اعلم أنا لمّا ذكرنا حكم الشعر عموما كما مر، أردنا أن نردفه بما كان منه مثلا خصوصا. وهذا النوع داخل فيما للذي قبله وداخل أيضاً فيما للمثل مطلقا، وقد فرغنا قبل من شرحه وفضله؛ غير أن هذا النوع له خصوصية كلام وبيان تعلق الغرض بذكره، وجعلنا الكلام في هذا الفصل في أربعة أمور بها يتم الغرض إن شاء الله تعالى: الأول في التمثل بالشعر وما ورد فيه يقال: تمثل بالبيت إذا أنشده وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بقول طرفة: ويأتيك بالأخبار من لم تزود؛ إلى إنّه يقول ويأتيك من لم تزوده بالأخبار. ولذلك قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: أشد أنك رسول الله، لقوله تعالى: وما علمناه الشعر. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين فتمثلهم بالشعر شائع ذائع لا يحصى، وهو دليل ما تقدم في الفصل قبل هذا. ومما تمثل به أبو بكر رضي الله عنه وهو على المنبر قول الغنوى:
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت ... بنا رجلنا في الواطئين وزلت
أبو أن يملونا وأو أن آمنا ... تلاقي الذي يلقون منا لملت
هم أنزلونا في ظلال بيوتهم ... ظلال بيوت أدفأت وأكنت
وأراد بذلك ما فعل بهم الأنصار من الإحسان. وأما عمر رضي الله عنه فكان لا ينزل به أمر ألا تمثل فيه بشعر، وكذا عائشة رضي الله عنها ومما تمثلت به قول لبيد:
ذهب اللذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
ورأت النبي صلى الله عليه وسلم يوما يعرق جبينه وهو في عمل، وجعل عرقه يتلألأ نورا، فقالت له: لو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره فقال لها: وما يقول يا عائشة أبو كبير؟ قالت: يقول:
ومبرأ من كل غير حيضة ... وفساد مرضعة وداء مغيل
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ... برقت كبرق العارض المتهلهل
فوضع صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليها فقبل ما بين عينيها وقال: جزاك الله يا عائشة خيرا. ما سررت بشيء كسروري بك! ومما تمثلت به فاطمة رضي الله عنها يوم توفي أبوها عليه الصلاة والسلام قول فاطمة
قد كنت لي جبلا ألوذ بظله ... فتركتني أضحى بأجرد ضاحِ
قد كنت ذات حمية ما عشت لي ... أمشي البيرار وكنت أنت جناحي
فاليوم أخضع للذليل وأتقي ... منه وأدفع ظالمي بالراحِ
وإذا دعت قمرية شجنا لها ... يوما على فنن دعوت صباحِ
وأغض من بصري وأعلم إنّه ... قد بان حدّ فوارسي ورماحي
ومما تمثل به علي كرم الله وجهه وهو على المنبر، معنفا للقوم في تقديمهم أبا موسى الأشعري في التحكيم بعد ما حذرهم منه قول دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى ... فلم يستبينوا الرشد إلى ضحى الغدِ
ومما تمثل به معاوية رضي الله عنه قول قيس بن زهير:
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
على لمحة قبيلة يزداد بها الناظر بصيرة على ما ذكرنا في المثل الأول. ولو تتبعنا ما تمثل به الصحابة في الوقائع، والتابعون وهلم جرا لكان وحده موضوعا.
الثاني في المثل الشعري وأقسامه. اعلم إنّ المثل معروف الحقيقة مما قدمنا فيه، وهو يكون نثرا تارة، وذلك أكثره، وقد يكون نظما. فان المثل، وإنّ كان سائرا، لكنه إذا نظم كان أسير له وأسهل على اللسان وأحسن، ثم إنّه قد يقع بيتا كاملا، وقد يقع نصف بيت أو ربعه أو نحو ذلك من الأجزاء. وسئل حماد الراوية بأي شيء فضل النابغة، فقال: إنّ النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت، مثل قوله:
حلفت فلم اترك لنفسك ريبة ... وليس وراء الله للمرء مطلب
بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: وليس وراء الله للمرء مطلب، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: أي الرجال المهذب. ومن ورود المثل بيتا مستقلا قول طرفة مثلا:
لعمرك إنّ الموت ما أخطأ الفتى ... لك الطول المرخى وثنياه باليد
وقول أبي الطيب:
ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى ... عدوا له ما من صداقته بد
وهو كثير. ومن وروده نصف بيت الشطر الثاني من قول الحماسي مثلا:
عليك بالقصد فيما أنت فاعله ... إن التخلق يأتي دونه الخلق
ومن ورده ربعا الربع الأخير من قوله:
ولا يواتيك فيما ناب من حدث ... إلاّ أخو ثقة فأنظر بمن تثق
واعلم إنّه قد لا يتم المثل إلاّ على بيتين، كقول الأول:
إذا المال لم يوجب عليك عطاءه ... صنيعة تقوى أو صديق توافقه
بخلت، وبعض البخل حزم وقوة ... ولم يبتذلك المال إلى حقائقه
وقد لا يتم إلى على اكثر، كقول بعض الأدباء:
لصيد اللخم في البحر ... وصيد الأسد في البر
وقضم الثلج في القر ... ونقل الصخر في الحر
وإقدام على الموت ... وتحويل إلى القبر
لأشهى في طلاب العز ... ممن عاش في الفقر
وقد يكون في البيت الواحد مثلان أو ثلاثة أو أربعة أو اكثر. فمن الأول قول امرئ القيس:
الله أنجح ما طلبت به ... والبر خير حقيبة الرحل
ومن الثاني قول ضابىء بن الحارث:
وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ... ويخطئ في الحرس الفتى ويصيب
ومن الثالث قول الأول:
فالهم فضل وطول العيش منقطع ... والرزق منقسم وروح الله منتظر
ومما فيه خمسة قول بعض الأدباء:
خاطر تفد وأرتد تجد وأكرم تسد ... وانقد تقد وأصغر تعد الأكبرا
ومما فيه ستة قول أبن رشيق:
خذ العفو وأب الضيم واجتنب الأذى ... وأغض تسد وأرفق تنل وأسخ تحمد
الثالث فيما ينبغي له ويستحسن، وهو ثلاثة أشياء: أحدها أن يكون متزنا قائما بنفسه غير محتاج إلى غيره، وذلك إما أن يكون بيتا مستقلا، كقول طرفة السابق، وكقول السموأل:
إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه ... فكل رداء يرتديه جميل
ونحوه وهو كثير. وأما أن يكون جزءا من البيت مستقلا كقول الحماسي السابق، وكقول جميل بن عبد الله:
أرى كل عود نابتا في أرومة ... أبى منبت العيدان أن يتغيرا
فان الشطر الثاني مثل مستقل بالوزن والمعنى، وكذا الأول، أما إن كان جزءا محتاجا غير مستقل، كقول النابغة المذكور:
ولست بمستبق أخا لا تلمه ... على شعث أي الرجال مهذب
فان قوله: أي الرجال المهذب مثل، إلى إنّه محتاج في الوزن إلى ما قبله. وكذا قول الحماسي:
وإن أبيتم فأنا معشر أنف ... لا نطعم الخسف إنّ السم مشروب
فان قوله: إنّ السم مشروب مثل، وليس بمستقل، فهو كله غير مستحسن. ووجهه فيما يظهر لي ما تقدم من أن المثل إنّما نظم ليكون أيسر وأشهر. فإذا كان بيتا مستقلا حسن إنشاده من غير حشو هنالك ولا التباس؛ وإن كان شطرا تام الوزن، حسن أيضاً إنشاده وحده من غير حشو ولا فساد في النظم ولا خروج عن حكم الشعر؛ وإن كان جزءا غير تام الوزن فهو إن انشد البت المحتوى عليه كله كان ما زاد على المثل حشوا مع وقوع الالتباس تارة فيما أريد من البيت إذا لم يتعين المقصود، كما في قول النابغة: أي الرجال المهذب، فانه مثل وباقي البيت أيضاً مثل، وقد لا يدرى أيهما المراد بعينه، وإن كانا يرجعان إلى مقصود واحد. واكثر الأبيات يصح التمثيل بها فيقع الالتباس. وإن لم ينشد البيت كله، بل اقتصر على المثل وحده صار نثرا وبطلت فائدة نظمه. أما ما لا يتم من الأمثال في بيتين أو اكثر كما مر فهو من التام الوزن دون المعنى، وهو عيب التضمين. ويتقوى العيب بكون التضمين بين مبتدأ وخبر، وفعل وفاعل، ونحو ذلك. ويسهل بكونه بين الشرط والجزاء، أو بين القسم والجواب ونحوه. وتفصيله مذكور في علم القوافي.
