المنشورات
النظرية الإسلامية في ميزان النقد والتقويم
هناك من الباحثين الذين يدافعون عن السوسيولوجيا الإسلامية، على أساس أن علم الاجتماع ينبغي أن يكون في خدمة المجتمع والفرد معا، انطلاقا من الرؤية الإسلامية، وتمثل العقيدة الربانية، وتوحيد الله، والأخذ بالقيم الإسلامية. ويعني هذا أن علم الاجتماع الغربي هو علم وضعي بامتياز، يخلو من القيم والمعايير الأخلاقية والدينية، ولايعترف بالخالق. كما أن السوسيولوجيا الشرقية أو الماركسية علم مادي وإباحي لايعترف بالقيم والأديان والأخلاق. وبالتالي، فعلم الاجتماع - كما عند الوضعيين -- هو علم إيديولوجي يرتبط بمصالح الطبقات الحاكمة من جهة، وقد يرتبط - كما عند الماركسيين - بمصالح الطبقات البروليتارية من جهة أخرى.
لذا، وجدنا ثلة من الباحثين يدافعون كثيرا عن السوسيولوجيا الإسلامية، ويعتبرونها نظرية كبرى مثل باقي النظريات السوسيولوجية المعروفة في الثقافة الغربية، كما هو حال الباحث أحمد المختاري:" علم الاجتماع الغربي وليد اطر اجتماعية مختلفة من حيث العقيدة والهدف، فالمطلوب أن يكون علم الاجتماع الإسلامي نابعا كلية من قضايا الإسلام فهما وتحليلا آنيا ومستقبلا، فكرا وممارسة، وبالتالي فهو قادر على منافسة النظم التحليلية الأخرى. (1) "
ويعني هذا أن يكون علم الاجتماع نابعا من بيئة كل مجتمع على حدة، حسب معتقده وقيمه وعاداته وتقاليده وأعرافه. كما أن الإسلام يقدم تصورا كليا وشموليا عن الإنسان، والمعرفة، والمجتمع، والتاريخ، والقيم، ضمن نسقية مترابطة ومتعالية عن الزمان والمكان. ومن ثم، فهدفه السمو بالإنسان ذهنيا ووجدانيا وقيميا وسلوكيا. وفي هذا، يقول حسن الساعاتي:" من الممكن تصور علم اجتماع قرآني، يكون مؤسسا على ما في القرآن من مضمون اجتماعي يحتوي على وصف اجتماعي متكامل للأقوام الغابرة، نستقي منه قوانين اجتماعية يتدبرها الباحثون والتطبيقيون ويلتمسون فيها المبادئ التي تمكنهم من التنبؤ بما سيؤول إليه حال المجتمع، والقيام بأعمال إيجابية لتنميته عن طريق إصلاح ما فسد منه ووقايته من عوامل الفساد، وإعداد ما يستطاع من قوة روحية وطاقة مادية للنهوض به، ورفع مستوى أفراده من الجوانب الروحية القائمة على الإيمان بالله وطاعة أوامره وتجنب نواهيه، والجوانب المادية المرتكزة على العلم وما فيه من أسرار، يهدي الله إليها من يشاء من عباده، فتتحقق على أيديهم منجزات عظيمة لخير البشر وسعادتهم (1)."
إذاً، يدعو الباحث إلى علم اجتماع قرآني؛ لأن القرآن يقدم حلولا علاجية فاضلة لأدواء المجتمع وأمراضه. وبالتالي، فقد قدم القرآن، في آياته الكريمة، نماذج من المجتمعات القديمة التي تردت فيها القيم الأخلاقية، وأصابها الدمار والخراب والزوال، ولاسيما المجتمعات التي كفرت بأنعم الله. ومن ثم، فعلم الاجتماع مطالب بتطبيق أوامر القرآن ونواهيه لخلق مجتمع إنساني واقعي ومثالي في الوقت نفسه. ويعني هذا أن بقاء المجتمع وصلاحه مرتبطان بمدى تشبثه بالقيم القرآنية السامية.
وفي هذا السياق نفسه، يقول ميلود سفاري:" يجب أن نعترف بأنه في مجال العلاقات الاجتماعية التي تربط بين البشر قد فصل تفصيلا لانكاد نعثر له على أثر في غيره من الديانات السماوية أو الوضعية؛ فقد حدد الإسلام المعالم الكبرى للمجتمع النموذجي، ورسم الخطوط العامة لقواعد السلوك فيه، ونظم معيشة الناس بما فصل فيها من الحلال والحرام، وبما أقره من الموروث عن المجتمع ما قبل الإسلام من علاقات ونظم اجتماعية، وبما استحدثه مما لم يكن معروفا ولا مألوفا يوافق الفطرة، وتنبيهه إلى النظم والقوانين التي تحكم التغير الاجتماعي وأسباب الركود والنمو وعوامل التقدم والانحطاط في المجتمعات الإنسانية، الشيء الذي يمكن الدارسين من استلهام هذه القوانين في كل عصر ومصر، وبما يخدم مجتمعاتهم ويصونها من الزلل ويقيها من الانحراف." (1)
ويعني هذا أن علم الاجتماع الإسلامي هو الحل البديل للنظريات السوسيولوجية الموجودة، على أساس أن الإسلام، قرآنا وسنة ومنهجا، قد فصل ماهو مجتمعي تفصيلا محكما. وبالتالي، أعطانا تصورا نموذجيا لقيادة المجتمع الإسلامي وتدبيره وإدارته بحكامة جيدة، وفق المنظور الإسلامي القائم على تمثل مبدإ التوحيد، وتشرب العقيدة الربانية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وتنزيل فقه النص على أرض الواقع، ومجابهة الانحلال القيمي، والحفاظ على المجتمع في تماسكه وتضامنه وتعاونه، بالاعتصام بحبل الله، والاهتمام بالعلم والعمل معا، مع تخليق المجتمع تخليقا كاملا، وبنائه بناء سليما.
وفي الإطار نفسه، يقول ضياء الحق سردار بأننا إذا نظرنا إلى علم الاجتماع بمنظور حضاري آخر، " فستنتج لدينا موجهات ومحددات متميزة أخرى تحدد لنا حقيقة وكيفية المعرفة إسلاميا. أي الممكن بمستحسنه ومستهجنه، والواجب بأولوياته، وغير الممكن أصلا من وجهة النظر الإسلامية العالمية. كما تتقرر مصادر وحدود ونمط الفكر والبحث وتوجهاتها المختلفة، ومن ثم يتم تحديد نوع المجتمع المراد بناؤه. ومادام هذا النظام العقدي الموجه ثابتا وأساسه الوحي الإلهي، فإن إطاره المعرفي يقي من المزالق والمتاهات العقدية، الفكرية والسلوكية بتحديده عن بصيرة مالايمكن معرفته، ويلبي الاحتياجات والمتطلبات المجتمعية بتحديده ما يجب معرفته." (2)
ويعني هذا أن علم الاجتماع إذا بني - معرفيا- على الوحي الإلهي الرباني، فسيقي المجتمع من المزالق والمتاهات والمشاكل المحدقة بالعالم الإسلامي من كل جهة. وبالتالي، فهو المنهج المعرفي الحقيقي لتوجيه الإنسان فكريا وقيميا وسلوكيا.
وعلى الرغم، من الإيجابيات التي تتميز بها النظرية السوسيولوجية الإسلامية، فقد وجهت إليها انتقادات عدة، ومن بين هذه الانتقادات ما ذهب إليه منصور زويد المطيري:" من السمات العامة لعلم الاجتماع الإسلامي، أنه موجه قيميا ومذهبيا ... وهذا ينفي صفة الحياد حيال القيم ... عن الباحث المسلم ... ما يعني أن عالم الاجتماع المسلم ملتزم بالإسلام ويسعى إلى خدمته، وينقد الواقع في ضوء عقائده وتشريعاته ... فلابد أن يدرس الهوة الموجودة بين الواقع والمثال الذي شرعه الله. أي: بين المجتمع وبين المعتقدات الإسلامية التي يؤمن بها." (1)
ويعني هذا أن علم الاجتماع الإسلامي هو علم معياري يحاكم الظواهر الاجتماعية والأفعال الفردية انطلاقا من الرؤية الإسلامية، والحكم عليها في ضوء البعد المعياري، بالاستناد إلى القيم والأخلاق الإسلامية. أي: تعتمد النظرية الإسلامية في مجال السوسيولوجيا على مبدإ الالتزام الديني والأخلاقي والعقائدي. ومن هنا، يستند الباحث السوسيولوجي إلى عقيدته الإسلامية، وشريعته الفقهية، والقيم الأخلاقية التي ينص عليها الوحي قرآنا وسنة. وبالتالي، يقارن هذا الباحث بين الواقع الكائن والنظرية الإسلامية. وبتعبير آخر، يقارن بين فقه الواقع وفقه النص، ويبحث عن أوجه التشابه والاختلاف قصد إيجاد الحلول الممكنة والمناسبة لإصلاح المجتمع أو تعديله أو تغييره جزئيا أو كليا،أو الدعوة إلى الحفاظ عليه، إذا كانت المقارنة لصالح فقه النص. وبهذا، يكون هذا المنظور السوسيولوجي غير محايد من البداية في محاكمة الوقائع الاجتماعية، مادام ينطلق من محاكمات معيارية وعقائدية وأخلاقية بشكل مسبق. ومن ثم، لايمكن الحديث عن الحياد العلمي في هذه الحالة. في حين، ينبغي أن يكون علم الاجتماع علما إنسانيا كونيا لايقتصر على دين دون آخر، أو يكون مخصوصا بأمة دون أخرى، بل ينبغي أن يكون علما في خدمة الإنسانية، مثل الدواء الذي يوجه إلى الإنسانية جمعاء، ولايهمنا في ذلك عقيدة الشخص أو هويته، مادام هذا العلم يستفيد منه الناس في جميع ربوع العالم. ويعني هذا أننا نريد سوسيولوجيا إنسانية وكونية بعيدة عن الإيديولوجيا والمذهبية العقائدية، والابتعاد - قدر الإمكان- عن إدخال ما هو عقائدي في العلم والدراسات البحثية الأكاديمية.
ويقول إلياس بايونس وفريد أحمد:" إن ماورد بالقرآن الكريم هو الحقيقة الموضوعية الوحيدة في ما يختص بالوجود البشري والتاريخ، فيجب ألا نخجل من ممارسة قيمنا الخاصة في الوقت الذي نرى فيه الآخرين يمارسون قيمهم." (1)
ويعني هذا أن علم الاجتماع ينبغي أن يرصد أفعال البشر في سياقات مجتمعية معينة، وينبغي أن يستقري هذه الأفعال كما يمارسها البشر بسلبياتها وإيجابياتها، بعيدا عن فقه النص وقدسية الوحي الذي يملك حقائق ثابتة وصادقة فيما يتعلق بالتاريخ والمجتمع والبشر. فمن حق الإنسان أن يمارس حياته كما يمارسها الآخرون. وما ينبغي أن تقوم به السوسيولوجيا هو دراسة تلك القيم بفهمها وتفسيرها وتأويلها ومقارنتها بقيم المجتمعات الأخرى، بهدف معرفة الصواب من الخطإ، دون الاحتكام المسبق إلى المعايير الدينية والتوجهات الإسلامية في محاكمة قيم البشر.
أضف إلى ذلك، ما نلاحظه من انفصام على مستوى التطبيق، فكيف يمكن الجمع بين التصور العقائدي والآليات المنهجية الوضعية لعلم الاجتماع؟ فلابد للسوسيولوجيا الإسلامية من البحث عن أدواتها ومفاهيمها ومناهجها الخاصة، دون الاعتماد على الإرث السوسيولوجي الغربي في ذلك؟ وقد أشار محمد محمد أمزيان إلى تلك المفارقة، وهو من أهم المدافعين عن أسلمة السوسيولوجيا:"إن دعوتنا إلى الالتزام المعياري لن تكون دعوة مقنعة وزائفة، بمعنى أننا لن نعيد مأساة الميثودولوجيا الوضعية بحيث نؤكد على المستوى النظري التزامنا بالمنهج الوضعي التقريري في الوقت الذي نعمل فيه على تحرير قيمنا ومفاهيمنا وتسويغ معاييرنا." (1)
وعليه، فلابد أن يتخلص علم الاجتماع، سواء أكان غربيا أم شرقيا أم عربيا، من أهواء الإيديولوجيا العاقائدية والدينية والمذهبية والحزبية والنقابية والذاتية، ويكون علما إنسانيا كونيا مرتبطا بخدمة المجتمع الإنساني كافة، مع ضرورة الالتزام بالحياد الموضوعي، وتوخي النزاهة في تحليل الوقائع الاجتماعية وتفسيرها، والابتعاد عن التحيز مهما كان نوعه وطبيعته. وفي هذا، يقول مراد زعيمي:" إن علم الاجتماع لايمكن أن يتخلص من التوجيه الإيديولوجي، وهي قضية يدل عليها المنطق، ويؤيدها الواقع العلمي لعلم الاجتماع منذ نشأته وحتى يومنا هذا، وليس هناك ما يدل على أنه سيتخلص منها مستقبلا، بل إن كل الملاحظات تؤكد ذلك، وحتى الذين كانوا ينكرون- عنادا- التوجيه الإيديولوجي، ويدعون- غرورا- الموضوعية والحياد القيمي، بدأوا يتراجعون عن هذا الموقف ويسلمون بالتوجيه الإيديولوجي لعلم الاجتماع. (1) "
وعليه، ينبغي أن يكون العلم محايدا، وكونيا، وإنسانيا، كما هو شأن العلوم التجريبية والحقة. وتتجه اللسانيات- اليوم- مع نوام شومسكي إلى أن تكون لسانيات علمية وكونية وعالمية. بيد أن الدراسات السوسيولوجية، كما في الواقع، تغلب عليها النزعات الإيديولوجية، سواء أكانت عقائدية أم فلسفية أم حزبية أم طائفية أم نقابية أم ذاتية. بينما المطلوب في علم الاجتماع أن يكون علما نزيها محايدا، وألا يستخدم للدفاع عن فئة أو عقيدة أو إيديولوجيا أو طبقة اجتماعية معينة، كدفاع إميل دوركايم وأوغست كونت عن الطبقة البورجوازية، أو دفاع كارل ماركس أو بيير بورديو عن الطبقة المسحوقة المستغلة، أو دفاع محمد محمد أمزيان عن العقيدة الإسلامية في كتابه (منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية) ...
ومن جهة أخرى، تدعو الباحثة الجزائرية وسيلة خزار إلى تمثل الموضوعية في التعامل مع الظواهر الاجتماعية، بعيدا عن الإيديولوجيا الوضعية والماركسية والإسلامية على حد سواء، فلابد من الانطلاق من فرضيات علمية أثناء ملاحظة الوقائع الاجتماعية، والتجريب عليها استقراء واستنباطا، باحترام خطوات المنهج العلمي بصفة عامة، وخطوات البحث الاجتماعي بصفة خاصة. وفي هذا، تقول الباحثة:" إن الأصل في النظرية العلمية، وبالتالي السوسيولوجية، هو أن تنطلق من الواقع المحسوس والمشاهد، ومن خلال الدراسة الأمبريقية، يحاول علم الاجتماع صياغة المفاهيم، وربطها في شكل قضايا، ثم اختبار صحة هذه القضايا لتتخذ شكل قوانين ونظريات. البداية، إذاً، ينبغي أن تكون من الواقع في اتجاه بناء النظرية وليس العكس، ثم بعد ذلك يكون الاعتماد على النظرية في دراسة أجزاء أخرى من الواقع، مثل هذه الدراسة التي تعد أساسا لاختبار صدقية النظرية، ومدى صلاحيتها للاسترشاد بها في تفسير الظواهر الاجتماعية. إذاً، عندما يذهب الاتجاه الإسلامي إلى أن الاتجاهين الماركسي والبنائي الوظيفي يتضمنان مقدمات إيديولوجية تعبرعن اجتهادات بشرية قاصرة، ويقترح في مقابل ذلك مقدمات إيديولوجية مختلفة تنطلق أساسا من الدين الإسلامي، فإن هذا الطرح بالنسبة إلينا يتنافى مع أسس العلم والموضوعية، لأن الانطلاقة أساسا في بناء النظرية السوسيولوجية لابد أن تكون من الواقع، وليس من أية مقدمات إيديولوجية مهما كانت طبيعة هذه المقدمات فلسفية أو دينية، عقلية أو نقلية.
نحن لاندافع عن الاتجاهين الماركسي والبنائي والوظيفي، وإنما نؤكد من خلال هذا البحث مقدماتهما الإيديولوجية الواضحة، ونؤكد من جانب آخر أنهما قد وظفا لخدمة مصالح طبقية محددة، عمالية أو بورجوازية، ولكننا نؤكد في الوقت نفسه، بهذه الرؤية إنما ينطلق هو الآخر من مقدمات إيديولوجية، وإن كانت ذات طبيعة مغايرة، حيث إنها لاتعبر عن اجتهادات إيديولوجية، وإن كانت ذات طبيعة مغايرة، حيث إنها لاتعبر عن اجتهادات بشرية، وإنما تستمد أصولها من الوحي، وأنه ينتهي هو الآخر إلى الدعوة إلى إقامة مجتمع نموذجي ليس بالرأسمالي ولا بالاشتراكي، ولكنه نموذج يستمد مواصفاته وأسسه وضوابطه من القرآن والسنة." (1)
وتضيف الباحثة قائلة:" إننا نقول باستبعاد الوحي كمصدر من مصادر المعرفة العلمية، ليس من باب عدم اقتناعنا بحقائقه المطلقة اليقين، ولكن من باب أن العلم جهد بشري عقلي يبذله الباحث للوصول إلى معرفة الواقع، إن الحقائق الجاهزة المأخوذة من الوحي لاتدخل في باب العلم من حيث هو جهد بشري عقلي منظم. إن الإنسان لايملك الوسائل التي تمكنه من معرفة عالم الغيب، لهذا قدم له القرآن الإجابات عن تساؤلاته الغيبية جاهزة، في الوقت الذي حثه مرارا وتكرارا على إعمال نظره وسمعه وعقله لاكتشاف أسرار هذا العالم المشهود، وإذا كان القرآن قد أشار إلى بعض القوانين الاجتماعية العامة، فإنه قد ترك معظمها رهن البحث والكشف العلمي، وبالمثل إذا كان القرآن قد تحدث عن كثير من الظواهر الاجتماعية وبين أسبابها ونتائجها والعلاقات التي تربطها بعضها بعض، فإنه لم يتحدث عن ظواهر أخرى كثيرة تعج بها المجتمعات الإنسانية، ما يؤكد الحاجة إلى الدراسة السوسيولوجية للواقع الاجتماعي؛ فلا الدين يمكن أن يغنينا عن علم الاجتماع، ولاعلم الاجتماع يمكن أن يغنينا عن الدين، لكل مجاله، ولكل أهدافه، ولكل دوره المتميز.
إن القول إن علم الاجتماع علم وصفي تقريري معياري، يتجاوز وصف وتقرير ما هو كائن إلى بيان ما ينبغي أن يكون، سيرا على خطى القرآن الذي لايقف عند وصف الظواهر الاجتماعية وتحديد خصائصها، وإنما يتجاوز ذلك إلى تقويمها، وتسجيل موقف محدد اتجاهها، فيه خلط كبير. إذا كان القرآن قد اعتمد على الوصف والتقرير أولا، ثم بيان ما ينبغي أن يكون عليه السلوك الإنساني، فذلك يتطابق مع وظيفته التي أنزل من أجلها، وهي تنظيم العلاقات الإنسانية ضمن تصور متميز، بحيث يوجهها، ويرسم أهدافها، ويقوم انحرافاتها، ويرتقي بها إلى النموذج المطلوب. أن يكون علم الاجتماع وصفيا تقريريا معياريا في آن واحد، معناه أننا نحاول إحلال علم الاجتماع كبديل عن الدين، يقوم بوظيفته الاجتماعية، وهي البشر، وهذا لايستقيم، لاعلميا، ولا عقيديا." (1)
إذاً، ينبغي أن ينطلق علم الاجتماع من الظواهر والواقع الاجتماعية المرصودة في الميدان، بملاحظتها ملاحظة خارجية عميقة، بالتوقف عند المشاكل التي تطرحها، وتكوين أفكار وقضايا وفرضيات تخمينية حول تلك الظواهر المحيرة في شكل عبارات علمية تقريرية، وتحويل ذلك إلى إشكاليات ووضعيات معقدة بغية إيجاد حلول لها. ولن يتم ذلك إلا بتمثل التجريب منهجا أو استخدام المنهج الوصفي المدعم بالإحصاء. وبعد عمليات التكرار والمعاودة في البحث والتجريب، يتوصل الباحث الاجتماعي إلى قوانين محددة، يحولها إلى نظريات كلية مجردة، يمكن تعميمها إذا بنينت على أساس علمي صحيح وسليم ومنطقي. أما الاستسلام للمقدمات الإيديولوجية المسبقة، سواء أكانت دينية أم ماركسية أم وضعية، ستجعل البحوث الاجتماعية نسبية ومعيارية وأخلاقية لاقيمة لها من الناحية العلمية. وبالتالي، سيتجاوزها التاريخ بسرعة، وستكون عرضة للانتقادات القاسية. إذاً، فتوظيف" العلم في حل المشكلات يسبغ عليه طابعا إيديولوجيا لامحالة، سواء كان هذا العلم طبيعيا أو اجتماعيا، لأننا في نهاية المطاف، شئنا أم أبينا، سنوظف نتائجه ضمن رؤية معينة، لاتخدم بالضرورة مصالح الجميع، وهذا ما حدث مع الاتجاه الماركسي وكذلك البنائي الوظيفي، وإذا كان أنصار الاتجاه الإسلامي يعتقدون أنه يشذ عن هذه القاعدة بالنظر إلى عالمية الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، وباعتباره صادرا عن ذات الله التي لايرقى إليها زلل او خطأ، وبالتالي فإن علاجه المشكلات الاجتماعية لن يكون متحيزا لطبقة أو فئة من دون سواها من الطبقات أو الفئات الاجتماعية الأخرى، فإن هذا الطرح أيضا يفتقد الصدقية. ذلك أن هذه الحلول تبقى وليدة اجتهادات فردية في تفسير النص، وفي التعامل مع الوقائع الاجتماعية المتغيرة والمتجددة، وعدم تعارضها مع مبادئ الشريعة الإسلامية، لايعني أنها تخدم بالضرورة مصالح الجميع، وأنها غير متحيزة. ولهذا، أقول إن أبحاث عالم الاجتماع هي مسؤوليته القصوى، أما في ما ستوظف فيه نتائج هذه الأبحاث فهذا يتعدى نطاق اختصاصه.
إن رفض الاتجاه الإسلامي للطرح الماركسي والبنائي الوظيفي، يرجع أساسا إلى الخلفية الإيديولوجية التي تغذيه، والتي لاتخدم واقعنا الاجتماعي الإسلامي، فكيف ندعو إلى تطبيق قالبنا الأيديولوجي على مجتمعات لاتشاطرنا الاعتقاد به والالتزام بقيمه؟ " (1)
ولكن يمكن أن يستفيد الباحث الاجتماعي من هذه التوجهات الماركسية والإسلامية والبنائية الوظيفية، فيعنى بمفهوم الصراع الجدلي، ومفهوم النظام والتوازن، ومفهوم القيم والعقيدة وغيرها من المفاهيم، في إطار رؤية علمية متكاملة وشاملة. ومن جهة أخرى، يمكن أن يستفيد من المنهجيات السوسيولوجية الموجودة، ويطبقها على الظواهر الاجتماعية. ولكن قد يقول شخص ما بأن الإيديولوجيا تكون دائما حاضرة عند الباحث عند اختيار المنهج والأدوات والطرائق العلمية. وبالتالي، لايمكن تحقيق الموضوعية المطلقة أو النسبية. ويعني هذا أن الإيديولوجيا حاضرة في العلم قبل وأثناء وبعد، ولايمكن التخلص منها إطلاقا. وفي هذا، تقول وسيلة خزار:" لابد أن ننطلق من الواقع في بناء النظرية السوسيولوجية، إذا أردنا أن تكون هذه النظرية معبرة فعلا عن هذا الواقع بجوانه المتكاملة والمتناقضة، وإذا كان البعض يرى أن اختيار الظاهرة موضوع الدراسة يخضع في حد ذاته لاعتبارات إيديولوجية تجعل عالم الاجتماع يشعر بأهمية دراسة ظاهرة من دون أخرى، وطرح أسئلة من دون أخرى، فأنا اقول: إن هذا صحيح، ولكنه لايؤثر في المقاييس العلمية بأي شكل من الأشكال، فالعلم لايفرض شروطا معينة في اختيار الظاهرة موضوع الدراسة، ويستجيب لاهتماماته البحثية، ولكن متى شرع هذا البحث في دراسته ينبغي عليه التقيد بها، وهي استخدام الإجراءات المنهجية المناسبة، والتزام الموضوعية. وإذا كان البعض يرى أن اختيار الإجراءات المنهجية يخضع هو الآخر لاعتبارات إيديولوجية، فأنا أعارض هذا الرأي، على اعتبار أن طبيعة الموضوع هي التي توجه دائما علم الاجتماع إلى اختيار منهج من دون آخر، أو أداة من دون أخرى، فثمة عدة بدائل منهجية، والاختيار في ما بينها محكوم دائما بقدرتها وكفاءتها في الإحاطة بحيثيات الظاهرة، وتمكين عالم الاجتماع من الإجابة عن تساؤلاته البحثية. قد يقصر الباحث في تطبيقه للإجراءات المنهجية نتيجة نقص تدريبه عليها.
هذا وارد، قد تؤثر عليه قيمه ومعتقداته الإيديولوجية وهو يحلل ويفسر الظاهرة لاجتماعية، وهذا وارد أيضا نتيجة طبيعة الدارس والمدروس، فنحن في حقل علم من العلوم الاجتماعية وليس الطبيعة البحتة، ولكن لا بد من بذل الجهد لإتقان الإجراءات المنهجية، ولابد من الحرص ثم الحرص لإتقان الإجراءات المنهجية، ولابد من الحرص ثم الحرص على أن نكون موضوعيين، وذلك بأن ننظر إلى الظاهرة موضوع الدراسة من زوايا مختلفة، وليس من الزاوية التي تتفق ومصالحنا وقيمنا ومعتقداتنا فحسب، وهو الأمر الذي يتوقف بشكل كبير على الوعي العلمي لعالم الاجتماع، وأمانته ونزاهته وصدقه مع ذاته ومع الآخرين. وإذا كان الالتزام بالموضوعية نسبيا، يختلف من باحث إلى آخر، فإن هذا لايفتح الباب بأي حال من الأحوال للتوجيه الإيديولوجي الصريح والمقصود، فالعلم يبحث عن الحقيقة ضمن إطار محايد لايعرف الانتماء المذهبي أو الديني أو الفلسفي أو السياسي." (1)
ويعني هذا أن الباحث الموضوعي، في مجال علم الاجتماع، لابد أن يلتزم بالمنهجية العلمية أثناء التعامل مع الظواهر والوقائع المجتمعية، مهما كانت الدواعي والأسباب والمنطلقات، فلابد من الابتعاد عن التحيز، وتجنب الذاتية والإيديولوجيا والنزاعات الشخصية والعقائدية والحزبية والنقابية.
وخلاصة القول، يتبين لنا، مما سبق ذكره، أن النظرية الإسلامية، في مجال السوسيولوجيا، هي تلك النظرية التي تقارب الظواهر والوقائع المجتمعية في ضوء الرؤية الإسلامية، والمنظور الديني الرباني، والالتزام بمبدإ التوحيد، وتمثل المعيارية الأخلاقية، والانطلاق من الوحي والعقل والواقع الحسي لفهم هذه الظواهر وتفسيرها وتأويلها، والابتعاد عن التحيز والتعصب والعرقية الإثنية والطائفية والحزبية. والهدف من ذلك كله هو تشكيل الذات المسلمة ذهنيا ووجدانيا وعمليا، والمساهمة في البناء الحضاري للأمة.
لكن هذه النظرية تغلب عليها الانتقائية، والافتقار إلى الأدوات المنهجية والمفاهيم الاصطلاحية في مقاربة الظواهر والوقائع المجتمعية. في حين، يستلزم البحث العلمي التخلص من الأحكام المسبقة في تناول المجتمع، ولو كانت أحاكما دينية أو أخلاقية. فلابد أن ينطلق الباحث - إذاً- من الظواهر الملاحظة، ويصوغ فرضياتها، باستعمال أدوات الفحص والتجريب والتحليل الاختباري، ثم استخلاص القوانين والنظريات. ويعني هذا أن علم الاجتماع علم كوني وإنساني، وليس مرتبطا بعقيدة أو مذهب أو طائفة ما.
مصادر و المراجع :
١- نظريات علم الاجتماع
المؤلف: د. جميل
حمداوي
الطبعة: الأولى
2015 م
حقوق الطبع
محفوظة للمؤلف
27 أبريل 2024
تعليقات (0)