المنشورات
الصناعة
لغة: صنع الشىء صنعا: عمله. كما فى اللسان (1)
واصطلاحا: هى كل نشاط للإنسان يتفاعل فيه مع البيئة المحيطة ليطوعها لاحتياجاته، ويصنع منها عالم أشيائه.
انظر إلى الإبل كيف خلقت! يأخذ الإنسان من ألبانها، ويصنع منه أنواعا من الجبن ومن الدهن. ويأخذ أصوافها، ويصنع منه أنواعا من الثياب. ويأخذ جلودها ويصنع منها ما يشاء من اللباس، ومن الخيام ومن الأحذية. ويأخذ لحومها ويصنع منها ما يشاء من لحوم مجففة ومصنعة، لذة للآكلين.
وانظر إلى الجبال كيف نصبت! يأخذ الإنسان من صخورها مواد فلزية وغير فلزية، يستخرجها ليصنع منها أدوات لحربه وسلمه. وقبل هيمنة الصناعة الغربية على العالم كان التطور الصناعى يمضى بمعدلات بطيئة، أهم ما يميزها التوازن البيئى والحفاظ على بيئتنا نظيفة متجددة.
وكانت محاولات الإنسان التصنيعية تأخذ حقبا من الدهر من قبل أن تستقر فى وعاء الأمم التقنى، وخلال هذا الزمن الممتد للتجربة والخطأ يصحح الإنسان طرائق الصناعة حتى تتوافق مع احتياجاته وتتناغم مع البيئة المحيطة، وتحقق التوازن الراشد بين احتياجات الإنسان وبين الحفاظ على الكون المحيط.
والصناعة وما فيها من أفكار وحيل هى وليدة علوم عصرها صحيح أن العلم والتكنولوجيا ليسا سواء، ولكنهما زوجان متمايزان متكاملان، والتكنولوجيا المتقدمة تستدعى علوما متقدمة.
ولذلك ففى العصر الحديث، وعندما حدثت طفرة فى العلوم تابعتها طفرة فى الصناعة، ومع هذه الطفرة الصناعية وما صاحبها من اقتصاد من ورائه مؤسسات ضخمة، أصبح الهاجس البيئى لا يلتفت إليه.
ولأول مرة فى تاريخ الإنسانية تصبح المخلفات الصناعية مصدر تهديد للحياة على وجه الأرض، تنذر بفنائها، وأصبح الإنسان لكى يأخذ دواء يستشفى به لابد أن يقرأ صفحات عن الآثار الجانبية لهذا الدواء، وربما قتلت الآثار الجانبية المريض الذى ظنها شفاء فإذا هى سم قاتل. ولأن وسائل الاتصالات والمواصلات ربطت الأرض من أطرافها وسهلت مهمة الأقوياء فى فرض منتجاتهم فى أسواق أقوام آخرين، فإن هذا الأمر قد أدى بكثير من الشعوب إلى أن تهمل صناعات بسيطة نظيفة عاشت بها مئات القرون، وتلهث وراء صناعات لا تملك من إمكانياتها إلا بيع ثرواتها الطبيعية؛ من أجل خطوط إنتاج لمنتجات لم يكن لها بها سابق عهد، إنما عملت الآلة الإعلامية الجبارة على تزيين هذه المنتجات للناس، وإغوائهم باستخدامها فى الطعام، والشراب، واللباس، والسكن، وكل نواحى الحياة.
وكثيرا ما أنبه إلى ضرورة دراسة طيف التنمية دراسة دقيقة، ولقد قسمت الطيف إلى ثلاثة ألوان تنموية:
1 - تنمية البقاء.
2 - وتنمية النماء.
3 - وتنمية السبق.
وتنمية البقاء: هى أن يعيش الناس بما كان يعيش به الناس لملايين السنين، وحتى منتصف هذا القرن. لقد تمخضت حياتنا من قديم عن مجموعة من الصناعات البسيطة النافعة والنظيفة. عندنا صناعة للخبز، وصناعة للألبان، وصناعات زراعية، وصناعات للبناء .. إلخ نملكها، ونستطيع توثيقها قبل فوات الأوان. إن إحدى الشركات الأمريكية استجلبت صانعا مصريا وضع لها توصيفا دقيقا لصناعة الجبن الدمياطى، ثم طرحته بالأسواق بنفس الاسم، وسجلته كاختراع أمريكى، ويمكن لهذه الشركة أن تقاضينا إذا نافسناها فى الأسواق. فى مصر كانت عندنا صناعات يدوية للقطن والكتان غزلا ونسيجا وحياكة. إن الميكنة لا تضيف جمالا ولا قوة إلى المنتجات، وإنما يظل العمل اليدوى، والمنتجات اليدوية تتمتع بالقوة والجمال. أهدانى أخ جزائرى عباءة جميلة مصنوعة من صوف الخراف، وقال لى: هذه العباءة صنعتها أمى غزلا ونسيجا وحياكة، وكنا فى زمن الثورة الجزائرية يعيش المجاهدون على هذه الصناعات، التى كانت تصنعها أمهاتنا فى قلب الصحارى بعيدا عن ظلمة المستعمرين، وكان نشيدنا القومى يبدأ بهذا البيت فى تحية العلم:
"يا نسيج الأمهات فى الليالى الحالكات ... علمى ... علمى ... " وما زلت أستخدم هذه العباءة منذ ثلاثين عاما.
أما تنمية النماء: فيتصل بها بعض الاختيارات النافعة من الصناعة الحديثة. ونحن والحمد لله ما زلنا فى أول الطريق بالنسبة لعمليات التصنيع العربية، ويمكننا عمل اختيارات راشدة، ويتصل بهذا بعض الصناعات الحربية التى لابد منها فى مواجهة الأخطار المحدقة بأقطارنا.
ثم فى النهاية تنمية السبق: وفيها لا بد أن نبحث عن مجال نسبق فيه غيرنا أو أن تكون لنا فيه قدرة على السبق. وفى بلد كمصر نملك أمرين: الآثار والسياحة من ناحية، وكرسى الدراسات العربية والإسلامية من ناحية أخرى وفى رأيى أن الصناعات المتعلقة بالأمرين يمكننا أن نسبق بها غيرنا ثقافة، واقتصادا.
ولابد أن أذكر أن الابتكار الصناعى يأتى وحيا وإلهاما، وبالطبع لابد للمتلقى لهذا الوحى أن يتهيأ له التهيؤ المناسب. وهذا درس القرآن فى سورة هود} وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون. واصنع الفلك بأعيننا ووحينا. ولا تخاطبنى فى الذين ظلموا إنهم مغرقون {(هود 36 - 37). فالدرس هنا أن الابتكار والإبداع- وهو من الوحى والإلهام- يحتاج إلى حماية ورعاية من فوق المخترع والمبدع ... هو درس للذين يحرصون أوديتنا الصناعية ... لا تدعوها للرياح تذروها، ولكن ارعوها حق رعايتها، واحموها من كل مفسد لا يؤمن بيوم الحساب.
أ. د/ سيد دسوقى حسن
1 - لسان العرب طبعة دار المعارف مادة (صنع).
مصادر و المراجع :
١- موسوعة المفاهيم
الإسلامية العامة
المؤلف: المجلس
الأعلى للشئون الإسلامية - مصر
عدد الأجزاء: 1
أعده للشاملة/
عويسيان التميمي البصري
28 أبريل 2024
تعليقات (0)