ولا يخفى إنَّ هذا المثل حقه إنَّ يذكر في غير هذا الباب لكن الواو لمّا استهلكت بالإبدال اعتبرنا الظاهر تقريبا. وداحس بالدال المهملة على وزن فاعل من الدحس وهو الدفع. وسنئتي بذلك لأن أباه ذا العقال وهو فرس كان لرجل يسمى حوطا خرجت به جاريتان له يومان تقودانه فمرتا به على فرس أنثى لقرواش تسمى جلواء وهي إذ ذاك وديق والو الديق بالدال المهملة: المشتهية الفحل ومنه المثل الآتي: ودق العير إلى الماء فلما رآها ذو العقال ودق. فضحك شباب منهم فاستحيت الجاريتان فأرسلتا مقوده فزنا عليه. فلما جاء حوط وكان رجلا سيئ الخلق عرف النزو في عين ذي العقال فغضب وقال: أعطوني ماء فحلي فلما رأوا الخطب قد عظم قالوا: دونك وماء فحلك فأخذ الفرس وجعل يده في الماء والتراب وادخل اليد في رحمها حتى إنّه استخرج الماء. وقد اشتملت الرحم على ما فيها فنتجت قروش مهرا اسمه داحسا لدحس حوط إياه وخرج كأنه ذو العقال أبوه. ثم إنَّ قيس بن زهير أغار على بني يربوع فغنم فرأى داحس قد ركبه فتيان فقطعها الخيل ونجوا. فاعجب به قيس ودعا إلى إنَّ يجعله فداء المغنم كله. فأطوه إياه وكان سبب الحروب حتى قيل: أشأم من داحس وسيأتي. والخطار بفتح الخاء المعجمة وتشديد الطاء المهملة بعدها ألف فراء وهم فرس لحذيفة والحنفاء: فرس له أيضاً تأنيث الأحنف. والحنف قيل هو الاعوجاج في الرجل وقيل أن يقبل إحدى إبهامي الرجل على الأخرى وقيل ميل في صدور القدم وقيل المشي على ظهر القدمين من شق الخنصر.
ويذكر في هذه القصة أيضاً أن حذيفة أجرى قرزلا والقرزل بالقاف والراء والزاي على وزن جحذب وهو فرس لحذيفة أيضاً ويحتمل إنّه الخطار المذكور. وقد قيل في هذه القصة إنَّ الصحيح إنَّ الرهان إنّما وقع بين قيس وحمل بن بدر لا حذيفة وإنَّ فرس قيس داحس وفرس حمل الغرباء. وفي القصة اضطرابات كثيرة اضربنا عنها. والهباء بفتح الهاء ثم باء موحدة وبعد الألف همزة مقلوبة عن واو ثم هاء التأنيث وهي أرض لغطفان فيها ماء. وفي الفرسين يقول عنترة بن معاوية بن شداد العبسي يرثي مالك بن زهير:
لله عين من رأى مثل مالك ... عقير قوم إنَّ جرى فرسان
فليتهما لم يجريا نصف غلوة ... وليتهما لم يرسلا لرهان
وليتها ماتا جميعا ببلدة ... وأخطاهما قيس فلا يريان
وكان لهى الهيجاء يحمى ذماره ... ويضرب عند الكرب كل بنان
لقد جلبا حينا وحربا عظيمة ... تبيد سراة الحي من غطفان
وقال الربيع بن زياد أيضاً عم مالك المذكور يرثيه:
إني أرقت فلم اغمض حار ... من سيء النبل الجليل الساري
من مثله يمشي النساء حواسرا ... وتقوم معولة مع الأسحار
أبعد مقتل مالك بن زهير ... ترجوا النساء عواقب الأطهار؟
ما أن أرى في قتله لذوي النهى ... إلاّ المطي تشد والاكوار
