المنشورات

أطروحة بازل برنشتاين

انتشرت اللسانيات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمركية بشكل لافت للانتباه؛ بسبب تواجد الكثير من الجاليات الأجنبية. ومن ثم، فقد ارتبطت بمجال التربية والتعليم ارتباطا وثيقا، كما عند بازيل برنشتاين (Basil Bernstein)  الذي تحدث عن شفرتين لغوييتن اجتماعيين متقابلتين: لغة ضيقة ومفككة وضعيفة عند أبناء الفقراء، ولغة غنية وموسعة عند أبناء الأغنياء. وفي هذا الصدد، يقول عبد الكريم بوفرة:" انتبه برنشتاين إلى العلاقة المباشرة بين الإنتاجات اللغوية الواقعية وبين الوضعية الاجتماعية للمتكلمين أو الناطقين اللغويين. وانطلق من هذه الملاحظة لكي يصل إلى استنتاج عام، مفاده أن أبناء الشرائح الاجتماعية المتواضعة يعرفون نسب فشل دراسي أكبر من أولئك المنتمين إلى طبقات اجتماعية مستقرة ماديا. ويتميز هذا التفاوت بالفرق بين نظامين لغويين اثنين: واحد ضيق، والآخر متسع ...
ولمعرفة حجم الفرق بين النظامين أعلاه تم إخضاع تلاميذ المستويين الاجتماعيين المختلفين لتجربة مثيرة للاهتمام. فقد طلب منهم التعليق كتابة على مجموعة من الرسوم المتحركة الصامتة. فماذا كانت النتيجة؟
كان جواب الفئة الأولى (تلاميذ الطبقة الاجتماعية المتواضعة) على الشكل التالي:
" هم يلعبون بالكرة، قذف، تكسر الزجاج ... "
بينما كان تعليق الفئة الثانية (تلاميذ الطبقة الغنية) بهذا الأسلوب:
" كان الأطفال يلعبون بالكرة، قذف واحد منهم الكرة، ومرت عبر النافذة، وكسرت الزجاج ... "
ويكمن الفرق بين النظامين في شكل التعبير من الناحية اللغوية، أي من حيث قواعد النحو والتركيب أولا. ففي الحالة الأولى، نجد جملا قصيرة، تفتقر إلى ضمائر الربط مع معجم محدود جدا. لذا، يجد أولئك التلاميذ صعوبة كبرى في التعبير. فهم عاجزون عن التعلم، وعن رؤية العالم.
وهذا يعني أن التعلم والتنشئة الاجتماعية تنشأ في الأسرة، وليس في المدرسة." (1)
وعليه، فأطروحة بازل برنشتاين (1) ذات طابع لغوي ولساني. بمعنى أن المدرسة فضاء للصراع اللغوي واللساني. فلغة أبناء الطبقة الوسطى والعليا تتسم بالخصوبة، والاسترسال، والمرونة، والترابط المنطقي والحجاجي. وتميل أيضا إلى التجريد، والترميز، والصورنة المنطقية. علاوة على استعمالها للجمل الطويلة التي تعج بالنعوت والأوصاف والمصادر المؤولة وأدوات الوصل والفصل. في حين، تتسم لغة أبناء الطبقة الدنيا باستعمال شفرة لغوية ضيقة ومحدودة ومشخصة حسيا. كما أنها لغة مفككة ومهلهلة، غير خاضعة لعمليات التحليل والتأليف المنطقي استقراء واستنتاجا. بيد أن هذه النظرية لايمكن تعميمها بشكل علمي ومنطقي. فثمة أبناء من الطبقة الفقيرة يستعملون اللغة بشكل حيوي، ويحققون درجات من النجاح والتقدم في مستواهم الدراسي، على الرغم من فقر بيئتهم الاجتماعية. كما أن المدرسة ليست دائما مكانا للصراع الطبقي والاجتماعي والسياسي واللغوي والإيديولوجي، بل يمكن أن تكون المدرسة فضاء للتعايش والتواصل والاستقرار.
وخلاصة القول، تتميز المقاربة أو النظرية الصراعية - أولا- بتجاوزها للنظرية الوظيفية النسقية التي تدافع عن نظام المجتمع وتوازنه وتماسكه بنية ونسقا ووظيفة. وثانيا، تؤمن بوجود صراع متنوع ومختلف ومتعدد المستويات يتحكم في التفاوتات المجتمعية. ومن ثم، فقد تأثر رواد هذه المقاربة الصراعية بالنظريات الماركسية الجدلية، وتصوراتها المادية التاريخية. وتتميز عن الماركسية التقليدية بطابعها النقدي، واستخدام آليات علمية وتجريبية وإحصائية في تحليل الظواهر المجتمعية، ولاسيما ظاهرة الإخفاق الدراسي الذي تعكس اللامساواة الطبقية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية واللغوية.











مصادر و المراجع :

١- نظريات علم الاجتماع

المؤلف: د. جميل حمداوي

الطبعة: الأولى 2015 م

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید