المنشورات
فضل الشعر
ذكرنا في هذا الفصل شيء مما ورد في فضل الشعر، لأنا قد أوردنا في هذا الكتاب جملة وافرة من الشعر؛ فرب جاهل أو جافي الطبع أو متنسك نسكا أعجميا يذم الشعر فيسري ذمه إلى ما في الكتاب ثم إلى الكتاب، فرأينا أن ننبه على شيء من فضله، ونحن عند التحقيق في غنى عن ذلك، بعد ذكر فضل المثل والحكمة، لأن جل ما أوردناه في الكتاب من هذين النوعين، وما سوى ذلك إما توابع وتتمات، وإما شواهد من كلام العرب مما اشترك في جلبها استشهادا كل ذي علم؛ ولكنا نذكر ذلك تقوية.
اعلم أنّ الكلام العربي هو أشرف الكلام وأجله، كما وقع في الحديث: إنّ سيد الكلام العربي، وسيد الأنبياء محمد، وسيد الكتب القرآن. وفي الحديث أيضاً: القرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي. واعلم أن كلام العرب نوعان: منثور ومنظوم، وكان كله في أصله نثرا. فلما احتاجت العرب إلى ذكر أيامها وأعرافها، وتخليد مكارمها ومآثرها، توهموا أعاريض الشعر وأوزانه، وجعلوه آلة لذلك وعونا على حفظ ما ذكر وإبقائه، لسهولته على الطبع وميله إليه دون المنثور. ومن ثم يقال أن ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من المنظوم، ومع ذلك لم يحفظ من المنثور عشره، ولم يضع من المنظوم عشره: فكان للشعر بهذا فضل على النثر.
ومما ورد في فضله قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة، وتقدم تفسير الحكمة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً إنّه قال: إنّ من البيان لسحرا، وإنّ من الشعر لحكما، أي كلاما نافعا يمنع من الجهل والسفه. قيل أراد به المواعظ والأمثال التي ينتفع بها، وقد تقدم أن الحكم بمعنى الحكمة. وقيل الحكم هنا القضاء، بمعنى إنّه ينفذ أمره ويتبع ما يقضي به ويسلم له فيما حكم به كما يكون ذلك في حكم الحاكم؛ ولذلك وضع أقواما ورفع آخرين. وممن وضعهم بنو نمير، إذ هجاهم جرير، وكانوا إحدى جمرات العرب قيل ذلك؛ وبنو العجلان، إذ هجاهم النجاشي، وكانوا قبل ذلك يفتخرون بهذه التسمية، لأن أباهم سمي بذلك لتعجيله القرى للضيف، والربيع بن زياد العبسي، إذ هجاه لبيد، وكان قبل ذلك أحد ندماء النعمان بن المنذر، وكان لا يواكل غيره إذا حضر. وممن رفعه بنو أنف الناقة، حيث مدحهم الحطيئة فقلب هذا اللقب الذي كان يخزون به مدحا وفخرا؛ وعبد العزيز بن حنتم المعروف بالمحلق، حيث مدحه الأعشى وكان قبل ذلك خاملا؛ وهرم بن سنان، حيث مدحه زهير فشرف بذلك على أخيه خارجة بن سنان، وكان خارجة قبل ذلك أنبه منه وإن كانا معا سيدين؛ وغي هؤلاء. وتفصيل هذه الوقائع يطول بنا في هذا المحل، وهي مشهورة وسيأتي كثير منها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الشعر كلام من كلام العرب جزل تتكلم به في بواديها وتسل به الضغائن وروي عن عائشة رضي الله عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم بنى لحسان بن ثابت في المسجد منبرا ينشد عليه الشعر. وروي أن عمر رضي الله عنه مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرغاء كرغاء البكر؟ فقال حسان: دعني عنك يا عمر، فو الله إنك لتعلم لقد كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك، فما يغير علي ذلك، فقال عمر: صدقت! ويحكى إنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل في عمرة القضاء وعبد الله بن رواحة يمشي بين يديه وهو يقول:
