المنشورات
المصحف
لغة: أصحف الكتاب: جمعه صحفا (1).
واصطلاحا: عنوان على الطراز المخصوص المتمحض للقرآن الجامع لجميع أطرافه بين دفتيه.
وقد بدأت الكتابة للقرآن مبكرة فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم وبأمر منه فكان له كتاب معروفون، يأمرهم بكتابة كل ما ينزل عليه من القرآن فيكتبونه بين يديه، قال الحافظ ابن حجر فى فتح البارى: "وروى أحمد وأصحاب السن الثلاثة وصححه ابن حبان والحكم من حديث عبد الله بن عباس عن عثمان بن عفان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتى عليه الزمان ينزل من السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشىء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول هذا فى السورة التى يذكر فيها كذا" (2).
وكانوا يكتبون على ما اتفق لهم وما تيسر من الحجارة والعظم وجريد النخل وقطع الجلد وما إلى ذلك (3) وكذلك توفرت همم الصحابة رضى الله عنهم على كتابته لأنفسهم، ومما يجدر التنبيه إليه أن حديث عثمان السابق كما يفيد أنه كان له صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له ما يتنزل عليه من نجوم القرآن، فكذلك يفيد أنه كان يأمرهم - عند وقوفه على الترتيب أن يرتبوا النجوم فى مواضعها من السور "بل ذاك صريح الدلالة من منطوقه. وهذا هو عين المقصود أيضا من التأليف فى الرقاع فى قول زيد بن ثابت. قال الزركشى رحمه الله (أسند البيهقى فى كتاب "المدخل" و "الدلائل" عن زيد بن ثابت قال: كنا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن، زاد فى "الدلائل" نؤلف القرآن فى الرقاع، قال: وهذا يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة فى سورها وجمعها، وفيها بإشارة النبى صلى الله عليه وسلم وأخرجه الحاكم فى المستدرك وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". (4).
وبطبيعة الحال لم يكن ممكنا - مع هذا الترتيب للآيات - ترتيب ما كان يكتب فيه عن الأشياء المتنوعة المختلفة حجما وكيفا بحيث يمكن وضعها بين دفتين كأوراق الكتاب الواحد، بل بقيت تلك الأشياء بحكم طبيعتها مفرقة غير مرتبة. وإلى جانب هذه الضرورة التى حالت وقتئذ دون كتابة القرآن فى مصحف واحد جامع لجميع أطرافه، كانت ضرورة أخرى تمثلت فى أن القرآن قد استمر نزوله نجما فنجما منذ بعثته صلى الله عليه وسلم إلى قريب جدا من ؤفاته. فلم يكن يمكن - والحال هذه - قيام المصحف الجامع، وضرورة ثالثة تمثلت فيما سبق التنبيه إليه من كتابة نجوم القرآن مرة متفرقة حسب نزولها، ومرة مرتبة عند الوقوف على الترتيب، ورابعة تتمثل فى احتمال وقوع نسغ فيحتاج الأمر معه إلى محو المنسوغ، ثم إلى إثبات الناسخ إن كان النسخ إلى بدل.
أما الباعث على كتابة القرآن وقتئذ مع كون النبى صلى الله عليه وسلم بين ظهرانى القوم يحفضه ويدارسه إياه جبريل، كما حفظه -ولو من حيث الجملة - العدد الكثير من أصحابه، فهو بذل أقصى العناية فى المحافظة عليه والتوثق لسلامة نصه جملة وتفصيلا من أى تحريف.
لا ثم كان العهد البكرى ومافيه من حروب الردة فخشى عمر رضوان الله عليه أن تفنى تلك الحروب الكثير من قراء القرآن وحفاظه، فيضيع شىء منه، أو تذهب الثقة به بانخرام تواتره. ولاسيما مع عسر الرجوع فيه إلى ما كتب عليه من الأشتات المبعثرة التى لا يجمعها جامع فضلا على إمكان ضياع شىء منها، فجاء إلى الصديق وطلب إليه جمع القرآن مرة أخرى. لكن هذه المرة فى صحف من جنس واحد، متماثلة الحجم يمكن جمعها بسهولة برباط واحد، ولم يزل الصديق رضى الله عنه يستنكف مباشرة أمر فى ذلك لم يباشره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شرح الله صدره لما شرح له صدر عمر. فدعى زيد بن ثابت الشاب العاقل الثقة المتمرس بكتابة الوحى للنبى صلى الله عليه وسلم فأمر بجمع القرآن على النحو الذى أشار به عمر.
وبعد تردد شديد لعين السبب الذى تردد له الصديق شرح الله صدر زيد لما شرح له صدر الشيخين فنهض لهذه المهمة (5) يعاونه الشيخان والأكابر من الصحابة حتى قام بها على خير وجه. وهكذا تم الجمع البكرى لباعثه المذكور، ومن فوائده ما لخصه شيخنا غزلان فقال:
1 - البحث عن القطع المختلفة التى كتب فيها القرآن من قبل وجمعها قبل ضياع شىء منها أو تأكل حروفها.
2 - تجديد كتابتها فى صحف مجتمعة صالحة للاحتفاظ بها دائما.
