المنشورات

أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب.

لمّا قبض النبي صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار إلى بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فأتاهم أبو بكر وعمر من المهاجرين - رضي الله تعالى عليهم جميعاً - فتكلم أبو بكر، والقصة مشهورة. وتكلم رجل من الأنصار، وفي رواية وهو الحباب بن المنذر فقال: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب، منا أمير ومنكم أمير. والجذيل تصغير جذل بكسر الجيم وتفتح، وبالذال المجمعة الساكنة. والجذل: ما عظم من أصول الشجر أو أصل الشجر وغيرها بعد ذهاب الفرع. والجمع أجذال وجذولة. قال امروء القيس:
كأن على لباتها جمر مصطلي ... أصاب غضا جزلا وكف بالجذال
والجذال أيضاً: عود ينصب للجربى لتحكك به، وهو المقصود هنا. ويقال: هو عود ينصب في مبرك الإبل للتحكك به لتزيل ما عليها من قراد وكل ما لزق بها فتشتفي بذلك، ويكون كالتمرغ للدابة. وقال الراجز:
لاقت على الماء جذيلا واتد
ويضرب مثلا للرجل فيقال: هو جذل محاكة وجذل حكاك. وقال الأصمعي:
قلت لأعرابي: ألك بنون؟ قال: نعم، وخالقهم لم تقم على مثلهم منجبة. قلت صفهم لي. قال: جهم وما جهم! ينصي الوهم، ويصد الدهم، ويفري الصفوف، ويعل السيوف. قلت ثم من؟ قال: غشمشم وما غشمشم! ماله مقسم، وقرنه مجرجم، جذل حكاك ومدرة لكاك. قلت: ثم من؟ قال: عشرب وما عشرب! ليث محرب، وسماهم مقشب؛ ذكره باهر، وخصمه عاثر؛ وفناؤه راحب، وداعيه مجاب. قلت: فصف لي نفسك. قال: ليث أبو ريابل، ركاب معاضل، عساف مجاهل؛ حمال أعباء، ناهض ببزلاء.
قوله: ينضي الوهم أي يهزل الوهم، وهو الجمل الضخم من قوته؛ ويصد الدهم أي يكف الدهم، وهو العدد الكثير من العدو. ويفري الصفوف أي يشقها في القتال مقدما. ويعمل السيف أي يوردها دماء الأقران مرة ثانية من العلل في الشرب.
وقوله: قرنه مجرجم أي مبارزه مجرجم أي مصرع؛ وجذل حكاك أي يستشفي به في الأمور كالجذال المنصوب الذي يستشفي به الإبل الجربى والمدره: لسان القوم. واللكاك: الزحام. والليث المحرب: المغضب، وهو أشد ما يكون؛ والمقشب: المخلوط. والباهر: الغالب. واليابل جمع ريبال يهمز ولا يهمز، وهو الأسد. والمعاضل: الدواهي؛ والعساف: الركاب الطريق على غير هداية. والمجاهل: الفلوات؛ والأعباء: الأثقال؛ والبزلاء: الرأي الجيد، وهو مثل سيأتي. وأما العذيق فهو تصغير عذق، وهو بالفتح: النخلة بحملها، وبالكسر القنو منها. والمقصود هنا الأول. والمرجب: المعظم. يقال: رجبته ترجيبا: عظمته. ومنه رجب لتعظيمهم إياه. ويقال: إنّ فلان لمرجب أي عظيم. وحدث الأصمعي قال: مررت في بلاد بني عامر بحلة في غائط يطؤهم الطريق، فسمعت رجلا ينشد في ظل خيمته له ويقول:
أحقا عباد الله أن لست ناظراً ... إلى قرقرى يوماً وأعلامها الغبرِ
كأنَّ فوأدي كلما مر راكبٌ ... جناحُ غرابٍ رام نهضاً إلى وكرِ
إذا رحلت نحو اليمامة رفقةٌ ... دعاك الهوى واهتاج قلبكَ للذكرِ
فيا راكب الوجناء أبت مسلماً ... ولا زلتَ من ريبِ الحوادثِ في سترِ
إذا ما أتيتَ العرضَ فاهتف بجواهِ ... سقيتَ على شحطِ النوى سبلَ القطرِ
فانك من وادٍ إلى مرجبٍ ... وإن كنت لا تزدار إلا على عفرِ
قال فلما رآني مصغيا إليه أشار إلي فاستأنسني وأنزلني ووضع طعاما فقلت: أنا إلى غير هذا أحوج، قال: ماذا؟ قلت: تنشدني، قال: أفعل. فلما أصبت من الطعام قلت: الوعد، فأنشدني:
لقد طرقت أمُّ الخشيف وإنها ... إذا صرع القوم الكرى لطروقُ
فيا كبداً يحمى عليها وإنها ... مخافةَ هيضات النوى لخفوقُ
أقام فريقٌ من أناسٍ يودهم ... بذات الغضا قابي وبان فريقُ
لحاجة محزون يظل وقلبه ... رهين ببيضات الحجال صديقُ
تحمان أن هبت لهن عشيةً ... جنوبٌ وأن لاحت لهن بروقُ
كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غدياً على أدمِ الجمال عذوقُ
وفيهن من بخت النساء ربحلةٌ ... تكادُ بها غرُ السحاب يرقُ
هيجانٌ فأما العصُ من أخرياتها ... فوعثٌ وأما خصرها فدقيقُ
فقوله: فإنك من وادٍ إلى مرجبٍ أي معظم. وقوله في القطعة الثانية:
كأن فضول الرقم حين جعلنها ... غديا على أدم الجمال عذوقُ
أي نخلات، جمع عذق وهو النخلة كما ذكرنا قبل، أو قنوانها، وهو تشبيه مشهور عند القدماء، يشبهون الحمول والبرود المرقومة فيها بالنخيل إذا أينع ثمرها فأحمر وأصفر. قال امرؤ القيس:
أو المكرعات من نخيل أبن يامنٍ ... دوين الصفا اللائي يلين المشقرا
سوامق جبارٍ أثيتٍ فروعهُ ... وعالين قنوانا من البسرِ أحمرا
وقال أيضاً:
علوانَ بأنطاكية فوق عقمةٍ ... كجرمة نخلٍ أو كجنة يثربِ
والترجيب في النخل أن يجعل للنخلة دكان تعتمد عليه اة يدعم بشيء إذا كثر حملها لئلا تنكسر. ويسمى ذلك الطكان الرجبة بضم الراء. وقيل أن يغرز الشوك حولها حتى لا يوصل إليها. وقيل أن تضم قنوانها إلى سعفاتها وتشد بالخوص حتى لا ينفضها الريح فيقال: نخلة مرجبة، وعذاق مرجب. ويقال: نخلة رجيبة بتخفيف الجيم وتشديدها.
ليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في سنة الجوائح
ولا يرجب من النخل إلاّ الكريمة. واعلم أن التصغير في كل من الجذيل والعذيق للتعظيم على ما اثبت الكوفيون من ورود التصغير للتعظيم كقول لبيد:
فويق جبيل شامخ لن تناله ... بهمته حتى تكل وتعملا
وقيل للتقريب كما في بني أخي. وقد تحصل في معنى الكلام بجملته إنه يقول: أنا الذي يرجع إليه في النائبات، ويستشفى بفضل رأيه في المعضلات المعوصات، كالجذيل الذي تستشفي بالاحتكاك به الإبل؛ وأنا لي أيضاً عشيرة يحفظوني ويؤووني، وعصبة ينصروني ويمنعوني، كالنخلة الممتنعة برجبتها، الكريمة على أهلها إذ لا يرجب من النخل إلاّ الكرام كما مر. وقد علم اشتمال الكلام على مثلين وليس مثلاً واحداً؛ إلاّ إنّهما يقرن بينهما كثير. وفي مقامات البديع قوله: حتى إذا مال الكلام بنا ميله، وجر الجداك بينا ذيلة، قال أصبتم عذيقة، ووافيتم جذيلة الخ. وقيل معنى أنا جذيلها المحككك أنا صاحب رهان. والمحكك المعاود لها، كما قال الراجز: جذل رهان في ذراعيه حدب أي السير ويقال أيضاً. رجل محكك: أي مجرب للأمور بصير بخيرها وشرّها. وهو مدح في الرجال، ذم في النساء قال الحماسي:
لا تنكحن الدهر ما عشت أيما ... مجربة قد مل منها وملت
ويقال أيضاً: أنا جحيرها المأرب، وعذيقها المجرب. والجحير تصغير جحر وهو الغار؛ والمأرب المقور الململم، ومعناه واضح من الذي قبله.










مصادر و المراجع :

١- زهر الأكم في الأمثال والحكم

المؤلف: الحسن بن مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)

المحقق: د محمد حجي، د محمد الأخضر

الناشر: الشركة الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب

الطبعة: الأولى، 1401 هـ - 1981 م

تعليقات (0)

الأكثر قراءة

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا … ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
المزید
فصبرا في مجال الموت صبرا … فما نيل الخلود بمستطاع
المزید
حننت إلى ريّا ونفسك باعدت … مزارك من ريّا وشعباكما معا
المزید
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل … وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
المزید
إنّ أباها وأبا أباها … قد بلغا في المجد غايتاها
المزید