خلو بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال له عمر رضي الله عنه: يا أبن رواحة! بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حرم الله تقول الشعر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خل عنه يا عمر! فلهي أسرع فيهم من وقع النبل. ولمّا هجت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضي الله عنه: اهجهم ومعك جبريل روح القدس فلهجائك أشد عليهم من وقع السهام، في غبش الظلام! وقال عمر رضي الله عنه: من أفضل ما أعطيته العرب الأبيات يقدمها الرجل أمام حاجته فيستعطف بها الكريم ويستنزل بها اللئيم. وقال أيضاً: تعلموا الشعر، فإن فيه محاسن تبتغى ومساوئ تتقى. وكتب إلى أبي موسى الشعري: مر من قبلك يتعلم الشعر، فإنه يدل على معالي الأخلاق وصواب الرأي ومعرفة الأنساب. وقال معاوية رضي الله عنه: يجب على الرجل تأديب ولده والشعر أعلى مراتب الأدب وقال: رووا أولادكم الشعر واجعلوه أكبر همكم وأكثر آدابكم، فلقد رأيتني ليلة الهرير بصفين، وقد أتيت بفرس ووضعت رجلي في ركابه لأفر من شدة البلاء، فما حملني على الثبات إلا ذكر أبيات عمرو بن الأطنابة:
أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات ... واحمي بعد عن عرض صحيح
وقال بعضهم: كنا عند عمار بصفين، وعنده شاعر ينشده، فقال رجل: أيقال فيكم الشعر وانتم أصحاب محمّد وأصحاب بدر؟ فقال له عمار: إنّ شئت فاسمع، وإنّ شئت فأذهب. أنا لمّا هجانا المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا لهم كما قال لكم، فكنا نعلمه الاماء بالمدينة. وكان أبن عباس يقول: إذا قرأتم شيئا من كتاب الله فلم تعرفوه فاطلبوه في أشعار العرب، فان الشعر ديوان العرب. وقال أيضاً: إذا أعيتكم العربية في القرآن فالتمسوها في الشعر، فانه ديوان العرب. وكان كلما سئل عن حرف من القرآن أو من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنشد عليه شعرا. وقيل لسعيد بن المسيب إنّ قموا بالعراق يكرهون الشعر، فقال: نسكوا نسكا عجميا! وسئل أبن سيرين في المسجد عن رواية الشعر في شهر رمضان إنّها تنقض الوضوء فقال:
نبئت إنّ فتاة كنت أخطبها ... عرقوبها مثل شهر الصوم في الطول
ثم قام فأم الناس وقيل بل أنشد:
لق أصبحت عروس الفرزدق ناشزا ... ولو رضيت رمح أسته لاستقرت
وسئل ابن عباس هل الشعر من رفث القول، فأنشد:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا
وقال إنّما الرفث عند النساء، ثم احزم للصلاة. وكان أبو السائب المخزومي يقول أما والله لو كان الشعر محرما لوردنا الرحبة كل يوم مرارا، يعني الرحبة التي تقام فيها الحدود. وقال عبد الملك لبنيه عليكم بالأدب، فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالا، وإن استغنيتم عنه كان لكم جمالا، وكانت عائشة أم المؤمنين، وأبن عباس، وعمر، رضي الله عنهم أجمعين من رواية الشعر بالمحل الذي لا يدرك، حتى حكي عن عائشة إنّها قالت: رويت للبيد أثنى عشر ألف بين خلاف ما رويت لغيره. وكذا غير هؤلاء من الصحابة رضي الله عنهم وما أهل البيت النبوي إلاّ من قال الشعر، غير النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا الخلفاء الأربعة. وقد ذكر المعتنون بهذا الشأن ما ثبت عن كل منهم من الشعر؛ والتعرض لذلك يطول بنا، وليس من غرضنا نحن في هذا الكتاب إلاّ مجرد التنبيه؛ وما تقدم كاف في مدح الشعر وإباحته والرد على منكريه.
وقد يحتج ذامه بوله صلى الله عليه وسلم: لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا. ومحل هذا الحديث عند العلماء أربعة أوجه: أحدهما أن المراد بهذا الشعر المذكور هنا الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقع في رواية: شعر هجيت به بهذه الزيادة. وروى أن أبا هريرة، لمّا روى الحديث المذكور قالت عائشة رضي الله عنها لم يحفظ، إنّما قال شعرا هجيت به. ولا شك أن هذا النوع من الشعر لو كان شطر بيت لكان كفرا، فكيف إذا أميلا الجوف فيه؟!.
ثانيها أنه ورد لأقوام كانوا في غاية الإقبال على الشعر فجاء على وجه المبالغة زجرا لهم ليقبلوا على القرآن والذكر والعبادة.
ثلثهما أنه في حق من أولع به حتى شغله عن الذكر والقرآن والعبادة، لأن ذلك هو يعني الامتلاء. وأما كان الغالب عليه القرآن والكر. فليس جوفه ممتلئل.