ثانيهما أن يكون سالما عن التكلف سلسا، تستلذه الأسماع ليكون أوقع له في النفس وأعون على الشيوع. فان الشعر إذا كان متكلفا كان المنثور أحسن منه. وقد يكون التكلف بالإكثار من الأمثال في البيت الواحد أو في القصيدة، فان تعاطي الجمع بين أربعة أمثال في البيت لا يخلو عن تكلف، فضلا عن الخمسة والستة، وكذا في القصيدة. ولذلك قال أبن رشيد في عمدته: وهذه الأشياء في الشعر إنّما هي نبذة تستحسن، ونكت تستطرف، مع القلة وفي الندرة؛ فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة. فلا يجب للشعر أن يكون مثلا كله وحكمة، كشعر صالح بن عبد القدوس: فقد قعد به عن أصحابه وهو يقدمهم في الصناعة، لإكثاره من ذلك. وكذا لا يجب أن يكون استعارة وبديعا كشعر أبي تمام ثم قال: وإنما هرب الحذاق عن هذه الأشياء لمّا تدعو إليه من التكلف لاسيما إن كان في الطبع ايسر شيء من الضعف والتخلف. وأشد ما تكلفه الشاعر صعوبة التشبيه، لمّا يحتاج أليه من شاهد العقل، واقتضاء العيان. ولا ينبغي للشعر أن يكون أيضاً خاليا مغسولا من هذه الحلى فارغا ككثير من شعر أشجع وأشباهه.
ثالثها أن يكون متحرى فيه الصدق وحسن الإصابة. وهذا لا يختص بالمثل الشعري، فان المثل كله أفضله أصدقه وأحكمه وأوجزه؛ وإنّما اشترطت الوجازة احتزازا عن التكلف والإملال: فان قوة البشر غالبا قاصرة عن إيراد الأمثال الطوال من غير تكلف ولا موجب إملال؛ ومن ثم وردت في القرآن الذي هو درجة الإعجاز قصارا وطوالا، وحسنت كلها لانتفاء المانع. فمن القصار قوله تعالى:) كمثل الحمار يحمل أسفارا (ونحوه، ومن الطوال قوله تعالى:) إنما مثل الحياة الدنيا كماءٍ أنزلناهُ من السماءِ (الآية؛ وقوله تعالى:) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرمادٍ اشتدت به الرياح (الآية، و) الذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعةٍ (الآية، ونحو ذلك وهو كثير. وكذا في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وقعت قصارا وطوالا وحسنت لصدورها عن المصطفى الذي هو أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فمن قصارها قولهصلى الله عليه وسلم: الناس كأسنان المشط، وقوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا، ونحو ذلك. ومن طوالها قوله: مثل البخيل والمنافق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد الحديث؛ وقوله: وإنّ مما ينبت الربيع لمّا يقتل حبطا أو يلم إلا أكلة الخضر أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها الحديث وسيأتي الجميع في موضعه مستوفى مشروحا أن شاء الله تعالى.
الرابع في معنى السائر. اعلم إنّه يقال: مثل سائر، سواء كان شعرا أو غيره، وهو من السير في الأرض استعمل في ذهاب المثل وشيوعه في أسماع الناس. ويقال أيضاً: مثل شارد وشرود، وهو من شرود البعير وهو نفوره، واستعمل في شيوع المثل إذا شاع لا يستطاع رده ولا يمكن إخماده. كما لا يستطاع رد الصعب الشرود من الإبل. ولذلك قال زهير يخاطب بني الصيداء، حيث ذهب الحارث بن ورقاء بإبله وغلامه يسار:
فابلغ إن عرضت بهم رسولا ... بني الصيداء إن نفع الجوار
بأن الشعر ليس له مرد ... إذا ورد المياه به التجار
وقال أيضاً:
أولى لهم ثم أولى أن تصيبهم ... مني فواقر لا تبقي لا تبقي ولا تذر
وإن يعلل ركبان الحجيج بهم ... بكل قافية شنعاء تشتهر
قال أبن رشيق: وزعم قوم أن الشرود ما لم يكن له نظير كالشاذ والنادر. فأما قول أبي تمام، وكان إمام الصنعة ورئيسها:
لا تنكروا ضربي له من دونه ... مثلا شرودا في الندى والباس
حين عيب عليه قوله في أبن المعتصم:
إقدام عمر في سماحة حاتم ... في حلم أحنف في ذكاء إياس
فإنه يشهد للقول الأول، لأن المثل بعمرو وحاتم مضروب قديما، وليس بمثل لا نضير له كما زعم الآخر.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
تعليقات (0)