المنشورات
التصور المنهجي
رفض غارافينكل وأتباعه استخدام المنهج الكمي، واستعمال الاستبيانات أو الاختبارات العلمية، أو أسلوب المقابلة المفتوحة، واستبدل ذلك بالملاحظة، والمنهج التوثيقي، والمنهج شبه التجريبي.
ومن ثم، فهذه النظرية عبارة عن منهجية أو ممارسة تطبيقية ظهرت في مجال الإثنوغرافيا، وتشير إلى مختلف التطبيقات التي أجريت على الجماعات الخاصة انطلاقا من أسئلة خاصة. وهناك، تخصص آخر يسمى بالإثنوطبي (l'ethnomédecine) الذي يعنى برصد مختلف الممارسات العلاجية التي استعملت في مجال الطب. ومن ثم، فالإثنومنهجية ليست منهجية خاصة، بل ميدان يهتم بالمنهجيات الإثنولوجية. ويعني هذا أن الإثنومنهجية تدرس الأنشطة الجماعية ليس من الخارج، بل من الداخل. ولهذه المنهجية علاقة وطيدة بالفينومونولوجيا، مادامت تركز على التجارب المعاشة في العالم. ويعني هذا أنها تهتم بالظواهر الإنسانية المختلفة، بمعايشتها وملاحظتها والتعاطف معها من الداخل. وبالتالي، تندرج هذه المنهجية السوسيولوجية ضمن العلوم الإنسانية، ولاعلاقة لها بالتصورات الوضعية عند أوجست كونت أو دوركايم. وتستند إلى مجموعة من التصورات والمرجعيات المختلفة لهوسرل (Husserl)، وفيتجنشتاين (Wittgenstein)، وإرفين كوفمان (Erving Goffman)، وشوتز (Schütz)، وبار هيلل (Schütz)، ونوام شومسكي (Noam Chomsky) ...
وتنبني هذه المنهجية على ثلاثة معايير أساسية هي: ملاحظة الواقع أو الميدان؛ ثم وضع حدود للموضوع الذي يحلله ويدرسه؛ ثم المعايشة القائمة على الحضور الفعلي داخل الميدان في الزمان والمكان، قصد وصف المعنى الذي تحمله أفعال جماعة معينة.
ومن المعلوم أن البحث الإثنوغرافي يشير عادة " إلى دراسة الأفراد والجماعات ميدانيا عن طريق المعايشة المباشرة على مدى فترة زمنية محددة، باستخدام الملاحظة التشاركية أو المقابلة الشخصية بقصد التعرف على أنماط السلوك الاجتماعي. ويهدف البحث الإثنزوغرافي إلى اكتشاف المعاني الكامنة وراء الفعل الاجتماعي، عن طريق انخراط الباحث المباشر بالتفاعلات التي يتكون منها الواقع الاجتماعي للجماعة المدروسة. وقد تمتد الفترة التي يعايش فيها العالم الاجتماعي جماعة أو مؤسسة أو مجتمعا محليا ما إلى عدة أشهر، وربما إلى سنوات لملاحظة الأنشطة اليومية والأحداث، وإيجاد تفسيرات لما يتخذ من قرارات أو ما يصدر عن الجماعات من أفعال وتصرفات. وربما تنطوي البحوث الإثنوغرافية على بعض المخاطر، سواء ما ينجم منها عن البيئة الطبيعية مثل المناطق الجبلية أو الصحراوية أو النائية، أو عن سياقات اجتماعية معينة مثل معايشة الفئات المنحرفة أو المشتبه بانخراطها في نشاطات جرمية.