3 - اتصال السند الكتابى بالأخذ عن الصحف التى كتبت بين يدى النبى صلى الله عليه وسلم كاتصال السند المتواتر فى الرواية والتلقى عن الشيوخ، فتكون كتابة أبى بكر بمثابة الطبقة الثانية من الشيوخ، وكتابة عثمان بمثابة الطبقة الثالثة. وهكذا مرات الإنتاج من المصاحف العثمانية، ولا يخفى ما فى ذلك من الاهتمام بشأن القرآن والعناية به. (6) ولقد ظلت الصحف التى فيها جمع القرآن عند أبى بكرحتى مات، ثم عند عمر حتى مات، ثم انتقلت إلى حفصة إحدى أمهات المؤمنين. (7).
ثم كان عهد عثمان وفيه من التساهل ما لم يكن فى عهد الشيخين من قبله، وكانت رقعة الإسلام قد اتسعت بكثرة الفتوح ودخول كثير من أهل الأمصار المفتوحة فى الإسلام، وتوزع تبعا لذلك الأصحاب على الأمصار ما بين مقيم وغاز، فكانوا يقرؤون القرآن ويقرؤونه للناس، كل على حسب الحرف الذى سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وربما تساهل البعض منهم فذكر أثناء قراءته تفسيرا لشىء مما يقرأ أو ذكر منسوخا أو دعاء لحصول الأمن من التباس غير القرآن بالقرآن، كما كان الأمر فى مصاحفهم الخاصة التى كتبوها لأنفسهم، والتى اشتملت فوق هذا على حذف بعض السور كالفاتحة والمعوذتين ثقة بكمال حفظها وأمنا من نسيانها كما قيل فى شأن مصحف ابن مسعود، أو إدماج سورة فى أخرى دون ذكر البسملة بينهما كسورتى الفيل وقريش حسبما قيل فى مصحف أُبَىٍّ على ما فى الإتقان وغيره.
فكان أهل الأمصار إذا اجتمعوا فى مناسبة من غزو أو حج أو عمرة واختلفوا فى قراءة القرآن تبعا لاختلاف مصادرهم فى القراءة من الصحابة ففضل البعض قراءة نفسه على قراءة غيره، ويرى أن قراءته مصحوبة بشىء مما قلناه، خير من الخالية من ذلك، على حين يرى الآخر أن القراءة المتمحضة للقرآن المتجردة للمقروء منه عن كل ما سواه أفضل. وقد يصل هذا التفضيل إلى حد التضليل والتفسيق، بل ربما التكفير.
فلما اشتد الخلاف، وخشيت الفتنة رأى عثمان رضى الله عنه أن يجمع الناس جميعا على قراءة واحدة هى ما تمحضت للقرآن وتجردت من غيره.
حدث أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازى أهل الشام فى فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم فى القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أميرالمؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا فى الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلى إلينا بالصحف ننسخها فى المصاحف، ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها فى المصاحف، وقال عثمان للرهط القريشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت فى شىء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا.
حتى إذا نسخوا الصحف فى المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، فأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن فى كل صحيفة أومصحف أن يحرق (8).
هكذا كان أول العهد بالمصحف الإمام الجامع الذى أجمع عليه الصحابة وصوبوا صنيع عثمان به غاية التصويب (9)، والذى كان الأصل لما نسخ منه من المصاحف إلى يومنا هذا، أما عدد المصاحف التى نسخها عثمان وأرسل بها إلى الأمصار فالمترجح فيه أنه كان بحيث يعم جميع الأقطار التى دخلها الإسلام، قال صاحب البيان عليه الرحمة بعد ما ذكر الأقوال المختلفة فى عدد المصاحف معزوة إلى مصادرها: فظهر من هذا أن الذين ذكروا هذه الأقوال لم يذكروا منها دليلا يؤيده، إلا أن العقل والنقل كليهما يؤيدان من يزيد فى عدد المصاحف لا من يقلل منها.
أما العقل فهو أن الغرض من إرسال المصاحف إلى الأمصار هو القضاء على الفتنة التى كانت قائمة حينئذ بسبب اختلاف المسلمين فى القراءة، والمنع من حدوث هذه الفتنة مرة أخرى فى بلد ما من بلاد المسلمين، وهذا الغرض لا يتحقق بإرسال المصاحف إلى بعض الأمصار دون بعض.
وأما النقل فهو قول أنس بن مالك فى الحديث السابق الذى رواه البخارى أنهم لما نسخوا الصحف فى المصاحف أرسل عثمان إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، فكلمة إلى كل أفق تدل بعمومها على أنه أرسل المصاحف إلى جميع الأمصار لا إلى بعضها دون بعض (10).
أ. د/إبراهيم عبد الرحمن محمد خليفة
مصادر و المراجع :
١- موسوعة المفاهيم
الإسلامية العامة
المؤلف: المجلس
الأعلى للشئون الإسلامية - مصر
عدد الأجزاء: 1
أعده للشاملة/
عويسيان التميمي البصري
29 أبريل 2024
تعليقات (0)