المنشورات
إنّ البغاث بأرضنا يستنسر
البغاث، مثلث الباء الموحدة في أوله بعدها غين معجمة فثاء مثلثة: طير أغبر؛ ويطلق على شرار الطير كلها، وما لا يصيد منها. قال الشاعر:
إذا كر فيهم كرة افرجوا له ... فرار بغاث الطير صادفن اجدلا
وقال دريد أبن الصمة:
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ
وقال الحماسي:
بغاث الطير أكثرها فراخا ... وأم الصقر مقلات نزورُ
وسيأتي تمام هذا الشعر في محله. واستنسر: صار نسرا، والنسر: الطائر المعروف. وسمي نسرا لأنه ينسر اللحم.
ومعنى المثل إنّ الضعيف من الناس إذا حل بأرضنا ووقع في جوارنا عز بنا وتقوى، كما إنّ البغاث الذي هو ضعاف الطير إذا عاد نسرا فقد تقوى. وقيل معناه، إنّ الضعيف يستضعفنا وتظهر قوته علينا، وعلى هذا إذا أريد الافتخار قيل: إنّ البغاث في أرضنا لا يستنسر.
ولشعر دريد المذكور قصة عجيبة رأيت أن اذكرها، وهي إنّ دريدا خرج في فوارس من قومه بني جشم بن بكر حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة رفع لهم رجل في ناحية الوادي معه ظعينة. فلما رآه دريد قال لفارس من أصحابه: دونك فصح به: خل الظعينة وانج بنفسك! فلحقه الفارس فصاح به وألح عليه، فلما أبى أن ينكف عنه ألقى زمام الراحلة وقال للظعينة:
سيري على رسلك سير الآمن ... سير رداح ذات جأش ساكنِ
إنّ أنثنائي دون قرني شائني ... أبلى بلائي واخبري وعايني
ثم حمل على الفارس فطعنه طعنة جعلته كأمس الدابر وأخذ فرسه وأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر لينظر ما فعل صاحبه، فلما انتهى إليه فرآه صريعا صاح على الرجل فتصامم عنه فظن أن لم يسمع فغشيه. فالقى الرجل زمام الراحلة إلى الظعينة ورجع إليه وهو يقول:
خل سبيل الحرة المنيعة ... انك لاقٍ دونها ربيعه
في كفه خطية مطيعة ... أولا فخذها طعنة سريعه
والطعن مني في الوغى شريعة
ثم حمل عليه فصرعه. فلما أبطأ الأمر على دريد بعث فارسا ثالثا لينظر ما صنعا، فلما انتهى إليهما رآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته ويجر رمحه فقال له: خل سبيل الظعينة! فقال الرجل للظعينة: اقصدي قصد البيوت! ثم اقبل على الفارس فقال:
ماذا تريد من شتيم عابس ... ألم تر الفارس بعد الفارس
أرداهما عامل رمح يابس
ثم حمل عليه فصرعه وأنكسر رمحه. ثم إنّ دريدا ارتاب وظن إنّ الفوارس قتلوا الرجل وذهبوا بالظعينة، فجاء حتى لحق بالرجل وقد دنا من الحي، ووجد أصحابه صرعى فقال له: أيهما الرجل، إنّ مثلك لا يقتل، ولا أرى معك رمحا، والخيل ثائرة بأصحابها. فخذ رمحي هذا، فأني منصرف إلى أصحابي فمثبطهم عنك. فرجع دريد إلى أصحابه وقال لهم: إنّ صاحب الظعينة قد حماها وقد قتل أصحابكم وأنتزع رمحي ولا مطمع لكم فيه، فانصرفوا، فقال دريد بن الصمة:
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... حامي الظعينة فارسا لم يقتلِ
أردى فوارس لم يكونوا نهزة ... ثم استمر كأنه لم يفعلِ
متهلهلا تبدو أسره وجهه ... مثل الحسام جاءته كف الصيقلِ
يزجي ظعينة ويسحب ذيله ... متوهجاً يمناه نحو المنزلِ
وترى الفوارس من مخافة رمحه ... مثل البغاث خشين وقع الأجدلِ
يا ليت شعري من أبوه وأمه ... يا صاح من يكُ مثله لا يجهلِ
وقال صاحب الظعينة في ذلك، وهو ربيعة بن مكدم، أحد بني فراس بن كنانة:
إن كان ينفعك اليقين فسائلي ... عني الظعينة يوم وادي الأخرمِ
إذ هي لأوّل من أتاها نهبة ... لولا طعان ربيعة بن مكدمِ
إذ قال لي أنى الفوارس ميتة ... خل الظعينة طائعا لا تندمِ
فصرفت راحلة الظعينة نحوه ... عمدا ليعلم بعض ما لم يعلمِ
وهتكت بالرمح الطويل أهابه ... فهوى صريعا لليدين وللفمِ
ومنحت آخر بعده جياشة ... نجلاء فارغة كشدق الأضجمِ
ولقد شفعتهما بآخر ثالثا ... وأبى الفرار لي الغداة تكرمي
ثم لم تلبث كنانة أن أغارت على بني جشم، فقتلوا وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نفسه. فبينما هو عندهم محبوس إذ جاءته نسوة يتهادين نحوه، فصاحت إحداهن وقالت: هلكتم وأهلتم. ماذا جر عليها قومها؟ هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة! فألقت عليه رداءها وقالت: يا آل فراس! أنا له جارة. فسألوه من هو فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي؟ قالوا: ربيعة بن مكدم. قال: فما فعل؟ قالوا: قتلته سليم، قال: فما فعلت الظعينة؟ قالت المرأة أنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم ووامروا أنفسهم. فقال بعضهم: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال آخرون: والله لا يخرج من أيدينا إلاّ برضى المخارق الذي أسره. فلما أمست المرأة، وهي ريطة بنت جذل الطعان، رفعت عقيرتها وقالت:
سنجزي دريدا عن ربيعة نعمة ... وكل امرئ يجزى بما كان قدما
فإنَ كان خيرا كان خيرا جزاؤه ... وإنّ كان شرا كان شرا مذمما
سنجزيه نعمى لم تكن بصغيرة ... بإعطائه الرمح الطويل المقومى
فقد أدركت كفاه فينا جزاءه ... وأهل بأن يجزى الذي كان أنعما
فلا تكفروه حق نعماه فيكم ... ولا تركبوا تلك التي تملأ الفما
فلو كان حيا لم يضق بثوابه ... ذراعا غنيا كان أو كان معدما
ففكوا دريدا من إسار مخارقٍ ... ولا تجعلوا البؤسى إلى الشر سلما
فلما أصبحوا وأطلقوه، فكسته وجهزته ولحق بقومه. ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك. قلت: وفي بني فراس هؤلاء يقول علي كرم الله وجهه مخاطبا لأهل العراق إذ تخاذلوا عنه: يا ليت لي من بني فراس واحدا بعشرة منكم صرف الدينار بالدرهم!.
ولربيعة المذكور قصة أخرى في حماية الظعن تأتي في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
1 مايو 2024
تعليقات (0)