رابعها أنه في الشعر المذموم دمن الممدوح، وسنبينه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: أنَ من البيان لسحرا، لعلماء في هذا الحديث وجهان: أحدهما أنه ورد مورد الذم فشبهه بعمل السحر لغلبته على القلب وجليه إياها، وتزيينه الباطل وتحسينه القبيح وتقبيحه الحسن. ويكتسب به صاحبه من الإثم ما يكتسب الساحر بعمله كما قال صلى الله عليه وسلم: ولعل بعضهم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فأنما أقطع له من النار. ثانيهما أنه ورد مورد المدح بمعنى أنه تمال به القلوب، ويسترضى به الساخط، ويستنزل به الصعب. ويشهد ليس لهذا قوله في نفس الحديث: إن من الشعر لحكمة. وهذا قول أكثر أهل العلم والأدب، لأن الله تعالى مدح البيان، وهو شامل للشعر والنثر. وقال عمر بن عبد العزيز لرجل سأله حاجته فأحسن في السؤال: هذا والله السحر الحلال! وقضى حاجته. وأما قوله تعالى:) والشعراءُ يتبعهمُ الغلوون (الآية، فالمراد بها المشركون المشتغلون بالاذاية للنبي صلى الله عليه وسلم وهجائه. وأما الشعراء المؤمنون كحسان وكعب وأبن رواحة وغيرهم فليسوا بداخلين. ولذلك استثناهم الله تعالى فقال:) إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ وذكروا اللهَ كثيرا (أي لم يشغلهم الشعر عن الذكر، وانتصروا من بعد ما ظلموا، أي بهجوم الكفار الهاجين للنبي صلى الله عليه وسلم ظلما، كما قال الله تعالى:) لا يحب اللهُ الجهر بالسوءِ من القول إلاّ من ظُلم (. الآية المذكورة هي فصل الخطاب فيما مر. نعم، قال أبن عطيه: يدخل في الآية كل مخلط بهجو أو يمدح شهوة ويقذف المحصنات ويقول الزور، كما يدخل في الاستثناء كل من كان بخلافه.
فقد بان بهذا فضل الشعر وأن لا باس به أصلا، غير إنّه ليس على إطلاقه وأن الشعر كله محمود ومرضي، فان هذا خطأ وغلط، بل هو على تفصيل. فما كان متضمنا للثناء على الله تعالى، أو لمدح النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو الأنبياء والملائكة وكل من يجب تعظيمه وتوقيره والثناء عليه في الدنيا والترغيب في الآخرة، فهو مندوب إليه مرغوب فيه؛ وما كان متضمنا للتنبيه والوعظ والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ونحو هذا فكذلك أيضاً؛ وما كان متضمنا للهجو وإيذاء كل من عرضه معصوم فهو حرام. ويتفاوت في القبح والشدة بحسب المؤذي، حتى ينتهي إلى الكفر كما في حق الأنبياء، وما كان خاليا عن هذين الأمرين فهو من المباح في الجملة، إلاّ أنه إن اشتمل على وصف القد والخد والمجون التي تحرك دواعي الشهوة والغواية، فهو قد يجرم وقد يكره وقد يباح بحسب حال القئل والمخاطب. وتحقيق ذلك أن الشعر كلام كالنثر، فكل ما يستقبح في النثر يستقبح في الشعر.
فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما الشعر كلام مؤلف، فما وافق الحق منه فهو حسن، ز ما لم يوافق الحق فلا خير فيه. وقالصلى الله عليه وسلم: إنما الشعر كلام فمن الكلام خبيث وطيب. وقالت عائشة رضي الله عنها: الشعر كلام فيه حسن وقبيح، فخذ الحسن ودع القبيح. وقال أبن سيرين: الشعر كلام عقد بالقوافي، فما حسن في الكلام حسن في الشعر، وكذلك ما قبح منه هذا، مع أن الشعر قد حسنت فيه أشياء لم تجسم في النثر، وذلك مما يفضله به الأدباء؛ منها الكذب الذي وقع الإجماع على حرمته فانه جائز في الشعر، إلى إنّ في المبالغة والإيغال تفصيلا مذكورا في علم الأدب. وافضل الأمور الصدق ومما قرب منه؛ ومنها تزكية الإنسان نفسه ومدحه إياها، ومدح الإنسان بحضرته، ومدح المحرمات من الخمر والنساء الأجانب ونحو ذلك، ومنها خطاب الممدوح مثلا باسمه وبكاف الخطاب مما يكون في النثر استنقاصا، ونحو هذا. وقصيدة كعب بن زهير رضي الله عنه اللامية متكفلة بأكثرها، وقد أنشدها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، بل أثابه بردته فاشتراها منه معاوية بثلاثين أو عشرين ألف درهم، وبقيت يتوارثها الخلفاء ويلبسونها في الجمع والأعياد تبركا بها. وقيل إنّه أعطاه مع البردة مائة من الإبل ويحكى إنّ الأحوص قال يخاطب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إذ توقف عن إعطاء الشعراء:
وقبلك ما أعطى هنيدة جبلة ... على الشعر كعبا من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء بنوره ... عليه السلام بالضحى والاصائل
وبالجملة، ففي كل كلام ينطق به اللسان شعرا أو نثرا، إنشاء أو حكاية، فوائد وآفات فصلها علماء الشعر وحرروها، فمن ظفر بالفائدة وسلم عن الآفات فهو الذي ينبغي له أن يتكلم إما وجوبا أو ندبا بحسب الفائدة؛ ومن لم يظفر بالفائدة ووقع في الآفة أو توقعها فهو الذي لا ينبغي له أن يتكلم إما تحريما أو كراهة بحسب الآفة. ومن تعرضتا عنده فهو الذي ينبغي له أن يرجح أحد الجانبين وإلا كف، فإن درء المفسدة أهم، ومن عدمهما معا فهو الذي يباح له الكلام، ولذكر الله أكبر، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
1 مايو 2024
تعليقات (0)