكي الذي يتحكم في الممارسة بالتعديل والتصحيح والتغيير. ومن ثم، فقوانين الديالكتيك المادي - حسب فردريك أنجلز (Friedrich Engels) (2) -  ثلاثة هي:
(قانون وحدة المتناقضات وصراعها. بمعنى أن المتناقضات الجدلية توجد داخل الشيء الواحد، وأنه لايمكن الفصل بين الشيء وتناقضه، أو الفصل بين الأطراف المتناقضة عن بعضها البعض. كما أن أشياء العالم تتكون من المواد الجامدة والحية. وعلى الرغم من تنافر الضدين وتناقضهما فهما متلازمان جدليا، وهذا التناقض أو الصراع هو أساس التطور والنمو. ويقول لينين:" إن النمو هو صراع الأضداد". ومن ثم، فهناك نوعان من التناقضات: تناقضات داخلية تقع داخل الشيء الواحد، وتناقضات خارجية بمثابة صراع الشيء مع محيطه الخارجي. لذلك، فالتناقضات الداخلية أهم من الخارجية. وفي هذا، يقول ماوتسي تونغ:"يعتبر الديالكتيك المادي أن الأسباب الخارجية هي شرط التبدل، والأسباب الداخلية هي أساس التبدل. والأسباب الخارجية إنما تفعل فعلها عن طريق الأسباب الداخلية. فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لاتستطيع أن تحول الحجر إلى كتكوت، لأن أساس التبدل في الأول يختلف عنه في الثاني (1)."
كما تميز المادية الجدلية بين التناقضات الداخلية والخارجية، تميز أيضا بين التناقض الأساسية والتناقضات الثانوية. فالتناقض الأساس هو الذي يقوم بالدور الحاسم والمؤثر في الصراع. في حين، يعد دور التناقض الثانوي مكملا وهامشيا. وفي هذا الصدد، يقول ماوتسي تونغ:" ثمة تناقضات عديدة في عملية تطور شيء معقد. ومنها تناقض هو بالضرورة التناقض الرئيسي الذي يحدد وجوده وتطوره، وجود التناقضات الأخرى أو يؤثر فيها. (2) "
ويعني هذا أن التناقض الرئيسي (أ) قد يكون له دور كبير في فترة زمنية معينة إلى جانب التناقضات الثانوية (ب) و (ج). لكن مع تغير الظروف التاريخية والتطورية والنمائية، قد يصبح تناقض (ب) أكثر أهمية من تناقض (أ).
ومن ناحية أخرى، قد ينتج عن التناقضات صراع من نوع صراع الأضداد، مثل: صراع البورجوازية مع العمال ينتج عنه صراع الطبقات. وقد لاينتج عن تلك التناقضات أي صراع، مثل: التناقضات داخل الطبقة العمالية نفسها التي تختفي بالممارسة الثورية، وعملية النقد الذاتي.
(قانون تحول الكم إلى كيف: ويعني هذا أن التحولات الكمية قد تنتج عنها تحولات كيفية، مثل: غليان الماء في درجة معينة على مستوى الكم، ينتج عنه تحول كيفي بالانتقال من الماء إلى البخار. وقد يحدث التحول الكيفي إما بشكل مباغت ومفاجئ، وإما بشكل طفرة أو قفزة في شكل دفعة واحدة أو دفعات متعاقبة، وإما بشكل تدريجي. ومن ثم، فدلالة قانون تحول الكم إلى الكيف يعني" أن التزايد التدريجي في التغيرات التي تخلق الكم، والتي تكون أول الأمر ضعيفة غير مشاهدة، تؤدي عندما تصل درجة معينة، إلى تغيرات كيفية جذرية تختفي معها الكيفية القديمة لتحل محلها كيفية جديدة، ينتج عنها بدورها تغيرات كمية. (1) "
ويعني هذا كله أن التراكم الكمي ينتج عنه تحول كيفي بصيغ متعددة ومختلفة ومتنوعة. ويقول ماركس:" إنه في مرحلة ما من مراحل التطور، يؤدي التغير البسيط في الكم الذي بلغ درجة معينة، إلى اختلافات في الكيفية. (2) "
(قانون نفي النفي: يقصد بنفي النفي نقيض الأطروحة ونفيها. بمعنى أن الشيء له أطروحة (Thèse)،  ونقيض (Antithèse)،  وتركيب  Synthèse)).  فظهور الشيء الجديد من القديم يعتبر نفيا للقديم. ولكن هذا الجديد بدوره يصبح قديما، فيأتي جديد آخر ليصبح نفيا للنفي. ولابد من الاحتفاظ، أثناء عملية نفي النفي، بالجوانب الإيجابية في المنفي، وتفادي سلبياته؛ لأن عملية نفي النفي تساعد على النمو والتقدم والازدهار، وإلا أدى ذلك إلى التكرار والوقوف عند حدود دائرة مغلقة. ومن هنا، فالتاريخ، في المنظور الجدلي، يسير في خط مستقيم بشكل تصاعدي من الأدنى إلى الأعلى، في إطار تطور جدلي ديالكتيكي، يتصارع فيه القديم والجديد، ويتم هذا التقدم التاريخي في شكل حركة لولبية، ولكن تظهر من حين لأخرى بعض الحوادث التي تتخذ طابعا تكراريا، فنقول: إن التاريخ يعيد نفسه: لكن هذا لايؤثر في مسار التاريخ وتقدمه وتطوره إلى الأمام.
وقد صاغ ستالين أربعة قوانين في كتابه (المادية الجدلية والمادية التاريخية) عام 1938 م، حيث أضاف قانونا رابعا على الوجه التالي:
(قانون الترابط العام بين الظواهر؛
(قانون الحركة والتطور في الطبيعة والمجتمع؛
(قانون التحول من الكم إلى الكيف؛
(قانون صراع المتناقضات.
بيد أن المفكرين الإيديولوجيين في الاتحاد السوفياتي عادوا، بعد وفاة ستالين، إلى قوانين إنجلز الثلاثة.
وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن السوسيولوجيا الماركسية مرتبطة بكارل ماركس من جهة، وأنجلز من جهة أخرى. وتؤمن السوسيولوجيا الماركسية بأهمية العمل وأسبقيته على الفكر النظري. وبالتالي، فالممارسة العملية أو البراكسيسية أساس تطور المجتمعات. كما أن الأساس المادي والاقتصادي والمجتمعي أهم من البنى الفوقية. ومن ثم، تنبني السوسيولوجيا الماركسية على المنهج الجدلي القائم على القوانين الثلاثة، ووحدة صراع المتناقضات، وقانون الكم والكيف، وقانون نفي النفي.
وما يلاحظ على هذه السوسيولوجيا أنها رؤية ثورية تقويضية وراديكالية أساسها التغيير الجدلي انطلاقا من المادية التاريخية، لكن يغلب عليها الطابع الميتافيزيقي، والرؤية الشعرية الحالمة، والطوباوية الخيالية، وانفصال النظرية عن الواقع، وفشل التنبؤات الماركسية في تحقيق غاياتها ومراميها وأهدافها البعيدة. والدليل على ذلك أن تحولت الدول الاشتراكية إلى دول رأسمالية أو دول اقتصاد السوق بدلا من تحولها إلى دول شيوعية.












مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید