المنشورات
الرِّقّ
لغة: هو الشىء الرقيق، نقيض الغليظ والثخين (لسان العرب).
واصطلاحا: هو الملك والعبودية، أى نقيض العتق والحرية، والرقيق-بمعنى العبد- يطلق على المفرد والجمع، وعلى الذكر والأنثى. أما العبد، فهو الرقيق الذكر، ويقابله الأمة للأنثى ومن الألفاظ الدالة على الرقيق الذكر لفظها الفتى، والغلام، وعلى الأنثى لفظتا الفتاة والجارية. أما القِنّ فهو أخص من العبد، إذ هو الذى مُلك هو وأبواه، ومالك الرقيق هو السيد، أو المولى.
والرق نظام قديم قدم المظالم والاستعباد والطبقية والاستغلال فى تاريخ الإنسان، وإليه أشار القرآن الكريم فى قصة يوسف عليه السلام: {وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يابشرى هذا غلام وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون. وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين. وقال الذى اشتراه من مصرلامرأته أكرمى مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا} يوسف:19 - 21، وكان الاسترقاق من عقوبات السرقة عند العبرانيين القدماء، وعندما سئل إخوة يوسف عن جزاء السارق لصواع الملك: {قالوا جزاؤه من وجد فى رحله فهو جزاؤه} يوسف:75.
وفى الحضارات القديمة كان الرق عماد نظام الإنتاج والاستغلال، وفى بعض تلك الحضارات -كالفرعونية المصرية والكسروية الفارسية- كان النظام الطبقى المغلق يحول دون تحرير الأرقاء، مهما توفر لأى منهم الرغبة أو الإمكانات.
وفى الحضارة الرومانية كان السادة هم الأقلية الرومانية، وكانت الأغلبية فى الإمبراطورية برابرة أرقاء، أو فى حكم الأرقاء.
وللأرقاء فى تلك الحضارات ثورات من أشهرها ثورة "سبارتاكوس " (73 - 71 ق. م).
وعندما ظهر الإسلام كان التمييز العرقى والطبقى والمظالم الاجتماعية بمثابة منابع وروافد تغذى "نهر الرق " فى كل يوم بالمزيد من الأرقاء. وذلك من مثل:
1 - الحرب، بصرف النظر عن حظها من الشرعية والمشروعية، فالأسرى يتحولون إلى أرقاء، والنساء يتحولن إلى سبايا وإماء.
2 - الخطف، يتحول به المخطوفون إلى رقيق.
3 - ارتكاب الجرائم الخطيرة كالقتل والسرقة والزنا كان يحكم على مرتكبيها بالاسترقاق.
4 - العجز عن سداد الديون، كان يحول الفقراء المدينين إلى أرقاء لدى الأغنياء الدائنين.
5 - سلطان الوالد على أولاده، كان يبيح له أن يبيع هؤلاء الأولاد، فينتقلون من الحرية "إلى العبودية ".
6 - سلطان الإنسان على نفسه، كان يبيح له بيع حريته، فيتحول إلى رقيق.
7 - النسل المولود من كل هؤلاء الأرقاء يصبح رقيقا حتى ولو كان أبوه حرا.
ومع كثرة واتساع هذه الروافد التى تمد نهر الرقيق -فى كل وقت- بالمزيد من الأرقاء، كانت أبواب العتق والحرية إما موصدة تماما، أو ضيقة عسيرة على الولوج منها.
وأمام هذا الواقع، اتخذ الإسلام منذ ظهوره طريق تحرير الأرقاء، وإلغاء نظام العبودية بنهج متميز، فهو لم يتجاهل الواقع، وأيضا لم يعترف به على النحو الذى يبقيه ويكرسه.
لقد بدأ الاسلام بأغلاق أغلب الروافد التى كانت تمد نهر الرقيق بالمزيد منهم إلا أسرى الحرب المشروعة، والنسل إذا كان أبواه من الأرقاء، وحتى أسرى الحرب المشروعة، فتح أمامهم باب العتق والحرية {فاذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوتاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها} محمد:4، فعندما تضع الحرب أوزارها، يتم تحرير الأسرى، إما بالمن عليهم بالحرية وإما بمبادلتهم بالأسرى المسلمين لدى الأعداء.
ومع إغلاق روافد الاسترقاق ومصادره التفت الإسلام إلى "كتلة" واقع الأرقاء، فسعى إلى تصفيتها بالتحرير، فحبب إلى المسلمين عتق الأرقاء تطوعا لتحرير الانسان من عذاب النار يوم القيامة.
كما جعل عتق الأرقاء كفارة للكثير من الذنوب والخطايا.
وجعل للدولة مدخلا فى تحرير الأرقاء عندما جعله مصرفا من المصارف الثمانية لفريضة الزكاة. يقول سبحانه {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقابا والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} التوبة:60.
كما جعل الحرية هى الأصل الذى يولد عليه الناس، والرق هو الاستثناء الطارئ الذى يحتاج إلى إثبات، فمجهولو الحكم هم أحرار، وعلى مدعى رقهم إقامة البينات، وأولاد الأمة من الأب الحر أحرار وقد قيل: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟.
كذلك، ساوى الإسلام بين العبد والحر فى كل الحقوق الدينية، وفى أغلب الحقوق المدنية، وكان التمييز فقط -فى أغلب حالاته- للتخفيف عن الأرقاء مراعاة للاستضعاف والقيود التى يفرضها الاسترقاق عليهم.
فالمساواة تامة فى التكاليف الدينية، وفي الحساب والجزاء، وشهادة الرقيق معتبرة عند الحنابلة، وله حق الملكية فى ماله الخاص، والدماء متكافئة فى القصاص. وإعانته على شراء حريته -بنظام المكاتبة والتدبير- مرغوب فيها دينيا {والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذى آتاكم} النور:33.
وبعد أن كان الرق من أكبر مصادر الاستغلال والثراء لملاك العبيد، حوله الإسلام -بمنظومة القيم التى كادت أن تسوى بين العبد وسيده- إلى ما يشبه العبء المالى على ملاك الرقيق، فمطلوب من مالك الرقيق أن يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق، بل والمطلوب منه -أيضا- إلغاء كلمة "العبد" و "الأمة" واستبدالها بكلمة " الفتى" و "الفتاة".
بل لقد مضى الإسلام إلى ما هو أبعد من تحرير الرقيق، فلم يتركهم فى عالم الحرية الجديد دون عصبية وشوكة وانتماء، وإنما سعى إلى إدماجهم فى القبائل والعشائر والعصبيات التى كانوا فيها أرقاء، فأكسبهم عزتها وشرفها ومكانتها ومنعتها وما لها من إمكانات، وبذلك أقام نسيجا اجتماعيا جديدا عن طريق "الولاء" الذى قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب " رواه الدارمى. حتى لقد غدا أرقاء الأمس "سادة" فى أقوامهم، بعد أن كانوا "عبيدا" فيهم.
وقد قال عمر بن الخطاب -وهو من هو- عن بلال الحبشى الذى اشتراه أبو بكر الصديق وأعتقه: سيدنا أعتق سيدنا! كما تمنى عمر بن الخطاب أن يكون سالم مولى أبى حذيفة حيا فيختاره فى منصب الخلافة؛ فالمولى الذى نشأ رقيقا قد حرره الإسلام، فكان إماما فى الصلاة وأهلا لخلافة المسلمين.
ورغم انتكاس الواقع التاريخى للحضارة الإسلامية بعد عصر الفتوحات وسيطرة العسكر المماليك على الدولة الإسلامية، إلا أن حال الأرقاء فى الحضارة الإسلامية قد ظلت أخف قيودا وأكثر عدلا بما لا يقارن من نظائرها خارج الحضارة الإسلامية.
عندما سعت أوربا فى القرن التاسع عشر إلى إلغاء نظام الرق وتحريم تجارته، لم تكن دوافعها -فى أغلبها- روحية ولا قيمية ولا إنسانية، وإنما كانت فى الأساس، دوافع مادية؛ لأن نظامها الرأسمالى قد رأى فى تحرير الرقيق سبيلا لجعلهم عمالا أكثر مهارة، وأكثر قدرة على النهوض باحتياجات العمل الفنى فى الصناعات التى أقامها النظام الرأسمالى.
ولقد كان القرن الذى دعت فيه أوربا لتحريرالرقيق هو القرن الذى استعمرت فيه العالم فاسترقت بهذا الاستعمار الأمم والشعوب استرقاقا جديدا، لا تزال الإنسانية تعانى منه حتى الآن.
أ. د/محمد عمارة
مصادر و المراجع :
١- موسوعة المفاهيم
الإسلامية العامة
المؤلف: المجلس
الأعلى للشئون الإسلامية - مصر
عدد الأجزاء: 1
أعده للشاملة/
عويسيان التميمي البصري
28 أبريل 2024
تعليقات (0)