ومجنبات ما يذقن عذوقة ... يقذفن بالمهرات والامهار
ومسارعا صدأ الحديد عليهم ... فكأنما طلب الموجوه يقار
من كل سرور بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسر يندبنه ... قد قمن قبل تبلج الأسحار
قد كن يخبأن الوجوه تسترا ... فالآن حين بدون للنظار
يضربن حر وجوههن على فتى ... عف الشمائل طيب الأخبار
قوله: حار أراد يا حارث قوله: ترجوا النساء عواقب الأطهار يريد إنَّ النساء لا يأتين بمثله وفي عروض هذا البيت عيب القطع وهو لا يجوز إلاّ مع التصريع. والمنجبات: خيل يركبون الإبل فيقودونها هي لا يركبونها إلى موضع الغارة لتجم. ويقال ما ذقت عذوفا بالذال المعجمة وتهمل في لغة ربيعة وبالفاء أي شيء. ويقال عذوقا وعذوقة فإنَ كانت الرواية بغير هاء التأنيث ففي هذا العروض أيضاً عيب السابق. والمساعر جمع مسعر وهو الذي يسعر الحرب. قوله: قد قمن قبل تبلج الأسحار هكذا في الرواية. والجملة حال أي بجد النساء عند وصوله يندبنه وقد كن قمن إلى ذلك من الليل قبل تبلج الأسحار واستمررن على البكاء إلى وقت مجيئه. ويروى: يندبنه بالصبح قبل تبلج الأسحار. وقالوا يعني بالصبح هنا الحق والأمر الجلي وليس بظرف. ولا بد فيه مع ذلك من التقدير الذي في الرواية الأولى. ويصح إنَّ يكون الصبح أطلق على آخر الليل لقربه منه مجازا أو يكون على بابه. وقوله قبل تبلج الأسحار معمول لفعل مقدر كما في الرواية الأولى أو معمول ليندبه. ويكون بالصبح معمولا لحواسر على الألف والنشر مع تكلف. وأفاد بالبيتين انهم أدركوا ثأرهم لأن القتيل عند العرب لا يبكى حتى يؤخذ بثأره. وقال قيس بن زهير يرثي حمل بن بدر وهو أوّل من رثى مقتوله:
تعلم إنَّ خير الناس ميت ... على جفر الهباء لا يريم
ولولا ظلمه مازلت أبكي ... عليه الدهر ما بدت النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر ... بغنى والبغي مرتعه وخيم
أظن الحلم دل علي قومي ... وقد يستجهل الرجل الحليم
ومارست الرجال ومارسوني: ... فمعوج علي ومستقيم
وفي ذلك قال أيضاً:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
قتلت باخوتي سادات قومي ... وهم كانوا لنا حلي الزمان
فإن أك قد بردت بهم غليلي ... فلم اقطع بهم إلاّ بناني
فائدة: حمل بن بدر المذكور بفتح الحاء المهملة وفتح الميم على لفظ ولد الضان. وفيه قال الشاعر:
ليت شعري يلحق الهيجا حمل ... ما احسن الموت إذا حان الأجل
وتمثل بهذا الشعر فيما ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه يوم الخندق. قال البكري: وفي همدان حمل بن زياد بن حسان بفتح الحاء وضم الميم وقي مدحج جمل كنانة بفتح الجيم والميم كلفظ واحد الجمال وفي كنانة خمل بن شق يعني بالخاء المعجمة مضمومة وتسكين الميم والله اعلم.