وتقدم الإثنوغرافيات الناجحة ثروة من المعلومات والبيانات حول الحياة الاجتماعية، وتتفوق في هذا المجال على أساليب البحث الأخرى. فهي تدرس الجماعة البشرية من الداخل، ومن ثم تستطيع تقديم نظرة ثاقبة على أنشطتها ومقاصد الأفعال والقرارات التي تتخذها. كما يمكن هذا النوع من الدراسات أن يراقب ويدون ويحلل السيرورة/ العملية الاجتماعية التي تتمفصل وتتقاطع مع الوضع الاجتماعي المدروس. ويشار إلى البحوث الإثنوغرافية عادة بوصفها واحدة من أنواع الدراسات النوعية (الكيفية)، لأنها تعنى في المقام الأول بالفهم الذاتي للظاهرة أكثر مما تهتم بالبيانات الإحصائية الرقمية. كما أن البحث الإثنوغرافي يعطي الباحث قدرا واسعا من الحرية والمرونة والقدرة على التكيف مع الظروف والأوضاع الطارئة. وأخذ زمام المبادرة لتوجيه الدراسة لمتابعة البحث وفق التطورات المستجدة. غير أن للعمل الإثنوغرافي الميداني حدودا تقيده، ومخاطر منهجية قد تؤثر في ما يتوصل إليه من تحليلات ونتائج. فإن مجاله يقتصر على دراسة مجموعات صغيرة وقليلة من الجماعات. كما أن العمل نفسه يعتمد، إلى حد بعيد، على مهارة الباحث المهنية، وقدرته على كسب ثقة أفراد الجماعة. وقد يقع الباحث، من ناحية أخرى، تحت تأثير التصاقه وتعايشه ومشاركته الوجدانية للجماعة إلى حد يضيع معه منظوره المنهجي العلمي في دراسة الظاهرة باعتباره مراقبا موضوعيا محايدا." (1)
وعليه، فالمنهج الإثنوميتودولوجي له علاقة وثيقة ووطيدة بنظرية التفاعل الرمزي، وبالتصورات الفيبيرية. ومن ثم، فهو يعنى " بدراسة الكلام والمحادثة العادية بين الناس؛ ويختص هذا المنهج الذي وضع أصوله هارولد غارفنكل (2) بتحليل الطرائق التي نفسر بها ما يعنيه الآخرون بأقوالهم وأفعالهم، ويتسم الكلام اليومي بدرجة عالية من التعقيد، ويرتكز، في جوهره، على مجموعة من التفاهمات المشتركة بين من يتبادلون الحديث. وعندما تنتهك القواعد غير المعلنة للمحادثة، بصورة مقصودة أو غير مقصودة، فإن الناس يحسون بالانزعاج وبعدم الأمان." (3)
ويعني هذا أن الإثنومنهجية تحاول أن توضح وتشرح كيف يفهم الناس ما يقوله الآخرون، ويفعلونه أثناء اجتماعهم اليومي. وتستند هذه النظرية إلى المنهجيات الإثنوغرافية التي يستخدمها البشر في التواصل والتبادل الدال والهادف. ومن ثم، تدرس هذه النظرية كل خطاب تواصلي لغوي وغير لغوي. أي: نحن، في حياتنا اليومية العادية، نتواصل بالرموز والإشارات والعلامات البصرية والسيميائية. وفي الوقت نفسه، نتواصل باللغة كثيرا. ومن ثم، فاللغة ظاهرة اجتماعية بامتياز، وقد اهتمت بها اللسانيات الاجتماعية، والنظرية التفاعلية الرمزية مع إرفينغ غوفمان، والمنهجية الإثنوميتودولوجية مع غارفينكيل. ومن ثم، فمحاداثتنا اليومية تفترض تفاهمات مشتركة بين الناس. بيد أن انتهاك أعراف هذه التفاهمات ينتج عنها عواقب وخيمة، كالإحساس بالخطر، والشعور بعدم الأمان." إننا نكون أكثر ارتياحا عندما يلتزم الآخرون بالقواعد الخفية المضمرة المستقرة في تواصلنا الكلامي العابر مع الآخرين، وقد نصاب بالارتباك عن هذه الأصول. وفي الأغلبية الغالبة من محادثاتنا العادية اليومية نحرص على اكتشاف المؤشرات التي تبدر عن الآخرين للدلالة على مقاصدهم من عملية التفاعل مثل الإيماءات، ولحظات التأني أو التوقف. ويفضي هذا الوعي المشترك المتبادل إلى تيسير عملية التفاعل أو فتحها أو إغلاقها، وإلى إضفاء صفة التعاون أو عدمه على كل واحد من الأطراف المعنية." (1)
ومن هنا، فالإثنومنهجية عبارة عن تيار سوسيولوجي يصف الواقعية الاجتماعية، ويفهمها انطلاقا من تطبيقات عفوية وممارسات عادية للحياة اليومية. أي: تدرس هذه النظرية كل ماهو عفوي وعادي في الحياة اليومية فهما وتأويلا ومعايشة. ومن هنا، يركز التيار على دراسة مختلف الأنشطة الصادرة عن الأفراد في حياتهم العادية، باعتبارها ممارسات تطبيقية هادفة وواقعية وعاقلة وواعية وملاحظة.
مصادر و المراجع :
١- نظريات علم الاجتماع
المؤلف: د. جميل
حمداوي
الطبعة: الأولى
2015 م
حقوق الطبع
محفوظة للمؤلف
27 أبريل 2024
تعليقات (0)