وأما سبب الصلح بينهم على الحارث بن عوف فهو إنَّ الحارث قال يوما لخارجة بن سنان: أتراني اخطب إلى أحد من العرب فيردني؟ قال: ومن هو؟ أوس بن حارثة في بلاده. فلما رأى الحارث قال: مرحبا بك يا حار قال: ويك! قال: وما حاجتك؟ قال: جئتك خاطبا. قال: ليست هناك فانصرف ولم يكلمه. ودخل أوس إلى امرأته مغصبا وكانت من عبس فقالت: من الرجل الذي وقف عليك؟ قال: ذاك سيد العرب الحارث بن عوف. قالت: فما لك لم تستنزله؟ قال إنّه استمحق. قالت: وكيف؟ قال: جاءني خاطبا. قالت: أف تريد تزويج بناتك؟ قال: نعم! قالت: فإذا لم تزوج سيد العرب فمن؟ قال: قد كان ذاك. قالت: فتدرك ما كان منك! قال بماذا؟ قالت: بأن تلحقه فترده. قال: وكيف وقد فرط مني ما فرط إليه؟ قالت: تقول انك لقيتني مغضبا بأمر. فانصرف ولك عندي ما تحب فانه سيفعل فركب حارة في أثره. قال خارجة: فو الله إنا لنسير إذ حانت مني التفاتة فرأيته فأقبلت على الحارث وما يكلمني غنا. فقالت: هذا أوس بن حارثة قال: وما نصنع به؟ امض فلما رآنا لا نلتفت صاح: يا حار أربع علي فوقفنا له فكلمه بذاك الكلام فرجع مسرورا. ودخل أوس فقال لامرأته: ادعي لي فلانة كبرى بناته. فأتته فقال: يا بنية هذا الحارث بن عوف سيد من سادات العرب وقد جاء خاطبا. فأردت إنَّ أزوجك منه فما تقولين؟ قالت: لا تفعل قال: ولم؟ قالت: لأني امرأة في وجهي ردة وفي خلقي بعض الحدة ولست بابنة عمه فيرعى رحمي وليس بجارك في البلد فيستحي منك ولا آمن إنَّ يرى مني ما يكره فيطلقني فيكون علي وصمة. قال: قومي بارك الله فيك ثم دعى الوسطى فأجابته بنحو ذلك ثم دعى الصغرى فقال لها قالت: أنت وذلك. قال: إني عرضت ذلك على أختيك فأبتاه. قالت: لكني الجميلة وجها الصناع يدا الحسيبة أبا. فإنَ طلقني فلا أخاف الله عليه. قال: بارك الله عليك ثم خرج إلينا قال: قد زوجتك بهنسة بنت أوس. قال: قد قبلت. أمر أمها إنَّ تهيئها وتصلح من شأنها. ثم أمر ببيت فضرب له وادخله إياه. فلما أدخلت إليه لبث هنيئة ثم خرج ألي فقلت: أفرغت من شأنك؟ قال: لا والله لمّا مددت يدي إليها قالت مه اعند أبي واخوتي؟ هذا لا يكون قال: فأمر بالرحلة فارتحلنا بها معنا فسرنا ما شاء الله ثم قال لي: تقدم فتقدمت فعدل بها عن الطريق فما لبث إنَّ لحقني فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قالت لي: اكما يفعل بالأمة الجليبة والسبية الأخيذة؟ لا والله حتى تنحر الجزور وتذبح الغنم وتدعو العرب وتعمل ما يعمل لمثلي. قال خارجة: فقلت: والله لأري هيئة عقل وإني لأرجو أن تكون المرأة النجيبة. ثم سرنا حتى دخلنا بلادنا. فأحضر الإبل والغنم ثم دخل إليه وخرج. فقلت: أفرغت؟ قال: لا والله قلت: ولم ذلك؟ قال: دخلت عليها أريدها فقلت: قد أحضرنا من المال ما ترين. قالت: والله لقد ذكرت لي من الشرف بما لا أراه فيك قلت: كيف؟ قالت: أتتفرغ لنكاح النساء والعرب يقتل بعضها بعضا؟ تعني عبسا وذبيان قلت: فتقولين ماذا؟ قالت: اخرج إلى هؤلاء القوم فاصلح بينهم ثم ارجع إلى اهلك فلن يفوتك قلت: والله إني لأرى عقل وهمة ولقد قالت قولا فاخرج بنا فخرجنا حتى أتينا القوم فمشينا بينهم بالصلح فاصطلحوا على إنَّ يحسبوا القتلى من الفريقين ثم يؤخذ الفضل ممن هو عليه. فحملنا عنهم الديات وكانت ثلاثة آلاف بعير. وفي هذا الصلح يقول زهير يمدحهما:
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم
يموينا لنعم السيدان وجدتما ... على كل حال من سحيل ومبرم
تداركتما عبس وذبيان بعدما ... تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وعاش الحارث حتى أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم رحمه الله تعالى.
مصادر و المراجع :
١- زهر الأكم في الأمثال
والحكم
المؤلف: الحسن بن
مسعود بن محمد، أبو علي، نور الدين اليوسي (المتوفى: 1102هـ)
المحقق: د محمد
حجي، د محمد الأخضر
الناشر: الشركة
الجديدة - دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب
الطبعة: الأولى،
1401 هـ - 1981 م
تعليقات (0)